السينما، ذلك السحر الذي يسحبك داخله ليبتلعك تمامًا، السحر الذي لا تستطيع منه فكاكًا، أنت مسحور، عيناك معلقتان بالشاشة، وقلبك يخفق بشدة، وعقلك تائه في فضاء مساحته نفس مساحة الشاشة التي تطالعها، أنت خارج الزمن بالمعنى الحرفي، يتجمد الوقت وتنتظر حياتك قليلاً حتى تنتهي من جرعة الإبهار تلك لتعود لصخبك وزحامك بروح أخف وجسد مرتبك وعقل يفكر فيما حدث أمامه منذ قليل، تأتيك الدنيا كلها، تأتيك نفسك، تتكشف حقائق وتعرف المزيد عن كل شيء، يتفتح عقلك بمقدار ما شاهدته، وينفتح قلبك لمشاعر لم تختبرها بجسدك، وتوقن كما في كل مرة أن حياة واحدة لا تكفيك.

الزمن يتطور، لست مجبرًا أن تذهب خارج بيتك لتشاهد فيلمًا، لست مجبرًا أن تجلس متسمرًا أمام التليفزيون عمرًا بأكمله لتنتظر فيلمًا لا يعرضونه على الرغم من أهميته، ولست مجبرًا أن تحلم بالسفر عبر الزمن إلى الثمانينات لتشاهد فيلم «Amadeus» الذي سيستولي عليك تمامًا، تكفيك بضع نقرات على لوحة المفاتيح، وتخفيف الإضاءة قليلاً، ربما توصيل سماعات الأذن، والغرق لمدة ساعتين ونصف في السحر، السحر الذي سيقرب روحك من الاحتراق، والذي سيجعل قلبك يرتجف في مشاهد كثيرة، السحر الذي لا تبطله تعاويذ، والذي لا تريد له أن ينكسر.


في البدء كان المسرح

موسيقى فقط، ربما نوع زاعق من الموسيقى أيضًا، لا يستسيغه العامة، لا يفهمونه أصلاً، ما المبهر في كل هؤلاء المغنين ذوي الحناجر القوية؟ يستطيع أي شخص آخر أن يصرخ مثلهم بل ويصل إلى مستويات أعلى لا يمكن قياسها بوحدة الديسيبل التي يقيسون بها الضوضاء. تلك هي فكرة معظمنا عن فن الأوبرا، الفن الموجه للصفوة والذي لا يفهمه الآخرون، ولكن في الفيلم تكتشف أن الأمر مختلف تمامًا.

يحكي الفيلم حياة الموسيقار «ولفجانج أماديوس موتسارت» من وجهة نظر موسيقار آخر هو «أنتونيو ساليري»، ويدور الفيلم بالطبع في الفترة التي عاشا فيها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في النمسا.

في هذا الفيلم تكتشف أن الأوبرا ليست فنا مقصورًا على السادة، وأنها كانت شكلاً من أشكال فن المسرح، لوحة تنفجر بالطاقة والألوان والأصوات والرقص على المسرح، وأن الموسيقار أو المؤلف الأوبرالي لا يكتب موسيقى فقط، لا ينقش نوتات يغنيها المغنون على المسرح، بل هو أشبه بالمخرج المسرحي، مسرح يقدم للعامة كما يقدم للسادة، ألوان صارخة وممثلون فقراء وآخرون ينتمون إلى بيوت الأوبرا العريقة، مسرح حقيقي يضج بالحياة غير تلك الأوبرا التي لا نعرف عنها شيئًا سوى أنها أصوات فقط.

عالم جديد، لا نعرف عنه شيئًا أو نعرف عنه أقل القليل، ينقلنا الفيلم داخله دون لحظة واحدة من الإملال، رغم أن كل الموسيقى المستخدمة في العروض التي قدمها الفيلم موسيقى أصلية لأوبرات عريقة من تأليف موتسارت وساليري.


الموهبة.. الشغف.. الخطيئة

يختلف تعاطينا مع الأفلام كل حسب توجهاته وخبراته وخلفياته العقلية ومواهبه وكل ذرة في كيانه، هذا الفيلم ينتقي من يحرق أرواحهم على مهل، يجب أن تنتمي إلى فئة معينة من البشر حتى يتم احتراقك بالكامل على مدار ساعتين ونصف هي مدة الفيلم، يجب أن تمتلك موهبة ما، يجب أن تدور حياتك في فلك تلك الموهبة، يجب أن تمتلك وسواسًا قهريًا تجاه العادية، يجب أن تفكر كثيرًا في أنك عادي، وأنك لا تستطيع أن تحصل على المجد كله، يجب أن تفكر أن هناك آخرين أفضل منك، يجب أن تكون حياتك كلها تحت رحمة تلك الموهبة حتى يستطيع الفيلم أن يسيطر عليك تمامًا ويتم الاحتراق بنجاح.

أنتونيو ساليري الذي قام بأداء دوره في الفيلم «إف موراي أبراهام» والحاصل على جائزتي الأوسكار وجولدن جلوب عن دوره هذا، لابد أن يمس في روحك شيئًا ما، الأداء العبقري الذي بإمكانك أن ترى فيه بعدًا فلسفيًا يمثل الإنسان الحائر على الأرض، والذي يجب أن يتمسك بإيمانه حتى لا يتحول لوحش أمام اختبارات الحياة، وبإمكانك أن ترى فيه الموسيقار الذي لا يقبل ألا يكون في مكان موتسارت العظيم الذي يكتب موسيقى بديعة، لا يمكن له هو ساليري أن يكتبها لأن موهبته ليست موهبة موتسارت.

ساليري الذي يحترق برغبته في أن يتفوق على الشاب الموهوب البريء الذي لم يخطئ في حقه وكان خطؤه الوحيد أنه أكثر موهبة منه، ساليري الذي يحقد على موتسارت لدرجة القتل، والذي لا يستطيع حقده هذا أن يعميه عن عظمة موهبة موتسارت، ساليري الذي يحترق بنار شغفه بالموسيقى الذي لا يعرف شغفًا غيره، وبنار خطيئته التي ترى أن موتسارت عدوه الطبيعي الذي لا يجب أن يكون موهوبًا لهذه الدرجة.

يحترق بحقده على نفسه التي لا يمكنها أن تصل لمكانة موتسارت، وحقده على الله الذي لم يمنحه هو هذه الموهبة الخارقة ومنحها لآخر رآه ساليري أتفه من أن يحظى بها، يحترق بكراهيته لموتسارت وحبه الشديد له، يحترق برغبته في أن يزدريه ورغبته في أن يصفق له حتى تدمى كفاه، ساليري المسكين الذي يحمل داخله خطيئته والذي يعادي الله جهرًا لأنه خلقه إنسان يمتلك موهبة وخلق موتسارت موهبة تمشي على قدمين.


العاديون في الأرض

فيلم ترشح لثلاثة وخمسين جائزة وحصل منهم على أربعين، ثمانية منهم جوائز أوسكار، وقيمه معهد الفيلم الأمريكي كالفيلم رقم ثلاثة وخمسين ضمن أفضل مئة فيلم في التاريخ لابد أن يحوي أكثر من مشهد لا ينسى.

أهمهم بالطبع المشهد الذي كان يتلقى فيه ساليري آخر نوتة ألفها موتسارت وهو يموت وأملاها لساليري كي يكتبها عنه، هذا المشهد الذي يجسد الخطيئة الجميلة، العمى الذي يصيب الإنسان المسكين الذي تسيطر عليه خطيئته حتى النهاية، ساليري تتقطع أنفاسه وهو يسمع من موتسارت نوتته الأخيرة، وهو يعرف أنه هو قاتله، وأنه سيسرق هذه النوتة وينسبها لنفسه ويشهرها في وجه الله الذي حرمه موهبة موتسارت، أنفاسه اللاهثة وعيناه المجنونتان وشغفه، رباه، هذا ممثل بارع يعرف كيف ينتزع قلبك من مكانه ويلعب به قليلاً ثم يعيده لمكانه بروية.

أيضًا مشهده وهو عجوز ضعيف، نزيل إحدى المصحات العقلية يجلس أمام القس الذي يحاول أن يخلص روحه، ويسمعه مقاطع من موسيقاه عله يتعرف عليه، ولا يتعرف عليه القس، ثم يعزف قطعة أخيرة فيتهلل وجه القس ويخبره أنه يعرفها، فيتغير وجهه ويجتر مرارة السنوات ويخبره أنه عرفها لأنها ليست له، وأنها للعظيم، موتسارت.

أما مشهده الذي لابد سيعلق بعقلك للأبد، فهو ساليري الهرم المتهدم وهو يفرد ذراعيه كالمصلوب، ويهتف كل العاديين محدودي الموهبة أنه قديسهم الذي حمل عنهم خطيئتهم وبرأهم للأبد، هذا مشهد إعجازي بكل المقاييس، فهذا الكم من المرارة والحسرة لا يتحمله قلب واهن كقلب إنسان، ولم يتحمله قلب ساليري المسكين الذي احترق بخطيئته وصلب على عمود الموهبة ليمنح غفرانًا لكل العاديين في الأرض.

الفيلم رائع، حساس لأقصى درجة، لن تلتقط عينك خطأ واحد في الصورة ولا في التمثيل ولا في السيناريو، فيلم اقترب من الكمال كما اقتربت موهبة موتسارت، وكما اقتربت موهبة أبراهام الذي قام بدور ساليري، وكما لا يمكن أن يكتمل أي منا، نحن البشر المساكين.