أحد الخصائص الرئيسية للفن المصري المرئي والمسموع بجميع أنواعه وتصنيفاته هو اغترابه عن لغة الشارع وطريقة كلامه. مثل ابتعاده عن استخدام الألفاظ النابية الدارج استخدامها في الشارع، خصوصًا بين الشباب الذكور. وتتعرض بعض الأفلام لانتقادات لاذعة نتيجة استخدامها المحدود للشتائم، مثال على ذلك فيلم «أولاد رزق» الذي فرضت فيه الضرورة الدرامية استخدام بعض الألفاظ (الأقل حدة من لغة الشارع ولكنها أكثر حدة من الدارج استخدامه في الأفلام) نتيجة وجود ضابط مباحث وكذلك الأبطال النصابون.

ولكن مؤخرا بدأ فتح هذا الجدال، وهو هل يجب أن يكون الفن صادقًا في استخدام ألفاظ ومصطلحات الشارع خصوصًا القبيحة أم لا. فبدأنا نلاحظ استخدامها في بعض الأفلام الوثائقية المستقلة. ولحسن حظ تلك الأفلام أنها تعرض على عدد محدود من الجماهير والنقاد القابل بهذا المبدأ. وبالتالي لم تختبر تعامل المجتمع والرقابة العنيف معها.

ولكن يمكن اعتبار أن البرامج التي يقدمها رسام الكاريكاتير «محمد أنديل»، هي أول اختبار فعلي لاستخدام لغة متحررة أمام نسبة جمهور أوسع وإن مازالت تعتبر محدودة.


أخ كبير: أزيكم يا …

منذ فترة قريبة بدأ موقع «مدى مصر» في عرض حلقات برنامجه الكوميدي الجديد «أخ كبير» والذي يقدمه أنديل. البرنامج مقتبس من حلقات كان يقدمها أنديل بشكل غير منتظم في صفحته الشخصية على اليوتيوب وكانت بعنوان (أزيكم يا….)، هذه العبارة التي ظلت مستخدمه في أخ كبير. وأصبحت من أكثر العبارات انتظارًا من متابعيه. حيث يقدم شخصية «المواطن الشريف» الذي يدافع عن الدولة في كل أفعالها.

أنديل يبدأ برنامجه بعبارة قمعية للمشاهدين، ويبدأ في صنع فلسفة خاصة للقمع بطريقة ساخرة، فنرى حلقة بعنوان (لماذا الحرية غلط)، أو (التعزيب في السجون) – نعم هكذا بخطأ إملائي- وفيهما لا ينفي التهمة، ولكنه يجعلها واجبة بمنطق ديكتاتوري ساخر.

في الحلقات السابقة والتي يبدو أنها صورت في منزل أنديل الخاص، دون تغيير في الديكور أو في مظهره ليناسب طبيعة الشخصية، كانت صورة البرنامج ليست احترافية بالقدر الكافي.

ولكن في نسخة مدى مصر الأحدث أصبح هناك تعريف واضح للشخصية وهو (أخ كبير). وأول ما يلفت النظر هو ديكور «طه بلال» الموفق والمعبر عن انحدار الذوق الساري في تلك الطبقات، والخليط ما بين التدين والوطنية والرؤية القبيحة للديكورات وتصميم المنزل. ففي مساحة قليلة نرى تفاصيل مهمة وموفقة ومتكررة في أغلب البيوت. الكرسي المنجد، و(اللمض) الكهربائية الصغيرة الملونة، والمكتبة المليئة بالكتب الدينية المجلدة مثل رياض الصالحين وتفسير القرآن وخلافه. بالإضافة لعلم النادي الأهلي ولوحة مكتوب عليها (النظافة سلوك حضاري). ومزهرية ورد بلاستيكية. والكثير من التفاصيل الأخري المعتادة للغاية في بيوت المصريين.

بالإضافة لموسيقى «موريس لوقا» الشعبية المميزة، التي تعطي جوا احتفاليا يكاد يكون متكررا في كل المظاهرات المؤيدة للسيسي. ويلبس الأخ الكبير جلبابا خليجيا مع تربية شاربه على طريقة أمناء الشرطة.

نسخة مدى مصر اهتمت كثيرا كما وصفت بالتفاصيل، وهي ساخرة في حد ذاتها قبل أن يتكلم الأخ الكبير. أهم ما يميز البرنامج أنه لا يلجأ لإلقاء النكات على الإطلاق. فهو يتحدث بنفس الأسلوب ويعرض فلسفته المؤيدة للدولة في إهمالها لكل شيء أو استغلال الحوادث الإرهابية لاستمرارية حكمها. فالسخرية ليست مصطنعة والبرنامج لا يريد توجيه النكات.

طور أنديل البرنامج مؤخرا ليتحدث (الأخ الكبير) عن رؤيته لحل مشكلات التعليم والصحة والفقر والأقليات الدينية.


-راضيو- كفر الشيخ الحبيبة

يقدم أنديل في (راضيو كفر الشيخ الحبيبة) شخصية (أستاذ محمد)، وهو شاب ذو لهجة ريفية، أفكاره مليئة بالسذاجة التي تصل للجهل في أحيان كثيرة. ولكنه عادة ما يقول عبارات تبدو كالحكم ولذلك أصبح (الأستاذ) محمد.

شخصية غير تقليدية وربما لم تقدم سابقًا، يشاركه في التفرد شخصية الأستاذ هلال الذي يعيش في الماضي (ربما نتيجة اضطراب في الذاكرة)، وبذكاء ملحوظ تكشف لنا شخصية الأستاذ هلال كيف كانت الأحداث الماضية شديدة الكوميدية/ البؤس من خلال عبارات مثل (هو الريس مرسي مغيرش هشام أنديل، السيسي هينزل الانتخابات..).

على العكس من ذلك تأتي بقية شخصيات البرنامج مغرقة في التقليدية مثل شخصية (عبقويم) الذي يمثل الشكل التقليدي للشاب البلطجي، شديد العصبية والاندفاع والبذاءة. كذلك شخصية أستاذ رمضان وسمير قسطندي،وغيرهما.

بل يمكن القول إن الإطار العام للشخصيات لا يبتعد كثيرًا عن رؤية القاهريين لسكان الأقاليم والريف، رغم أن أنديل من كفر الشيخ فعلا، ولكنه وضح أكثر من مرة أنه كان منفصلا إلى حد كبير في اللهجة ونمط الحياة نتيجة تنشئته في أسرة متعلمة.

ما يمنح البرنامج شكلا غير تقليدي مساحات الحرية في استخدام الألفاظ البذيئة (طبقا لأعراف المجتمع المصري) أو كسر تابوهات جنسية وسياسية ودينية. وما يعزز تلك الحرية ترك مساحة كبيرة للارتجال لضيوف البرنامج. ولكن رغم تقليدية الشخصيات، تكون الأحداث غالبا غير تقليدية، مثل حلقة (السعودية في الحب) والتي قرر فيها أستاذ محمد اتباع سنة الإدارة المصرية و(سعودة) الراديو وبيعه للشيخ (بندر الثبيتي). ويدور هنا حوار ذكي وصارخ وبذيء وهزلي عن ضياع الهوية المصرية.

حاول أنديل تطوير فكرة وأسلوب الراديو أكثر من مرة، ولكن لم تحظَ محاولة تجديد المحتوى في حلقة (التكنولوجية في الحب) بقبول من جماهير البرنامج، وهو ما دفعه لإيقاف البرنامج. ثم عاد مرة أخرى بفكرة جديدة وهي تقديم الحلقات أمام جمهور حقيقي (كبرنامج البرنامج)، وعرض الحلقات في بث مباشر على الإنترنت (صوت وصورة)، مخالفا الأعراف التقليدية لبرامج الراديو. لاقت الفكرة نجاحا كبيرا بل إن العرض الثاني نفدت تذاكره في أقل من يوم.


هل تنتشر مثل هذه المحاولات؟

إن ما يدفع حلقات أنديل للاستمرار هو توجيه البرنامج لجمهوره المستهدف، للمتقبلين لأسلوب أنديل المتمرد على الأعراف الأخلاقية الحازمة التي تضعها أجهزة الدولة الرقابية وفئات كثيرة من المجتمع. وبالتالي مازالت أفكاره لا تتعرض لانتقادات كثيرة، ولكن بالتأكيد إذا أتت الفرصة للخروج من دوائر المتابعين لأنديل وموقع مدى مصر، فبالتأكيد سيواجه البرنامج وصاحبه تحديات كثيرة. سواء من الدولة أو من المتابعين الجدد.

ولكن تظل هذه هي التجربة الأولى التي تقدم لجمهور مقدر بالآلاف بمثل هذه الجرأة، سواء في عرض الأفكار السياسية أو الدينية أو استخدام السباب الشعبي. وفي حالة استمرارية البرنامج ربما يدفع نماذج مشابهة في عرض مادتهم الإعلامية على شبكة الإنترنت. ولكن من المستبعد في المدى القريب أو المتوسط أن تخرج نماذج مشابهة لقنوات التليفزون سواء المصرية أو العربية.