الكتاب: كيفية صناعة التطرف، التنشئة السياسية ودورها في المجتمع. المؤلف: الدكتور حازم العقيدي. الناشر: العربي للنشر والتوزيع – مصر. سنة النشر: 2016. الحجم: 279 صفحة من القطع الكبير.

خلال سنوات ما بعد الحرب الباردة، وبالتحديد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي حتى اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول (1990 – 2001)، كانت كلمة «الإرهاب» تلخص بدقة الرؤية الغربية لمصادر الخطر الجديد على عالم الغرب/ الشمال، ولاحقًا طرأ تحول تاريخي كبير، وبخاصة بعد ظهور تنظيم ما يسمى: «دولة العراق والشام الإسلامية (داعش)»، تمثل التغير في تحول الغرب من مكافحة «الإرهاب» إلى مكافحة «التطرف».

وبصفة عامة، يغلب على مفهوم التطرف نزعه – غير المقبول منهجيًا – من سياقاته كافة: التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية وربطه – على نحو متعسف – بمدرسة بعينها من مدارس الفقه الإسلامي.


أبناء زمن الحرب

الباحث الدكتور حازم العقيدي اختار أن يجري بحثًا ميدانيًا حول الصلة بين التنشئة السياسية والتطرف، وهو اختار لبحثه عنوان: «كيفية صناعة التطرف: التنشئة السياسية ودورها»، وهو بحسب الباحث: «أول بحث ميداني في التنشئة السياسية يتم تطبيقه على الشباب داخل العراق» (ص8).

ويلفت الباحث النظر إلى حقيقة مهمة هي أن: «الشباب العراقي الذين تقع أعمارهم بين (17 – 25) ولدوا في ذروة حرب طاحنة استغرقت ثماني سنوات (حرب الخليج الأولى)، ثم عاشوا طفولتهم في أجواء حرب أخرى (حرب الخليج الثانية)، وأسفرت عن مقتل الآلاف من أقرانهم وأقاربهم، ثم أطبق الحصار الطويل الذي تسبب بموت مئات الألوف منهم» (ص24).

والعنف في العراق، خلال الفترة المشار إليها، ارتبط بشكل كبير بمناخ «الصراع الدائم» – خطابًا وممارسة – وثقافة الصراع في معظم الحالات تفتح الباب أمام عنف الحاكم والمحكوم معًا، وهو في الحالة العراقية نموذج لدور غياب التنشئة السياسية التعددية السلمية، وحضور الثقافة السياسية القائمة على مركزية الاستبداد، وبالتالي منطق الحشد والتعبئة.

وقد «شكلت فترة حكم الرئيس صدام حسين ظاهرة في تاريخ العراق لما تضمنته من أحداث خطيرة ومتلاحقة ألقت بظلالها على عمليات التنشئة السياسية في تلك الفترة، فضلاً عن أن طريقة إدارة شئون الدولة جعلت من الرئيس حاكمًا مطلقًا للعراق، وتبعات ذلك على مواصفات التنشئة الرسمية في العراق» و«كان التلقين والمركزية من أهم مواصفاتها» (ص206).

وتأتي أهمية الدراسة – في المقام الأول – من أن العراق تحوَّل إلى واحدة من أخطر ساحات العنف بأشكاله المختلفة في العالم. فبعد أشهر قليلة على إطاحة نظام صدام حسين (2003) انطلق عنف رفدته روافد متعددة وأخذ شكل دورات متتابعة من الصعود والهبوط – من حيث وتيرته ونطاق انتشاره – قبل أن يظهر ما يسمى: «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)».

وقد ارتبط العنف السياسي في العراق بعوامل: بعضها آنية تمحورت حول الصراع السياسي/ المذهبي الذي انطلق بعد زوال نظام صدام حسين، وبعضها يبقى ثمرة ثقافة العنف التي حكمت الواقع السياسي طوال حكم صدام حسين تقريبًا. فالعراق لم تكد تشهد سلامًا منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، من الحرب الإيرانية إلى غزو الكويت إلى حرب تحرير الكويت وما تلاها من جولات صراع داخلي بين النظام وكل من: الشيعة في الجنوب، والأكراد في الشمال.

وعليه، فإن «التطرف» بوصفه أحد أسباب ظهور الإرهاب لا يرتبط – على وجه القطع – بخطاب فقهي بعينه، بقدر ما يرتبط بالمناخ العام بمعناه الواسع: السياسي، الثقافي، الاجتماعي.


في التنشئة السياسية

هذا الجيل من الشباب الذي سيتولى بعد حين قيادة العراق ونظامه السياسي، أصبح يمتلك سيكولوجية خاصة ينفرد بها عن الشباب في المجتمعات الأخرى؛ الأمر الذي سينعكس على سلوكه السياسي مستقبلاً، سيما وإن خبرات الطفولة باتفاق جميع علماء النفس تبقى وتؤثر في سلوك الإنسان عندما يكبر. ولعل ما نراه اليوم من مشاهد العنف الدامية المنتشرة كالوباء في شوارع العراق، هي أول الغيث الذي يخشى من آثاره المدمرة إذا تحول إلى سمة ملازمة للشباب في مرحلة تتكون فيها شخصياتهم وتتبلور عقائدهم الاجتماعية والسياسية (ص24).

يعبر مفهوم التنشئة السياسة عن عملية مستمرة تهدف إلى غرس قيم ومبادئ وأفكار وأنماط من السلوك السياسي والاجتماعي والثقافي ينتج عنها مواطن ذو اتجاهات وثقافة سياسية محددة. ورغم كثرة الكتابات النظرية، لم يتوصل الباحثون إلى تعريف مُحدد للتنشئة السياسية يختزل ما يطمحون إليه من معانٍ؛ إذ حاول قسم منهم تعريفها من جهة المنظور الاجتماعي وقسم آخر من الزاوية السياسية، وركز آخرون على الأدوار التي تؤديها أو الأهداف التي تسعى إليها أو الآثار المترتبة عليها.

والتنشئة السياسية من واجبات النظام السياسي لتكوين علاقة إيجابية مع مواطنيه تتسم بالولاء والتأييد وبالتالي اكتساب الشرعية اللازمة لقيادة المجتمع ودفعه إلى مزيد من المشاركة السياسية، لذلك فجميع الجهود التي بُذلت في التنشئة السياسية التي يقوم بها النظام السياسي ستنصب على المحافظة على وجوده واستمراره، فيسعى إلى التدخل في توجيه مناهج التعليم للمراحل الدراسية المبكرة على وجه الخصوص. وقد يتسع هذا التدخل بشكل أكبر ليشمل وسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية كالجامعات والجيش والشرطة، وحتى دور العبادة، وقد يعمل النظام على ترهيب المواطنين عبر عمليات الحرب النفسية التي تجيدها الأنظمة السياسية السلطوية، والدكتاتورية والاستبدادية.

والتنشئة السياسية للفرد تمر بمراحل متعددة طيلة حياته، ابتداءً من الطفولة حتى آخر العمر، ولكل مرحلة خصائصها وميزاتها التي تنفرد بها عن المراحل الأخرى، من حيث الأسلوب المتبع والأدوات المُستخدمة والهدف منها والوسط الاجتماعي والفئة العمرية. ويوضح الكاتب أنه بعد انتهاء الحرب الإيرانية خرج العراق مثقلاً بقروض مالية ضخمة ومشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة أثقلت كاهله، وضغطت بشدة على برامجه التنموية، فضلاً عن الخسائر والتضحيات البشرية التي قدمها الشعب العراقي أثناء الحرب، ويستطرد الكاتب موضحًا أنه على مدى سنوات الحرب العراقية الكويتية تدخلت أمريكا لاتخاذ إجراءات فورية لمعاقبه العراق، فضلًا عن ممارسة شتى أنواع الضغوط الاقتصادية عليه، واستصدار سلسلة قرارات دولية لتشديد الحصار الشامل على شعبه. والتردي الاقتصادي في العراق خلال الحصار أدى إلى عدة نتائج سلبية منها، على سبيل المثال، انخفاض مستوى الدخل الفردى وارتفاع معدلات الفقر، تدهور قيمة العملة العراقية، وانخفاض المستوى الصحي.

وفي البحث الميداني تبين أن الأسرة أتت في المرتبة الأولى في مصادر التنشئة السياسية للشباب العراقي؛ إذ تقوم الأسرة بدور مهم في التنشئة السياسية وغرس القيم السياسية لأبنائها من خلال إتاحتها الفرصة للمناقشة وإبداء الرأي في الأمور السياسية الجارية في العراق، بالإضافة إلى المؤسسات التعليمية التي تعتبر من المصادر الرئيسة للتنشئة السياسية للشباب في العراق. وقد ساهمت برامج التعليم في المؤسسات التعليمية العراقية قبل عام 2003 بقسط وافر من جهود التنشئة السياسية للشباب.

كما كشفت الدراسة وجود بوادر أزمة هوية لدى الشباب العراقي في ظل الاحتلال وتنازع أطر الولاء والهوية، ما بين هوية وطنية ترتكز على الولاء والمواطنة داخل الحدود السياسية للدولة من ناحية والهوية العربية التي ترتكز على التماثل الحضاري واللغوي من ناحية أخرى، وكذلك الهوية الدينية التي ترتكز على العقيدة الدينية، ومثل هذه الأزمة قد تساهم في تنمية مشاعر الاغتراب النفسي والاجتماعي والسياسي، وهذا بدوره كفيل بقتل روح الانتماء واهتزاز هوية الفرد ومحاصرتها.