في عام 2020 الذي كان أقرب إلى كابوس، وفي خضم أنين العالم أجمع تحت وطأة وباء خيم بكاَبته على كل شيء تقريبًا، خرج المخرج «توماس فيتنبرج» في شهر سبتمبر بعد لم شمله مع «مادس ميكلسن» الذي سبق وقام ببطولة فيلمه The Hunt على الوسط السينمائي بفيلم Another Round الذي جاء في كليّته آية في الخفة والجمال ربما ليخبرنا أن الحياة ما زالت تستحق أن تعاش.

حصد الفيلم عقب ذلك أربع جوائز أوروبية من بينها جائزتي أفضل فيلم أوروبي للعام وأفضل مخرج، كما ترشح للجولدن جلوب في فئة أفضل فيلم أجنبي ووصل للقائمة القصيرة للأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم عالمي.

يدور الفيلم عن أربعة أصدقاء مدرسين بمدرسة ثانوية، ويركز بشكل رئيسي على مارتن الذي يقوم بدوره «مادس ميكلسن» معلم يعاني من أزمة منتصف العمر، فيبدو أنه غير راضٍ عن حياته برمتها، الأسرية والمهنية.

يظهر مارتن في مدرسته بعيون شاردة يكاد لا يلحظ وجوده أحد، لا يتواصل جيدًا مع أطفاله وزوجته التي تعمل في مناوبات ليلية معظم الأيام، حتى طلابه وأولياء أمورهم لا يجدونه أستاذًا يمكن الاعتماد عليه.

كل ذلك يبدو كافيًا لاهتزاز ثقته بنفسه، ففي أحد المشاهد الأولى من الفيلم يسأل مارتن زوجته: «هل أصبحت مملاً؟» فتجيبه بعد تنهيدة عميقة مفعمة بالحسرة «لم تعد مارتن الذي عرفته في السابق.»

تأتي لحظة الانهيار والمكاشفة في عيد ميلاد صديقه نيكولاي الأربعين أثناء اجتماعهم على مائدة الطعام، إذ يخبرهم مارتن أن علاقته مع زوجته لم تعد كما كانت، وأنه لا يدري كيف أصبحت حياته بهذا الشكل، حتى يبدأ الأصدقاء في مواساته محاولين إيقاظ روح الشباب فيه وتذكيره بالأيام الخوالي وكيف أنه كان راقص باليه رائعًا.

هل الحل يكمن في قنينة خمر؟

أثناء اجتماع الأصدقاء في عيد الميلاد بدأ أحدهم بالحديث عن نظرية الطبيب النفسي «Finn Skarderud» والتي مفادها أن الإنسان يولد بمستوى كحول يعادل 0.05%، فلو حافظوا على ذلك المستوى من الكحول في دمائهم ربما يكون المرء أكثر اتزانًا واسترخاءً وبالتبعية سينعكس ذلك على حياتهم.

يبدو أن الأصدقاء قد وجدوا ضالتهم أخيرًا، فكل منهم يعاني من أزمة منتصف العمر، الكل يبدو وحيدًا وتائهًا ولكن بدرجات متفاوتة.

بعد تطبيق الأصدقاء الأربعة للنظرية في صورة تجربة عملية، ظهر جليًا مدى الاختلاف الذي لحق بهم، فمارتن أصبح شعلة من النشاط والإبداع أمام طلابه، حياته الزوجية تحسنت إلى حين، حتى أصدقائه الثلاثة الاَخرين ظهر كل شيء إيجابيًا عند معاقرتهم الخمر في وضح النهار وأثناء اليوم الدراسي.

لكن مهلاً هذا ليس فيلمًا عن فوائد الخمر أو أضرارها، بل هو لا يناقش مدى صحة النظرية أو خطئها.

بعد زيادة الأصدقاء الأربعة للجرعة شيئًا فشيئًا والتبعات السيئة لذلك على حياتهم الاجتماعية والمهنية، ربما يظن المشاهد لوهلة أن الفيلم بمثابة محاضرة جامعية عن أضرار إدمان الخمر متلفعة في تراجيديا إنسانية، خصوصًا وأن الدنمارك حسب تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية مؤخرًا، تحتل مرتبة متقدمة بين الدول الأكثر استهلاكًا للكحول خلال العام الواحد، ولكن ما يميز الفيلم هنا أنه مغاير تمامًا لما تقدمه بعض الأفلام ذات أسلوب الوعظ الأخلاقي.

لكن الفيلم يطرح سؤالاً على لسان مارتن، وهو إن كنت ستقدم على الشراب هل ستفرط في الشرب أم ستستطيع التحكم بنفسك وتشرب فقط احتفالًا أو في مناسبة ما؟ أو بعبارة أخرى هل ستفجر رأسك مثل إرنست هيمنجواي أم ستكسب الحرب العالمية الثانية مثل ونستون تشرشل؟

ثقافة الشرب

في المشهد الافتتاحي للفيلم يظهر مجموعة من الشباب يتسابقون حول البحيرة، وهذا السباق يقوم في الأساس على تجرع صندوق كامل من زجاجات الجعة أثناء السباق، وفي لقطات سريعة يوزعون مبتهجين بعض الزجاجات على كبار السن دون أن يمنعهم وازع أخلاقي أو رادع أمني.

وبعد قطع سريع للمشهد، نرى مديرة المدرسة تعرب عن استيائها بسبب ما حدث من هؤلاء الشباب فتقترح منع الكحول طوال الفصل الدراسي، الأمر الذي جعل أحد المعلمين الأربعة يتساءل باستغراب: «كيف يدعمون ذلك الإجراء؟».

جاء المشهد الافتتاحي كلمحة سريعة عن ثقافة شعب الدنمارك، ففي حوار سابق مع المخرج والكاتب توماس فيتنبرج أكد أن فكرة الفيلم أتت له عندما أعربت زائرة أمريكية عن استغرابها بعد محادثة ابنته ذات السبعة عشر عامًا وعلمها أنها تستعد للخروج لتلعب سباق البحيرة وتشرب صندوقًا من الجعة، هكذا سطعت فكرة الفيلم في مخيلته.

حتى أن الجهود التي كان من شأنها رفع الحد الأدنى للسن المسموح لها بشراء الكحول إلى 18 عامًا قد قوبلت بمقاومة شديدة، الأمر ببساطة أن هذه عادة متأصلة بشعب الدنمارك منذ قديم الأزل وأي محاولة لزعزعة هذا الوضع يعاملونها كطعنة في هويتهم.

ابنتي ماتت، وهنا لدينا فيلم عن الكحول لم يكن له أي معنى ما لم نصر على أن يصبح فيلمًا عن الحياة.
توماس فيتنبرج، مخرج الفيلم

من الجدير بالذكر عند الحديث عن هذا الفيلم، أن بعد أربعة أيام من بداية التصوير لقيت (إيما) ابنة المخرج حتفها إثر حادث سيارة تعرضت له أثناء عودتها من رحلة بأفريقيا، الأمر الذي استوجب إدخال بعض التعديلات على سيناريو الفيلم الذي كان في مشروعه البدائي يرتكز على تيمة الصراع بين الأجيال حيث تقوم (إيما) بدور ابنة مارتن/ميكلسن.

قرر المخرج إيقاف التصوير، ثم سرعان ما عدل عن قراره فعلى حد تعبيره كانت ابنته ستكره ذلك، وتأثرًا بهذه الحادثة أصبح العمل في حلته الجديدة فيلمًا عن تقبل الحياة كما هي.

على غرار المشهد الافتتاحي، اختتم الفيلم برقصة مارتن على أغنية What A Life التي جاءت كلماتها كالتالي:

يا لها من حياة
يا لها من رحلة جميلة
لا أعرف أين أنا في الواقع
لكنني شاب و حي

كأن هذه الرقصة التي استحضرها من سنوات شبابه قد أعادت إليه حيوية الشباب بحركتهم المحمومة.

لم تجئ هذه الرقصة في غاية البراعة لأن مادس ميكلسن ممثل جيد فقط، ففضلاً عن ذلك، هذه الرقصة كانت إحياءً لذكرى قديمة من ماضيه الشخصي حيث عمل كراقص محترف لمدة عقد من الزمان قبل أن يبدأ مسيرته الفنية.

فيلم جولة أخرى بأداءات تمثيلية مميزة وسيناريو سلس كان من أهم أفلام 2020، فيلم يحتفي بالحياة في عام كانت البشرية تصارع فيه شبح الموت، تنتهي من مشاهدته وتتمنى أن تكون رفقة مادس ميكلسن لترقصا معًا.