منذ قديم الأزل، وكإله لأشياء عِدّة من بينها المشروبات الكحولية في الأساطير النوردية؛ شرِب (أودين Odin) النبيذ بكميّات هائلة، انحداراً من هذه النقطة، لعب الخمر دوراً مُهماً في بناء ثقافة الشماليين، وطورت الشعوب الإسكندنافية -شعوب شمال أوروبا- عادة الشراب بإلحاح ضروري، وأضحى الخمر عاملاً هاماً لإضفاء طابع رسمي على المناسبات الكُبرى، ناهيك عن التجمعات الودية التي استحضرت الخمر كدُعامة أساسية لبناء أحاديث جانبية، وظلوا محافظين على تلك العادة التي توحي بالود والانفتاح التام حتى اللحظة الحاضرة، في الاجتماعات العائلية ومسامرات الأصدقاء ومشارب الصُحبة، لتترسخ كعادة اجتماعية يجد قاطنو تلك البلاد راحتهم فيها كجُزء أصيل من ثقافتهم، بل يعتزون بها، ويتبارون بإعلاء قيمتها.

وفقاً لدراسة أجرتها مجلة الدراسات النوردية للكحوليات والمُخدرات/NAD حول عادات شُرب الكحول لدى كبار السن، تحديداً بين عُمر 60 عاماً إلى عُمر 79 عاماً، وجِد أن مواطني الدنمارك هم الأكثر استهلاكاً للكحوليات، دلت الدراسة أن 90% من الرجال -كبار السن المذكورين سابقاً- لا يزالون مُستهلكين للكحول بشكل دوري، بينما 85% من النساء بين سن ال 65 إلى 69 عاماً، و78% من النساء بين سن 75 – 79 عاماً تناولن الكحول خلال الاثني عشرة شهراً الماضين.

وفي عام 2015، أجرت The Danish Cancer Society بالتعاون مع TrygFonden smba استطلاعاً عبر الإنترنت، على حوالي 1023 شخصاً تتراوح أعمارهم بين ال 15 و 25 عاماً، أظهر الاستطلاع أن 93% من الفئة المذكورة شربت الكحول و87% كانوا في حالة انتشاء/سكرانين.

يشرب أكثر من سدس الشباب وما يقرب من ربع شابات الفئة المذكورة أكثر من الحدود الآمنة التي حددتها هيئة الصحة الدنماركية، وحوالي ثلاثة أرباع بما يُعادل (73%) من الشباب فعلوا شيئاً يندمون عليه وهم تحت تأثير الكحول. في عام 2018، بلغ مُعدل استهلاك مَن أعمارهم أكثر من 15 عاماً 9.1 لتراً من الكحول النقي للفرد.

تلك الروح الانفجارية للإسكندنافيين هي من حرّضت المُخرِج فنتربيرغ أن يطور سرديته حول الكحول في فيلم Another Round وقبلها في فيلم (الاحتفال) ورُبما في غيرها من الأفلام، حتى أن فينتربيرغ نفسه كان يُفكر في تكريس الفيلم للاحتفاء بالكحول، ولكنه أزاح الفكرة عن رأسه لأنها مُباشرة أكثر من اللازم وغير ناضجة كفاية، وقرر أن يصنع فيلماً عن الإنسان في المقام الأول ومدى انغماره مع الكحول، والحق أن هذه التخيُلات والأقاصيص هي نتيجة لثقافة انفتاح تام على الكحول، ليس كإثمٍ رذيل، أو حتى كشيء غير مُستحب، بل كمُخلّص ومُحرر للآلام الفظيعة غير المُمكنة، لتُشكل السبيل الوحيد للوصول للذروة، للوقوف ضد متوالية من الضغوطات الحياتية والذوبان والرضوخ تحت وطأة الروتين.

دوغما 95 والكحول

على غرار الموجة الفرنسية الجديدة والموجة اليابانية؛ تأسست جماعة دوغما 95 كفعلٍ ثوري وانتفاضة سينمائية ضد الوسط الفني التُجاري المُتسلط، من خلال استدعاء لروح فرانسوا تروفو، بكتابة منافيستو جديد Dogme 95 Manifesto وخلق نوع من العهود أو ما يُسمى نذور الالتزام Vows of Chastity، ينشدون تحرير السينما من ضرورة الاعتماد الكُليّ على الإنتاجات الضخمة، والبُعد التام عن مواقع التصوير المُجهزة والأستوديوهات الداخلية، والمؤثرات البصرية الباهظة.

تأسست الجماعة عام 1995 على يد مُخرجين دنماركيين، توماس فنتربيرغ ولارس فون ترايير، ويُشكّل فعل التأسيس نفسه؛ رد فعل واضح لهيمنة الأستوديوهات على الفن، ليتحوّل الفنان -في وجهة نظرهم – إلى عبد للأستوديوهات التجارية، لذلك انفجرت تلك الموجة المُتطرفة لترُد الفنان إلى مكانه الطبيعي وتُعيد له قيمته المسلوبة، إنها تُرسخ لتحريره من الحُمى الإنتاجية المروّعة، أن قوة الفن في عقل الفنان لا في الإنتاج أو الأستوديو، لذلك تميزت الموجة بواقعية واضحة وميزانيات ضئيلة.

انحلّت الموجة في عام 2005، بيد أن أثرها ما زال موجوداً بشكل واضح في اللُغة السينمائية لمُخرجين مثل فنتربيرغ، ليس في بقايا التقنيّة ومنهجية التصوير فقط، إنما في الثيمة الحكائية ذاتها، والموتيفات الرئيسية، وهذا واضح جداً عند مُقارنة ثيمة الكحول في فيلمي توماس فنتربيرغ، فيلم The Celebration عام 1998، وهو أول فيلم يجمل اسم جماعة دوغما 95، والفيلم الأخير له Another Round، الذي لا يتناول الشراب كثيمة تدفع الحكاية للأمام، ولكن كهيكل محوري للأحداث، أي أن الحكاية تدور داخل إطار فكرة الكحول نفسها، ومدى تأثيرها على الشخصيات، عكس فيلم The Celebration الذي يُركّز على ثيمة الشراب كموتيف يُحرك القصة للأمام، يعتصر الشخصيات ليُصعّد الأحداث ويصنع الدراما.

خلال مُقابلة لفنتربيرغ مع ال BBC، سأله المحاور عن علاقة فيلمه الأخير (جولة أخرى) بأفلامه السابقة، خصوصاً فيلمه الأول (الاحتفال)، فالاثنان يتعاطيان مع ثيمات مُعينة، ويتناولان الكحوليات بطريقة مُتقاربة:

هذا ليس مقصوداً، ولكن من الواضح أنها نوع من البصمة. أعتقد أن للفيلم ملامح مُشتركة مع مسيرتي المهنية بالكامل. يتعلق الأمر بشكل أساسي مع مشروع الدوغما، لأنه يدور حول مجموعة من الأفراد ينخرطون في مشروعٍ دون معرفة عواقبه، إذا كان سينتهي بشكل جيد أم سيئ، ما يخلق حالة من الحُب والتضامن بينهم، لأن المشروع نفسه مُخاطرة. يخدم كأس الخمر في فيلم (الاحتفال) الغرض نفسه، أنه أشبه باتفاق تُبرمه مع نفسك ومع المُحيطين بك: الآن ستخرُج الأمور عن السيطرة. في كلا الفيلمين يتعلق الأمر بالسيطرة. في فيلم (جولة أخرى)، يحاولون عمداً فُقدان السيطرة، لأن شعور السيطرة نفسه يُهيمن على حياتهم، ويجعلهم مقيدين.

هذا يوضح لنا التماس غير المُباشر بين أفلام فينتربيرغ، خصوصاً فيلمه الأول والأخير، ويُرسخ لثيمة الخمر كموتيف ثقافي له قُدرة خارقة على رفع النسق، فالأفكار الأكثر جنوناً تحتاج مساحة من الحُريّة حتى لو كانت كاذبة، وتستلزم اندفاعاً وطاقة انفجارية، وهذا ما يُخلّفه كأس الخمر في شخصيات فيتربيرغ، الجنون بعينه، والجموح والشجاعة اللحظيّة، الأمر أشبه بنوبات غضب وجنون، تطفح ثم يخبو أثرها مع مرور الزمن.

إذا لاحظنا فيلم (الاحتفال) سنجد أن الخمر يعمل كوسيط بين الكتمان والبوح، ويؤسس لنوع من المُكاشفة والانتفاض ضد الخوف، وعليه؛ فكُلما يشرب الابن كأساً إضافية، يكشف عن جُزء خفي من حياته القديمة تورّط والدهُ في جُرمٍ لا يُغتفر، إنه نوع من تسليم الإرادة للخمر، بحيث يتحدث البطل بإرادة مُستقلة، إرادة الثمالة. يأخذ فنتربيرغ هذه الثيمة ويطورها لتُصبح أرضية فيلمه الجديد، ليمنحها مساحة أكبر، ولكنها تحمل نفس السمات تقريباً، الثورة ضد الروتين والانخراط في مُغامرة تحمل في داخلها طبيعة التمرد ضد الواقع، تحمل انكشافاً يُعري الشخصيات نفسها، والمُجتمع بأكمله.

دوغما 95 في فيلمٍ ثمل

على الرغم من حل جماعة دوغما منذ 15 عاماً، فإن روادها لا يزالون يستخدمون أغلب تقنيات دوغما في أفلامهم، ونخص بالذكر هُنا فيلم المُخرج توماس فنتربيرغ Another Round، والذي بحُكم العادة يتم مُقارنته بأغلب أفلام الموجة، من النظرة الأولى نلاحظ استخدام الكاميرا المحمولة باليد/ Handheld Camera في أغلب مشاهد الفيلم، هذا الانطباع الذي يُثيره هذا النوع من اللقطات في نفس المُشاهد يُدنيه للحدث بشكل أفضل ويُعطيه القُدرة على المُشاركة بعينه كأنه هو من يحمل الكاميرا، هذه النصف حركات العشوائية التي تنفلت من يد حامل الكاميرا تؤسس لوعي المُشاهد بشكل أعمق، بجانب اللقطات المتوسطة والقريبة والتي تُرسخ للمُعايشة مع الشخصيات، بالإضافة للتصوير خارج الأستوديوهات والأماكن المُجهزة، والاتجاه للشارع والنزوع للإضاءة الطبيعية في أغلب الأوقات، واختيار المواقع المفتوحة والبحر عندما يكون الأصدقاء مُنتشين؛ كان موفقاً لإعطاء انطباع التحرر من ثقل المسئوليات والتفكير في الحاضر القاسي والمُستقبل الغائم.

التحرر في حد ذاته مَتن دوغما، ينتقل من وسيط بصري إلى آخر، بيد أن الفكرة تظل نفسها حتى لو أخذت شكلاً أقل تطرفاً وراديكالية، ثيمة السعي للتحرر تكررت في أفلام دوغما ويُمكن ملاحظتها في أغلب أفلام توماس فنتربيرغ وحتى لارس فون ترايير، فهي ثمية جوهرية تحمل معها كُل طاقات الجماعة في تكوين صورة مُعينة وتصديرها، سواء تم تقديمها بوضوح على المستوى البصري أو بشكل مُستتر جوهري. ورغم اختلاف ال Mode ومحاولة إبقاء الفيلم في منطقة أقل رمادية من سابقيه، بحيث يكون أقل قتامة وأخف وطأة، مُحاولاً صُنع توازن بين الأبيض والأسود، مُقدماً ثيمة تبدو في خفتها احتفاءً بثقافة الشراب أو الحُرية، بيد أن الاحتفاء بالحياة ليس المغزى من ثيمة الشراب التي يستخدمها أغلب صُناع السينما، فبالنسبة له الشراب مُجرد حجاب يستتر وراءه شيء يتفاقم مع مرور الزمن، مُشكلة وجودية مُعقدة، رُبما نجح في عصرها وتحويلها لزجاجة شراب، بيد أن هذا لا يبسط العالم بقدر ما يحط من شأنه، وتغيير الوسيط لا ينفي وجوده، وهذا ما يود أن يقوله المُخرج.

الأزمة والملل في فيلم جولة أخرى

يقول الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد إن الملل هو أصل/جذر لكُل الشرور، ويُمكننا أن نُلقي الضوء على هذه النقطة باقتباس من كتابه (إما/أو) المنشور عام 1843:

ألَا ما أقسى هذا الملل، مملٌّ بقسوةٍ شديدة، لا يمكنني أن أعبّر بما هو أكثر قوّة وصدقاً؛ إذ لا يتعرّف أحدنا على آلامه إلّا فيمن يشبهه. لو عثرتُ على كلمة أخرى أكثر فخامةً وتعبيراً، لما بذلت كلّ هذا الجُهد. لكنّني أجدني ممدّداً، عاجزاً؛ لا أرَى أمامِي غير الفراغ، لا أتحرّك في غير الفراغ.

هذا الاقتباس يستدعي جلب اقتباس آخر من الفيلم نفسه، ليجتمع الاثنان ويكونا مُقدمات لما سيحدث بعد ذلك، ويأخُذا دور المُشرّع لأفعال البطل (مارتن):

مارتن: هل أصبحت مُملاً؟
الزوجة: ماذا تقصد؟
مارتن: هل تجدينني مُملاً؟
الزوجة: بالمقارنة بماذا؟ عندما كُنت صغيراً؟
مارتن: نعم.
الزوجة: أنت لست نفس مارتن الذي قابلته أول مرّة.

يجد (مارتن) نفسه في مواجهة ذاته القديمة، ذلك الصدام الذي يقع فيه أغلب الناس مع التقدم في السن، مع النظر للخلف/الماضي يجد شخصاً آخر، ينظر لنفسه فلا يجد سوى الباقي من ذاته، مُجرد رثاء لما كان، ومُقدمة باهتة لما سيكون عليه مُستقبلاً، هذا يرجع للفردانية التي غزت المجتمعات الغربية الحداثية، مع مرور الوقت يطور الأولاد شخصيات مستقلة في غير حاجة للآباء، يستهلون مرحلة الاستقلال ومُحاولة الابتعاد، وكذلك الآباء، يتفسخون تحت وطأة العمل، والأنظمة الرأسمالية التي تشغلهم عن مواجهة بعضهم البعض بحقيقية التفسّخ ذاته. ومن هُنا يفقد الإنسان الشغف، يشعر بالملل يحوم حوله، ليس في ذاته، بل يراه على وجوه كُل من يقابلهم، في كُل شيء يلمسه، في كُل كلمة يقولها، مع الوقت يتقبل تلك الحقيقية، حقيقية كونه مُملاً، ويضيع في الشعور بالمكان والزمان، بحيث يسبقه الآخرون، ويفقد القُدرة على مواكبة لُغة حوار نافعة اجتماعياً.

يدور الفيلم حول (مارتن) مُعلم في مدرسة ثانوية، يُدرّس مادة التاريخ، ويشعر فجأة بالخواء يملاً حياته، غير قادر على التواصل اجتماعياً مع من حوله، سواء على المستوى الداخلي في الأسرة، أو المستوى الخارجي أو المِهني والذي يُطالب به كمُدرس له واجبات في تعليم الطلبة بطريقة صحيحة. يتعرّف (مارتن) على آلامه في وجود أصدقائه الذين يمرون بنفس المُعاناة على اختلاف أعمارهم – ثلاثة مُدرسين آخرين يعملون في نفس المدرسة، يشعر المُدرسون بالمسؤولية داخل ذواتهم، بيد أنهم لا يقدرون على التعايش، ويواجهون مشاكل نفسيّة عديدة، تتحول تلك المشاكل التي تبدو صغيرة في أول الأمر إلى مشكلة وجودية تُنغص عليهم حيواتهم، يجتمع الأربعة ويقررون خوض تجربة مُعينة، علها تُخرِجهم من حالتهم المُزرية، بيد أن اندفاع التجريب يحمل معه بعض المُخاطرة، وهذا ما يُضفي على الفيلم طبيعة الخطر، يبدأ أحدهم بحكي نظرية (فيّن سكروديرود – Finn Skårderud) حول الكحول، وأن الإنسان مولود بنقص طبيعي من الكحول، وأن الحد الأدنى للكحول يجب أن يبدأ من 0.05%.

تتحول الخاطرة إلى تجربة في لمح البصر، يتجرد الجميع من الخوف ويجرعون الخمر، بيد أن المُخاطرة هُنا تستوجب الحذر؛ لكي يحافظوا على مُعدل الكحول في أجسادهم يجب أن يجرعوا الكحول في الصباح، في أوقات العمل، وهذا ممنوع قانوناً في المدارس؛ بيد أن هذا لا يُثني الأساتذة الموقرين، وتأتي تجربتهم بنتائج إبداعية هائلة، يسترجعون القُدرة على محاورة الطُلاب وتدريس المناهج بقُدرة ممتازة. لتبدأ مرحلة جديدة من التعاطي بين الأساتذة والحياة، ومع الكحول أيضاً بالضرورة. بدأ الأساتذة يعطون نفسهم حججاً للدخول في مرحلة ثانية من التجربة، ورفع مُعدل الكحول بشكل أكثر، ويضربون أمثالاً لفنّانين وقادة سياسيين يشربون الخمر بشكل يفوق العادة، مثل الكاتب هيمنجواي، وعازف البيانو Klaus Heerfordt الذي على حسب قولهم أَلَفَ تُحفته الموسيقية وهو مُنتشٍ، لم يقف الأمر عند ذلك بل مزج (مارتن) بين حاجته للخمر، وشرحه للدروس، ليقف على أرض مُحايدة يُمكن أن يُرضي بها ضميره، بتقديم ثلاث شخصيات تاريخية يجمعهم حبهم الشديد للخمر.

يقضي الأربعة أوقاتاً مُمتعة مع بعضهم البعض، وتزداد قدرتهم على التواصل مع العالم، بل ويحظى بعضهم بمكانة عظيمة في قلوب الطُلاب، يدفعهم الحماس للمرحلة الثالثة، وهي الانفجار/الاشتعال، ليزداد مُعدل الكحول في الدم لأكثر من 1.5%، والإفراط يلزمه سقوط مدوٍ، واللذة لا تدوم إلى الأبد، يندفع الأصدقاء للاستمتاع بحياتهم، استوحشت إرادة الخمر لتتصرف بمعزل عن رغباتهم المُقننة التي تُناسب حياتهم ومستواهم الاجتماعي والمهني، لصرفوا أنفسهم عن حقيقية الإفراط، ويولّون وجوههم شطر إذكاء شغفهم ومُضاعفة المُتعة والانفلات من الحقيقة، بيد أن الذي حدث بعد ذلك كان انصداماً تردى على إثره الأربعة، فُقدان التحكم في إرادة المُتعة يصنع مُغالاة غير منطقية في الاحتفاء بالحياة.

طوال الفيلم يحاول المُخرج إحداث نوع من الاضطراب عن طريق صُنع خفقات على مدار فترات من الفيلم، كُل خفقة تُصدّر شعوراً من القلق اتجاه النتيجة النهائية، يتم تحفيز المُشاهد بلجوء مؤقت للخمر والموسيقى والرقص، والتحصّن بهم من متاعب الحياة، بيد أن المُشاهد لا يلبث أن يتحقق أن هذا الملاذ شديد الهشاشة، ويستيقن أن هذا الانتشاء ابن ساعته، لا يستطيع الصمود، بل يؤسس لرد فعل عكسي، وهو الاضطراب الناجم عن ترك الكحوليّات، فيستشعر الشخص كُل شيء مُضاعف، الفارغ مُضاعف أمامه، والوحدة مُضاعفة، وهذا ما حدث لأستاذ التربية الرياضية، الذي تعرى أمام ذاته، شخص يقف بطوله في وجه الريح، حتى الأصدقاء لا يستطيعون التخفيف من وطأة هذا الألم، والشعور المتضخم بقلّة المنفعة، فيجد الشخص نفسه في مرمى الأقدار، ويرمي نفسه في أحضان الموت، علّه المُخلّص.

تلازُم بين ثُلاثية

حاول المُخرج أن يصنع نوعاً من التلازم بين ثُلاثية الموسيقى والثمالة والرقص، كأنه يجد شيئاً مُشتركاً بينهم، أهزوجة قرع الكؤوس ولحن الشراب نفسه نص غير مُكتمل، لا يكتمل إلا بحضور أنغام الموسيقى التي تشُد الجسد وتُرخيه بحركات لا إرادية. يتحفز الجسم وتنهمر الطاقة بين أوصاله، فيهبط ويعلو مع الموسيقى الرنانة. حرص المُخرج على وجود هذه العناصر في هذه الأوقات بالذات كتنفيسة يحتفي بها شعب كاملا، وإشارة لأهمية تلك الثُلاثية في حياة الشعب الدنماركي. وإذ نظرنا إلى التاريخ سنجد أن كُل عُنصر من تلك العناصر له أصول وجذور فكرية تاريخية منذ القدم، كان له دور في تأسيس ثقافة الشعب كما هي عليه الآن. حتى أن الحديث نفسه عن الموسيقى -في الفيلم- له أثر في سير الأحداث.

تلك النزعة المؤكدة للثلاثة، استبانت بالمشهد الأخير في إطار حفل التخرّج من المدرسة، وكأنه علامة على خروج الأصدقاء الثلاثة من مأساتهم المُبكية، يحضر الرقص والشراب والموسيقى ثلاثتهم على إيقاع مُنتظم لرقصة مارتن، أو كما نود أن نقول مرثية لصديقه، مرثية راقصة على أنغام الموسيقى ذات إيقاع صاخب، وحضور طاغٍ، رقصة مُكمّلة لجنازة غير مُكتملة، وداع لائق لصديق كان يتمنى أن يحب الحياة. وفتح باب جديد للمُستقبل الذي لا نعرف ما الذي سيحدث فيه. وهذه النهاية تُنافي أغلب نهايات المُخرج توماس فنتربيرغ بيد أنها رغم تلونها بإشراقة وجودية ومعرفة حقيقية للحياة، مُشرّبة بتجربة قاسية وأسى سيظل حاضراً. وأخيراً ستظل التجربة هي ثمن النضج.

الانفلات من المثالية

تحاول مُعالجة فنتربيرغ الانفلات من هالة الثُنائية القيمية للحياة، بحيث لا تقطع بشكل كُلي بخطأ أو صواب، ولا تُحدث انبعاجاً في ماهية الكحول ليُناسب الفيلم، بل يتعرّض له كشيء أساسي، يمُر خلاله يومياً، وينفلت من الحُكم المثالي على الخمر كشيء مُهيج للأعصاب ومُخرّب للإنسان، فيحمل أبطاله صوب مُغامرة رُبما تبدو مروّعة ولكنها مُمتعة، ينتقد العالم الراكد الروتيني عبر متوالية من الأحداث المجنونة، ويتحرك من كون الخمر أليق بالإنسان في صورته الأكثر جنوناً، لأنه يعود في النهاية ليحتفي بالخمر، في المشهد الأخير، ويخلق رقصة شخصٍ ليس ثملاً كفاية ليسقُط هاوياً على الأرض، بل متزناً، مُتحرراً، ليصوّر علاقة تقف عند المُنتصف، بين الخمر كأداة للتهور، والرقص كوسيلة ورمز للاتزان والاستقرار، كلِجامٍ لجموح الثمالة، هكذا ينفلت من المثالية والوعظ، وينتقل للجسد في عنفوان حركاتٍ مثل الرقص، يُصبح في أقصى درجات اتزانه.