«أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك. كما في السماء كذلك على الأرض». أنهت الشابة الجميلة «مرتا حداد» صلاتها الربيّة ورسمت الصليب على صفحة وجهها وهي تعلم أنها لا تحتاج إلى شيء قدر احتياجها لمعونة الرب لها ولحمايتها هي وزوجها «خليل حداد»، الذي كان يحلق لحيته صباحا في أحد الأيام وأخبرها أنه سيذهب إلى أمريكا: أرض الفُرص والأحلام. يذهب خليل حداد إلى أمريكا لاحقا ولا يعود. تترك مرتا «بتاتر» قريتها الصغيرة في جبل لبنان، «بتاتر» القريبة من «عاليه وبحمدون» وتخبر خالها الأميّ أنها اشترت التذكرة التي تلزمها لركوب السفينة الذاهبة إلى أمريكا، ستذهب كي تبحث عن خليل، صلّت لخالها وابنه الجميل «نعوم»، قفلت بيتها الصغير وودعت أشجارها والأوراق الصفراء التي تجد طريقها دوماً إلى عتبة المنزل وانطلقت نحو الجزء الآخر من العالم.

«ربيع جابر»، الروائي الذي لا نرى منه سوى أعماله الأدبية، وبالكاد نستطيع أن نجد له صورة أو حديث صحفي. وقد أجاب عن سبب عزلته هذه في إحدى المقابلات الصحفية النادرة معه: «لا يشعر الكاتب بالعزلة وهو قاعد وحده يكتب. يشعر أنه محضون بالأصدقاء، يشعر أن أجمل وأنبل ما في الإنسان يتحرك على مسافة قريبة»، يقرر هذا «الربيع» أن يذهب إلى أمريكا في رحلة شفائية من الاكتئاب الذي يُلازم الكُتّاب حينما ينتهون من عمل روائي ضخم، يشعرون بعده كالذي سقط من نومه فجأة على أرض صلبة باردة بعد أن كان يحلم بممالك فتحها وبشعوب تصغي إليه وتطيعه، ويُخبر الموظفة التي تعمل في السفارة الأمريكية في بيروت أنه يحتاج التأشيرة إلى أمريكا لأنه يقوم بكتابة كتاب عن حياة «هرمان ملفل»، بالطبع قد اختلق هذا وحصل على الفيزا بلمح البصر!

تُبحر الباخرة بـ«مرتا» الصغيرة، تختفي اليابسة من حولها وتصبح «بتاتر» أبعد من خيالها، تُصلي مرتا ألا تضع المرأة عليها إشارة الــ(x) التي تعني أنها لن تدخل إلى البلاد الأمريكية وستعود أدراجها من (إليس إيلاند) إلى بتاتر.

تتشعب الرواية وتبدأ حكاية مرتا التي تبدأ البحث عن زوجها «خليل حداد» وتأخذ الأحداث مجرًى مختلفًا، وتظهر شخصيات أخرى على السطح أهمها: «جوزيف أسطفان»، السوري الذي يأخذ بيد مرتا وينقذها من التضور جوعا، و«علي جابر» الذي تختلف حياة مرتا كليا بعد أن تلتقيه، وغيرها من الشخصيات التي تظهر في الحي السوري في نيويورك، حيث كان معظم العرب المهاجرين من سوريا الكُبرى يتجمعون، وتعمل الغالبية العظمى بمهنة «الكشاشة» أي البيع بالتجوال، والتي تحترفها مرتا وتبني ثروتها وأعمالها منها.

الكثير من الروايات يمكن اختصار أحداثها بفقرة أو فقرتين، إلا أن الحال مُختلف في رواية «أميركا» لربيع جابر، فذهن هذا الكاتب يتشعب ويتوسع وتتداخل شخصياته وأمكنته، ولكل شخصية مجموعة من الأحداث الخاصة، مما يُعزز فردانيّة شخصياته ويوطد علاقتها بالقارئ، كما أن اعتناء جابر بالتفاصيل يساعد القارئ على بناء مسرح ذهني للأحداث وأشكال الشخصيات مما يجعل وقع الحكاية على ذهن المُتلقي واقعيا وقريبا.

في رواية «أميركا» يبني جابر مُختبره الإنساني على شخصياته مُرتكزا على ثلاثة أحداث رئيسية: الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، والأزمة الاقتصادية العالمية، ويُمرر تلك التحولات العظيمة على حياة شخصياته ومشاعرهم ونضالهم، وبالعادة يلتزم الكاتب موقع الراوي في الرواية أو يوكل المهمة لأحد أبطال رواياته أو يجعلها متداولة بين عدة شخصيات، تروي كل شخصية الأحداث من وجهة نظرها.

أما في رواية «أميركا» فسيتحدث فيها الراوي، ومرتا، وجوزيف أسطفان، وخليل حداد، والحاجة ماري، وعلي جابر، وغيرها من الشخصيات، وستجد ربيع جابر نفسه يتجول في أنحاء الرواية ويترك تعليقًا أو تساؤلا هنا وهناك! وهذا يدل على ثقة وتمكن من الكاتب، من شخصيته أولا، ومما يكتب ثانيًا، فهو يعلم أن حضوره فجأة هكذا في الرواية سيكون له وقع ظريف على القارئ، لأن ربيع جابر الحكّاء والفنان الرقيق يعلم تمامًا ماذا يفعل حينما يفعله.

يصعب على قارئ رواية «أميركا» ألا يستحضر هجرات السوريين الحالية إلى أوروبا، وسيجد الكثير من التشابه بين أسباب رحيلهم عن سوريا الكبرى عام 1918 وأسباب هجرتهم الحالية، ففي أوائل القرن الماضي كان الجراد يغزو البلاد على حين غرة، بالوقت الذي يعود فيه المهاجرين إلى أمريكا مُحملين بقلائد الذهب ويدخلون فيها على تلك القرى البسيطة التي يسيل لعاب شبابها حينما يرون آثار الهجرة الباذخة على أقرانهم.

وكذلك سيجد شبها عظيما في طريقة الهجرة عبر البحر، والظروف الصعبة التي يواجهونها وهم في خضم البحر، كذلك القلق والتوجس من الأراضي الجديدة ومحاولة الاندماج مع النسيج الاجتماعي والاقتصادي للوطن الجديد. ستمر سوريا وتاريخ شعبها من أمام القارئ عدة مرات وربما يبكي قليلا عندما تفقد مرتا إيمانها وتتوقف عن الصلاة، ولكن ربيع جابر يأبى أن ينهي حكايتها وحكاية سوريا هكذا، ويُرجع لمرتا إحساسها بالرب والملائكة في لحظة وجد صوفي صادقة، لتستمر مرتا حداد بعدها بالصلاة: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك. كما في السماء كذلك على الأرض».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.