مزيج من النزعات العدائية المتأصلة في التاريخ والثقافة الأمريكية، تمثلها شخصية دونالد ترامب

المتابعون لحملته الانتخابية خلصوا إلى وجود أوجه شبه بينه وبين الحكام المستبدين داخل أمريكا أو خارجها على مدار التاريخ فترامب بنظرهم يمثل النموذج الفاشي، مثل الزعيم النازي أدولف هتلر، والإيطالي موسوليني، بينما رآه آخرون أشبه بالديماجوجيين الأمريكيين السابقين أمثال الأب تشارليز كافلين (الذي نشر الفاشية بين الأمريكيين) أو سيناتور ولاية ويسكونسن الجمهوري جوزيف مكارثي أو حاكم ولاية ألاباما الديمقراطي جورج والاس.ورأيٌ ثالث يرى «الملياردير البرتقالي» النسخة الأمريكية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبان.

المؤرخ الأمريكي، ميشيل كازين، كان له رأيٌ آخر، بعيدًا عن كل هذا، فترامب -كما يراه ميشيل- يحملُ تشابهًا ضئيلا مع هؤلاء جميعا، فهو لا يُبدي أية رغبة في إقامة دولة عسكرية تلغي نظام الانتخابات الحرة وتقوم بسجن أو إعدام منتقديها على غرار الحكام المستبدين السابقين في ألمانيا وإيطاليا. ولا يتشابه مع ما يتصف به «كافلين» من تعصب ديني، أو شغف «مكارثي» باتهام المسئولين الفيدراليين بالخيانة العظمى.كما أنه ثمة تناقض صارخ بين «جورج والاس» المولع بمحاربة النخب المسالمة في المجتمع الأمريكي، وبين ترامب قُطب العقارات الذي يتفاخر دائمًا بكم الأموال التي صنعها وأيضًا كم الشهرة التي يحظى بها.

دونالد ترامب يجمع بين نزعات عدائية متجذرة في الثقافة والتاريخ الأمريكيين، والتي أبرزها معاداة الأجانب والشعبوية

فظاهرة ترامب، كما يصفها ميشيل، تجمع مزيجًا من ثلاث نزعات مختلفة في التاريخ والثقافة الأمريكية، أولها وأبرزها هو العداء للمهاجرين الذين يبدو وأن هوياتهم الدينية والعرقية تصطدم بهويات الأغلبية البيضاء من مواطني البلد.ويستدل ميشيل على رأيه بما حدث خلال خمسينيات القرن التاسع عشر، حيث وجّه الحزب الأمريكي الذي كان يطلق عليه معارضوه «حزب لا أدري» اتهامات إلى الكاثوليكيين الألمان والأيرلنديين بأنهم عملاء للبابا ويمثلون تهديدًا للحكومة التي يحكمها الجمهوريون.«ثم لاحقًا خلال القرن نفسه، قاد العمال البيض في ساحل المحيط الهادئ حملة شرسة ضد الوافدين الصينيين، حيث ألقوا باللوم عليهم في خفض الأجور وانتشار الأمراض، كما منع النواب الفيدراليون العمال الصينيين من دخول الولايات المتحدة».وخلال عشرينيات القرن الماضي، تسببت المخاوف من احتمال عداء السلافيين (سكان أوروبا الوسطى والشرقية) واليهود والإيطاليين وجنسيات أخرى تجاه تراث أمريكا الإسكندنافي، في إقناع الكونجرس بفرض نظام محاصصة يقلل من عدد المهاجرين القادمين من شرق وجنوب أوروبا وهو ما يُعرف بـ (قانون الهجرة لعام 1924).ويخلص ميشيل، بناءً على ما تقدّم، إلى أن سلوكيات ترامب تتشابه مع هذه العادات «المشينة»، والتي تتضح جليًا في هجومه على «المغتصبين والقتلة» الذين يعبرون الحدود الجنوبية، وأيضًا على الإرهابيين المحتملين من المسلمين، الذين يعبرون عبر المحيط الأطلنطي.


أما النزعة الثانية فهي ازدراء ترامب للسلطات الحاكمة، وهو يحاكي في ذلك الشعبويين الأمريكيين في الماضي، مستشهدًا بتصريحات وليام جيننجز بريان وزير خارجية أمريكا الأسبق، وأحد عناصر القوة المهيمنة على الجناح الشعبوي داخل الحزب الديمقراطي، وهي التصريحات التي أطلقها قبل تولي منصبه وتحديدا عام 1896.«إننا نحارب للدفاع عن بيوتنا وعائلاتنا والأجيال القادمة، لقد توسلنا إلى السلطات ولم نلقَ منهم سوى الاستهزاء والتجاهل والسخرية مما نعانيه، لن نتوسل إلى أحد، وسنتحداهم».في ذلك الصدد، نجد ازدراء ترامب للسياسيين داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ووصفه لهم بأنهم «أغبياء» و «غير أكفاء»، هو أمر شديد الوقاحة إذ تمت مقارنته مع التصريحات السابقة، لكن المشاعر في الحالتين متشابهة، برأي ميشيل.حتى أن هجمات ترامب تُعد أقل منطقية من الاتهامات التي أطلقها الشعبويون الأصليون خلال العصر الذهبي (أواخر القرن التاسع عشر)، أو حتى تلك الاتهامات التي أطلقها المرشح الديمقراطي للرئاسة بيرني ساندرز. فبالنظر إلى أتباع وليام بريان الشعبويين، سنجدهم ينتقدون أصحاب المناصب الذين أرسلوا قواتهم لإنهاء الإضرابات ولم ينفقوا دولارًا واحدا لمساعدة العاطلين.أما ساندرز فهو ينتقد مستثمري وول ستريت الذين يستغلون ثرواتهم وسلطتهم لإجبار الكونجرس على منحهم عطاءات من أجل رفع القيود التنظيمية المالية، وعندما يتعرض هؤلاء للانهيار، يستغلون سلطتهم وثروتهم مرة أخرى لإجبار الكونجرس على إنقاذهم.بالعودة إلى صديقنا ترامب، ففي الغالب سنجده يسخر من الطبقة الحاكمة نظرًا لعيوبها النفسية المفترضة؛ حيث يزعم أن غالبية السياسيين ضعفاء وغير أمناء أو مشوشين فيما يتعلق بحل الأزمات التي تعاني منها بلاده.
يمثل ترامب الرجل الأمريكي، الثري، يهاجم من يخشونه أو لا يثقون به، ويقدم وعودًا جوفاء لإصلاح الأمور المتعثرة، وهذا المثال متجذر في الثقافة الأمريكية

لمعرفة المزيد:جاكوبين:عندما كانت الفاشية أمريكية! أما فيما يتعلق بشعار حملته الانتخابية «سنجعل أمريكا عظيمة مجددًا»، يتساءل ميشيل عما إذا كان هناك أي توضيح حول ما أو من الذي جعل أمريكا رائعة سابقًا.«جدير بالإشارة؛ أنه بالبحث في الموقع الرسمي الخاص لترامب عن دلالات على ذلك، لن تظهر أي مقترحات تؤكد على احتمالية تحقيق نهضة وطنية لأمريكا، إلا إذا كان هناك إيمان بأن فرض قانون ضرائب مبسط وشن حملة مشددة على الهجرة الشرعية، ترقى إلى درجة مشروع يحقق تغييرًا كبيرًا بالبلاد»، يقول ميشيل.لقد توعد ترامب أيضًا بالتخلص من جميع أعداء أمريكا خارج البلاد. فإذا ما عدنا بالذاكرة إلى عام 1987، نجد أن ترامب كان يردد النغمة العدائية نفسها، فقد أشرف على إصدار إعلانات في صفحات كاملة من الصحف الكبرى يهاجم خلالها ضمنيًا الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ريجان، لكن لم يعره الجمهوريون حينها انتباهًا.وبناء على ما سبق، فإن ترامب ينتمي إلى ذلك النموذج التقليدي المألوف لرجال الأعمال ذائعي الصيت الذين يستغلون ثرواتهم وشهرتم لكسب نفوذ ضخم خلال المناظرات حول مستقبل بلادهم.إن أرباب الصناعة أمثال ليلاند ستانفورد وأندرو كارنيجي والممولين أمثال جاي كوك وجيه.بي مورجان، كان لديهم النفوذ الأكبر في الاقتصاد الأمريكي، ما دعا الصحافة لمتابعة أفعالهم التي سيكون لها عواقب على المدنيين، مثل كسر إضرابات العمال أو التلاعب بالبورصة أو التبرع بملايين الدولارات لأسباب وجيهة.على الرغم من ذلك، لم يحدث أن ترشح أحد من هؤلاء إلى منصب سياسي، لكن الاستثناء الوحيد في هذه القاعدة هو هنري فورد. فمثله مثل ترامب، إذ كان لدى صانع السيارات شغف بالتصريحات السياسية المثيرة للجدل، التي أبقته لفترات طويلة حديث النشرات الإخبارية، ومن ضمن التصريحات المثيرة له بصفته من دعاة السلام إبان الحرب العالمية الأولى، «من وجهة نظري، أن كلمة قاتل يجب أن تُنقش بحروف حمراء اللون على صدر كل جندي مشارك في الحرب».لقد تنقل فورد بين الحزبين الرئيسيين، ففي عام 1918 كان مرشحا للحزب الديمقراطي للحصول على مقعد بمجلس الشيوخ عن ولاية ميتشجن، لكنه لم يحقق الفوز وفي عام 1924، وعلى الرغم من سمعته السيئة، طلب منه الكثير من الجمهوريين أن يرشح نفسه في الانتخابات الرئاسية، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته إحدى المجلات عام 1923 تقدمه على جميع المرشحين المحتملين، لكنه قرر في النهاية ألا يترشح. لقد كان فورد متغطرسًا مثل ترامب لكنه كان يفتقد إلى الطموح السياسي، على الرغم من ذلك لم تكلّ وسائل الإعلام من متابعة أخبار ذلك الرجل.إن ما أثارته حملة ترامب من رهبة داخليًا وخارجيًا تنبع من الدوافع نفسها، التي تتأصل جذورها في الثقافة السياسية الأمريكية، وهي أن رجل ثري مألوف للجميع يهاجم من يخشونه أو لا يثقون به ويقدم وعودًا جوفاء لإصلاح أزمات بلاده.


أنهى ميشيل مقالته التي نشرتها له مجلة فورين أفيرز في العاشر من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي 2015، متنبأً بخسارة ترامب رهان الانتخابات؛ «وجدناه يقوم بكل ذلك بابتسامة متكلفة ووعيد، بل ويتطلع دائمًا إلى احترام من يهاجمهم بشكل متكرر في خطاباته. ربما لن يتم انتخاب دونالد ترامب رئيسا، وإذا حدث فستكون كارثة. لكن بعد أن يغادر ترامب الساحة، سنجد أن ثريا آخر لديه موهبة في إطلاق التصريحات الرنانة ولا يملك رصيدا سياسيا ليدافع عنه، ربما يحل محله».. انتهت مقالة ميشيل ورغم ما ذكره من تحليل عميق للشخصية الأمريكية متمثلةً في ترامب، إلا أن الأمريكيين كان لهم رأي مغاير، ليفوز ترامب بجولته الرئاسية الأولى.