أتذكر مشهدًا من بدايات شبابي لا يبرح ذاكرتي أبدًا تقريبًا، وأظنه لن يفعل، منذ ما يقرب من 10 سنوات، أجلس أنا وصديقتي المقربة وقتها على فراش مهترئ فوق أرضية رملية في خيمة تنيرها لمبة سهاري في أحد المعسكرات الصيفية التابعة للجامعة، ممسكين بالووكمان لنستمع لأغنية «بعد الليالي» لعمرو دياب، والتي لم نكن نستمع لها في الحقيقة، فقد ظللنا نضغط زر الإعادة كلما أنهى جملته الأولى لنستمع إليها من جديد، قضينا الليلة تقريبًا نستمع لجملة واحدة ونتحدث عن كل شيء، الكثير من الساعات والكثير من البطاريات والكثير جدًا من «آآآآآآآآآه بعد الليالي».

بعد عشر سنوات

يوم الثلاثاء الماضي بعد أن فرغ المنزل ونزل كل إلى عمله أو إلى حضانته، وتركوني أتنفس الصعداء وأنا أقوم بطقوس الصباح المعتادة. أتصفح فيسبوك، فأجد الناس جميعًا الذين بدأوا يومهم قبلي يتحدثون عن «عمرو دياب» الذي يغني ليوم الثلاثاء.

الكل يمزح ويشارك النكات ويتحدث عن لعنة التلات التي استدعاها عمرو دياب، آخرون يتحدثون عن روعة الأغنية، وآخرون يسبون عمرو دياب ويؤكدون سقوطه. أنظر في تقويم الهاتف فأجده الثلاثاء فعلًا، أبحث عن الأغنية وأجلس لأشرب قهوتي وأنا أستمع للأغنية.

منذ الجملة الموسيقية الافتتاحية الذي يصاحبها بدندنته اجتذبتني الأغنية، أبهجني لحنها الراقص قبل أن تبدأ الكلمات، ثم بدأ عمرو دياب يغني عن حادثة غريبة حدثت له يوم تلات، عندما استدعاه ثلاث بنات وعزمنه وغنّى ورقصن وفرح الجميع واستمتعوا بيومهم. أغنية خفيفة جدًا، مختلفة طبعًا على عمرو دياب خاصة مع لحنها المقسوم، ولكنها أغنية مبهجة على كل حال.

بعد أن انتهيت من الاستماع للأغنية بحثت عن الكاتب والملحن لأجد اسم عزيز الشافعي كملحن، وتامر حسين كمؤلف. عزيز الشافعي صاحب أعلى ترند في الشهور الماضية مع أغنية «خطوة» لمصطفى حجاج، عزيز الشافعي الذي يفهم الذوق المصري جيدًا، والذي ينجح في كل مرة.

ثم «تامر حسين» الذي كتب مجموعة من أنجح أغنيات عمرو دياب، صاحب الأغنية التي غزت أفراح المصريين العام الماضي ليرقص عليها العروسان رقصتهما الأولى، «باين حبيت أيوة أنا حبيت»، إذن الأغنية حقًا «متكلفة» وليست ضربة حظ.

ترند يوم تلات

تصفحت تعليقات يوتيوب على الأغنية في معظم القنوات التي قامت بنشرها، كل التعليقات تقريبًا تدور حول أنه الهضبة، وهذه العبقرية معتادة منه، وأننا في انتظار الألبوم الكامل.

ورغم السعادة بصدور الأغاني منفردة، إلا أن الجميع ينتظر الألبوم مجمعًا حتى يبدأ الصيف رغم أنه فعليًا أوشك على الانتهاء، واحتفاء غير عادي بكلمات الأغنية وموضوعها، ولفت نظري أحد الأذكياء الذي لاحظ أن الأغنية اسمها «يوم تلات» طرحت يوم الثلاثاء تدور حول ثلاث فتيات ومدة الأغنية ثلاث دقائق وثلاثة وثلاثون ثانية!

أما على فيسبوك فكان الأمر مختلفًا، الجميع يصب غضبه على عمرو دياب الذي انحدر ليساير الواقع ويغني أغنية أقرب إلى الأغنيات الشعبية، بكلمات ركيكة ولحن مقسوم راقص لا يليق بالهضبة.

وانهمرت الكوميكات التي تقارن بين عمرو دياب وهو يعمل على الأغنية و«محمود عبد العزيز» وهو يعمل مع الريس ستاموني ليغني أغنياته الهابطة في فيلم «الكيف»، وآخرون يتعجبون من أن عمرو دياب يغني ليوم التلات الملعون الذي يكرهه الجميع، وكثيرون يقسمون إن الأغنية سوف تنسى بعد طرح الألبوم بعدة أيام ولن يتذكرها أحد، ومحللون يؤكدون أن عمرو دياب انتهى فنيًا وقد كانت أغنية «يوم تلات» شهادة منه بذلك.

في نفس التوقيت ترى فيديوهات منتشرة لحفلات عمرو دياب الصيفية يغني فيها الأغنية لجمهور متحمس وسعيد للغاية، يرددون معه الكلمات رغم أن الأغنية لم يمر على طرحها أكثر من 24 ساعة. هو سعيد بنجاحه المتزايد وترافقه «دينا الشربيني» في معظم الفيديوهات سعيدة بزوجها أنجح مطرب في الوطن العربي، وجمهور سعيد يدفع ثمن تذكرة دخول الحفلة برضا تام، الكل سعيد جدًا بالأغنية ما عدا جمهور الفيس بوك، الذي – تقريبًا – نسي كيف تكون السعادة.

هل هي المرة الأولى؟

بعض المستائين من الأغنية يبررون استيائهم الشديد من أن كلمات الأغنية تافهة ولا تعبر عن أي شيء، مجرد كلمات مقفاة مرصوصة بجانب بعضها، رغم أن تلك ليست المرة الأولى التي يغني فيها عمرو دياب كلمات مقفاة لا تحمل معنى عميقًا، ولكنها مع ذلك، بصوته ومع اللحن، تنجح و«تكسر الدنيا».

هل ينسى أحدنا واحدة من أشهر وأحلى أغنيات عمرو دياب التي غناها مع شاب خالد، كان يقول في أحد الكوبليهات «قلبي الوحيد بلاقيه إنتي الوحيدة فيه»، مع إنه شيء بديهي أن يكون له قلب واحد، رغم أن هذه الأغنية من عمرو دياب التسعينيات الذي يقولون دائمًا إنها كانت فترته الذهبية، وإنه كان بلا نقيصة أو عيب وقتها.

ثم منذ بضع سنوات أغنية «سبت فراغ كبير» عندما يقول «من غيرك بموت واسمي عايش .. حد تاني ببكي من غير صوت وسط دوامة الأماني»، هذا لا يبدو شعرًا غنائيًا، بل لا يبدو شعرًا من الأساس، هو مجرد كلام مقفى عندما تقرأه متجردًا من صوت عمرو دياب ولحن «خليل مصطفى» يبدو ركيكًا جدًا، ولكنها كانت «تريند» في 2013.

ثم إن الحديث عن يوم التلات أحد الدلائل القوية على ذكاء عمرو دياب الذي لا يمكن لأي أحد أيًا كان أن يتهمه بالغباء أو أن يشكك في ذكائه، يوم التلات أصبح ترند على «السوشال ميديا»، الكل يكره يوم الثلاثاء اللعين، يوم الثلاثاء يحمل دائمًا المصائب، يوم الثلاثاء يطيل الأسبوع بلا داعٍ، ثم يأتي عمرو دياب ليغني لهذا اليوم بالتحديد، ويجعله مليئًا بالرقص والدلع والخفة، يصنع ترندًا وحده ليعلي على الترند الأصلي الذي يستخدمه الجميع، هذا ذكاء يجب أن نعترف به، ونعترف أيضًا أن الأغنية لطيفة جدًا، ليست معلقة ولا قصيدة، وليس مطلوبًا منها أن تكون، فيجب ألا نحملها أكثر مما تحتمل.