في حوار بين أنتوني هوبكنز وبراد بيت عام 2019، نشرته مجلة (Interview)، يسأل «براد» «هوبكنز» إن كان يؤمن بالقدر؟ أتى السؤال على خلفية عرض فيلمه (The Two Popes)، الذي يتساءل بدوره عن القدر، عن مصائرنا الخاصة، وعن المسارات الغامضة التي ندفع أنفسنا بداخلها دون وعي منا بما ستؤول إليه. يحكي له هوبكنز أنه يحلم كثيرًا بالأفيال في الآونة الأخيرة دون أن يعرف السبب، لكن حلمه المتكرر يرده إلى فيلم شاهده في طفولته مع جده يدعى (Elephant Boy)، حيث يحمل هذا الوحش القوي والجميل الطفل «توماي» ويتجول به في عمق الغابة. هذا التجوال الذي بدأ كهروب ينتهي بالطفل إلى الجهة المنشودة. طالما كان هذا هو انطباع هوبكنز عن الحياة والقدر، فأحيانًا- ربما بدافع الهروب- نجلس على ظهر هذا الحيوان الذي يفوقنا قوة وضخامة ونتركه يذهب بنا إلى حيث يريد.

إحدى لوحات أنتوني هوبكنز
إحدى لوحات أنتوني هوبكنز

تتسلل الأفيال أيضًا وكأنها يد القدر إلى إحدى لوحات هوبكنز والتي تبدو كبورتريه ذاتي. نعم في الفترات التي لا يعمل فيها هوبكنز على فيلم جديد يمارس الرسم من أجل مزاجه الخاص كما يقوم أيضًا بالتأليف الموسيقى وعزف البيانو. يبدو القدر بهذا المفهوم كفاعل رئيسي في حياة هوبكنز ومسيرته.

في طفولته ومراهقته، كان بطيء التعلم، ربما كان يعاني من عسر القراءة (Dyslexia)، وكان الجميع يرونه طفلًا أبله أو غريب الأطوار، كان يشرب أمام زملائه الحبر الهندي وهو نوع من الحبر كان يستخدم في الكتابة والرسم آنذاك أو كان يحكي للفتيات الصغار في الجوار حكاية دراكولا مقلدًا بفمه صوته وهو يمص دم ضحاياه فيهربن ذعرًا، وهو الصوت ذاته الذي سيستخدمه لاحقًا كلازمة في فيلمه «صمت الحملان». هل تتذكرون هذا الصوت الذي يصدره بفمه بعد جملته الشهيرة «I ate his liver with some fava beans and a nice chianti»؟ نعم هو!

كان بالطبع كعادة الممثلين في طفولتهم يجيد تقليد مدرسيه. ضجر والده- الذي كان يرى أن ابنه الوحيد لا يجيد فعل أي شيء- من تصرفاته الهزلية في المدرسة فنقله إلى مدرسة داخلية ذات نظام صارم، لكن الأمر لم يدم طويلًا حتى كتب له ناظر المدرسة «ابنك حالة ميئوس منها، لديه احتقار محض للسلطة ومن يمثلها».

تكون داخله ما يسميه علم النفس عقدة النقص (Inferiority Complex)، إذ صار هو نفسه يرى أنه لا يصلح لأي شيء. كان ممتلئًا بالغضب والشكوك والمخاوف مع نزوع لتدمير الذات. قبل أن يتعثر هوبكنز مصادفة بنداء التمثيل لم يكن هناك أي شيء يعد بما ستؤول إليه الأمور. ألهمه لقاؤه بالنجم الهوليودي ريتشارد برتون والذي كان هو الآخر ابنًا من أبناء ويلز- المقاطعة التي ولد بها هوبكنز- أن يتتبع نفس المسار، إذ ربما يمكنه ذلك من أن يصنع شيئًا من حياته التي تبدت لها آنذاك بلا أفق.

الآن يحتل هوبكنز بعد مسيرة تمتد لأكثر من نصف قرن من الزمن تنقل خلالها بين المسرح والتلفزيون والسينما المكانة التي يستحقها كواحد من أكبر المواهب التمثيلية في كل تاريخ السينما.

ذروة ثانية لمسيرة سينمائية عظيمة

درس هوبكنز التمثيل في مطلع شبابه، وبدأ مسيرته الاحترافية من المسرح البريطاني حيث حقق خلال زمن قصير نجاحًا ملحوظًا، وبدأ الحديث عنه كلورنس أوليفيه القادم، لكن في ذروة هذا النجاح، وبينما كان المسرح البريطاني- أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات في ذروة مجده ترك المسرح وسافر إلى هوليوود. كان روتين المسرح خانقًا بالنسبة له وكان نافذ الصبر مع المخرجين، يقول عن تلك الفترة «إذا كانت لديك شكوك في نفسك، فسوف يلتقطها الآخرون وسيهاجمونك».

لكن مسيرته في هوليوود التي بدأت واعدة عام 1968 في دور ريتشارد الأول في فيلم «The Lion in Winter»، متقاسمًا البطولة مع نجوم من أمثال بيتر أوتول وكاثرين هيبورن لم تحقق له خلال أكثر من عقد من الزمن ما يتناسب وموهبته الكبيرة لذلك نجده نهاية الثمانينيات يعود للمسرح مجددًا وقد بدأ يفكر، ربما كان مقدرًا له من البداية أن يكون ممثلًا مسرحيًا، لكن ذلك لم يدم طويلًا إذ يصله آنذاك سيناريو الفيلم الذي سيغير حياته ومسيرته تمامًا وهو فيلم (The Silence of the Lambs) حيث يجسد شخصية هانيبال ليكتر أكثر أداءاته أيقونية والدور الذي منحه ترشيحه الأوسكاري الأول وفوزه الأول.

كانت التسعينيات ذروة مسيرة هوبكنز السينمائية إذ ينجح خلالها في تقديم مجموعة من أفضل أداءات مسيرته ضمنت له ثلاثة ترشيحات أوسكار سواء كأفضل ممثل رئيس في أعمال مثل فيلم جيمس أيفوري (The Remains of The Day) و(نيكسون-Nixon) مع أوليفر أستون أو أفضل ممثل مساعد مع ستيفن سبيلبرج في (Amistad). على الرغم من الأداءات المميزة التي حققها هوبكنز خلال العقدين التاليين إلا أنها ظلت بعيدة عن ألق وقوة أداءات التسعينيات. لكن المثير أن مسيرة الرجل الآن وهو في الثمانين تبدو وكأنها تشهد ذروة ثانية. حصل هوبكنز على ترشيحين لأوسكار أفضل ممثل في عامين متتالين. في العام الماضي عن (الباباوان-The Two Popes) للمخرج فرناندو ميريليس، وهذا العام عن (الأب- The Father) للمخرج فلوريان زيلر، وهو الدور الذي يمنحه فوزه الثاني المستحق.

ملامح الأداء التمثيلي لأنتوني هوبكنز

أنتوني هوبكنز من فيلم Howard's End
أنتوني هوبكنز من فيلم Howard’s End

هناك دائمًا أكثر من طريقة يتبعها الممثل لبناء الشخصية التي يجسدها ومعايشتها، هناك من ينطلق من الخارج إلى الداخل بمعنى أنه يبني ملامح الشخصية الخارجية أولًا كالمكياج، وطريقة الكلام، والحركة وصولًا إلى دواخلها أو العكس.

يبدأ هوبكنز دائمًا من الخارج بالعمل على الخاصية الجسمانية للشخصية وإيقاع حركتها ثم يجد طريقه إلى الداخل. كثيراً ما يستخدم هوبكنز ماضيه ليجد طريقاً إلى دواخل شخصياته. أحداثًا صغيرة علقت في عقله، أشخاصًا حقيقيين وخبراته العاطفية السابقة، لبناء الجانب العاطفي والنفسي للشخصيات التي يجسدها.

هناك تفاصيل جسدية صغيرة تجعل الشخصية تتحرك داخله. نجد مدخله مثلًا لتجسيد شخصيته في فيلم (Howard’s End) هو الشارب المميز للشخصية فحين رأى نفسه فيه للمرة للأولى ذكره ذلك بجده. كان جده خبازًا أيضًا مثل والده، كان شخصية جادة وغير عاطفية تمامًا كالشخصية التي يجسدها في الفيلم. أو طريقة تصفيفه شعره وتعمده ألا يرمش في دور هانيبال ليكتر ما يجعل مظهره أكثر عدوانية وتسلطًا ورعبًا.

يجيد هوبكنز بشكل خاص عبر مينيماليته المعتادة التعبير عن شخصيات مقموعة عاطفية في أفلام مثل (Howard’s End)، (Shadowlands) ويصل ذروته في أدائه لشخصية السيد ستيفنز في فيلم (The Remains of The Day)، وهو واحد من أفضل أداءات هوبكنز في كل مسيرته. وجه هوبكنز هنا حيث يؤدي دور رئيس خدم في أحد القصور أقرب إلى قناع، لا يظهر مشاعره بل يكبتها ويموهها . لا يكتفي هوبكنز بتصدير وجهه كقناع للمشاهدين من أجل التعبير عن شخصيته المكبوتة والمنسحقة بل يجعلنا نشاهد لوهلة عبر وجهه بزوغ هذه المشاعر ثم نشاهده وهو يكبتها مستعيدًا قناعه المصمت.

هذا لا يحدث طيلة الوقت بل فقط في المشاهد شديدة الوطأة نفسيًا عليه مثل المشهد الذي تخبره مسز كينتون/ إيما طومسون التي يكن لها حبًا صادقًا بأنها قبلت عرض الزواج من أحد الزملاء وتماديًا في إيلامه تخبره أنهما يسخران من أسلوبه وعاداته في إدارة شئون القصر. هنا نشاهد إحراجه وألمه ثم ابتسامة ممرورة تحاول أن تموه هذه المشاعر قبل أن يستعيد قناعه من جديد. يستطيع هوبكنز أن يتنقل خلال مدى واسع من الانفعالات خلال مدى زمني قصير.

الطريقة التي يعمل بها السير أنتوني من أجل فهم الشخصية والتعامل معها على مستوى سيكولوجي عميق مثيرة جدًا للتأمل وذات خصوصية واضحة. هوبكنز هو سيد البساطة والحدس. فالرجل الذي قدم خلال مسيرته مجموعة من أكثر الشخصيات تعقيدًا من الناحية النفسية لا يفضل أبدًا التعمق في دراسة شخصياته، إذ يكتفي غالبًا بسيناريو الفيلم،لكنه يقرأ السيناريو على نحو استحواذي ربما 200 مرة. يرى الكلمات مثل خارطة طريق تكفي وحدها لتقود الممثل إلى ما يجب أن يشعر به أو يفعله. يقول في كثير من حواراته: لا يجب أن تمثل، فقط ادرس السيناريو جيدًا واتبع حدسك.

أنتوني هوبكنز من فيلم The Elephant Man
أنتوني هوبكنز من فيلم The Elephant Man

هوبكنز ممثل غريزي تمامًا، يسير خلف حدسه في خلق وتجسيد الشخصية على الشاشة ودائمًا اللقطة الأولى هي أفضل ما يقدم. يحكي ديفيد لينش عن هذا المشهد الاستثنائي في فيلم (الرجل الفيل-The Elephant Man) الذي يلتقي فيه فريدريك تريفيس/ هوبكنز للمرة الأولى شخصية جون ميريك المعروف بـالرجل الفيل، تتحرك الكاميرا ببطء لتصور أثر رؤيته على وجه فريدريك: نظرة تجمع الدهشة والشفقة معًا ودمعة واحدة:

إنها أفضل حركة كاميرا في كل أفلامي نشاهد رد الفعل على وجهه حركة منسابة ورشيقة ما أن توقف الكاميرا أمام وجه هوبكنز حتى يشرع في البكاء وهو ما لم يكن مخططًا له واحدة من اللقطات السحربة كانت اللقطة الأولى وكان من العبث إعادتها.
ديفيد لينش- كتاب محاضرات في الاخراج السينمائي

هوبكنز بين نظرة «هانيبال» وبكاء «أنتوني»

أنتوني هوبكنز من فيلم The Silence of the Lambs
أنتوني هوبكنز من فيلم The Silence of the Lambs

هناك أداءات كثيرة في مسيرة هوبكنز تستحق التحليل،لكننا سنختار فقط شخصيتي «هانيبال» من فيلم صمت الحملان وأنتوني من فيلم «الأب» لإظهار بعض تفاصيل عمله على الشخصيتين، والأهم هو توضيح أن الجزء الأهم في التجسيد هو فهم دواخل الشخصية والوصول إلى مدخل خاص لتجسيد هذا الفهم.

حين قرأ هوبكنز نص فيلم «صمت الحملان» فهم على نحو حدسي كيف سيؤدي هذه الشخصية، بدأ كالعادة من الخارج بشعر أملس يقوم بتصفيفه للوراء يمنحه هذا نوعًا من العدوانية الصريحة، يكسبه مظهرًا حيوانيًا ثم صوت معدني وقاطع، صوت يشبه شفرة حادة تجد طريقها إلى داخل الشخصيات التي يقابلها بحثًا عن نقاط ضعفهم. استوعب في حركته جموده وسكونيته ما يمنحه نوعًا من السلطة الكلية.

استطاع من خلاله أدائه أن يلمس التناقض الذي يكتنف شخص هانيبال، إنه وحش، انزلق إلى الجانب المظلم للذات ومع ذلك لا يزال يمتلك بعض الصفات الإنسانية الرفيعة كاستمتاعة بالموسيقى والرسم أو تعاطفه مع كلاريس واحترامه لشجاعة هذه المرأة الضئيلة. لكن تظل أحد أهم تفاصيل أداء هوبكنز متمثلة في نظرة الغموض المعلقة في عمق عينيه، فالبرغم من قدرته الاستثنائية على النفاذ إلى داخل البشر فهو غير قادر على تحويل هذا الاستبصار نحو ذاته. يمنح هوبكنز الشخصية نظرة غموض ثابتة مهما تغيرت انفعالات وجهه، تظل كما هي مستغلقة كأنها لا تفضي إلى شيء أو إلى مزيد من الليل.

أنتوني هوبكنز من فيلم The Father
أنتوني هوبكنز من فيلم The Father

في فيلم الأب الذي يؤدي فيه هوبكنز شخصية أنتوني وهو رجل عنيد في خريف العمر بدأ يعاني من خرف الشيخوخة، لكن عناده يجعل حياته وحياة من حوله أكثر صعوبة. مع تدهور حالته يسقط أنتوني في متاهة وعيه المتداعي حيث تتغير الأماكن وتتبدل الوجوه، ليشعر ونشعر معه بالصدمة والحيرة.

يشيد هوبكنز أداءه حول حالة من الإنكار التي تعتريه منذ البداية، إنه شخص يرغب طيلة الوقت في إظهار أن كل شيء تحت السيطرة، ولكن الأمور ليست كذلك. هوبكنز هنا هو سيد الإيماءات والتلميحات، إنه في ذروة مينيماليته. في لمحة خاطفة يوحي بالصدمة والحيرة حين تتبدل وجوه الناس والأماكن التي يعرفها ثم سريعًا يموه ذلك بابتسامة لكي لا يرى أحد ذلك. لا يريد لأحد أن يلمح ضعفه أو عجزه. يصل أداء هوبكنز للذروة حين يبكي في النهاية كطفل بينما ينادي أمه، هذا النكوص العاطفي يصاحبه لغة جسد موفقة جدًا من هوبكنز.

يحكي هوبكنز: كان أبي خبازًا عمل بكد طيلة حياته، كان رجلًا وحيدًا وفي أيامه الأخيرة مال أكثر نحو الشراب، كان يسقط في نوبات من الكآبة أو الهياج، لكنه لم يكن عنيفًا. مات على سريره بسكتة قلبية وإلى جواره نظارة قراءة وخريطة طريق لأمريكا. كان يحب أمريكا ويحلم أن يزورها لكن ذلك لم يحدث أبدًا.

طلب مخرج فيلم الأب من هوبكنز أن يعيد مشهد انفجاره في البكاء كطفل لمرة ثانية، ورغم اقتناع هوبكنز أنه أدى جيدًا في المرة الأولى أعاد المشهد، لكن هذه المرة ركز عينيه على نظارة قراءة كانت موجودة بغرفته أعادت له ذكرى الأيام الأخيرة في حياة والده وهذه هي المرة التي نشاهدها في الفيلم.

على عكس أفلامه الأخيرة مثل The Dresser أو The Father والتي تصور رعب الشيخوخة يبدو هوبكنز الآن وهو في الثالثة والثمانين في حواراته وخلال الصور ومقاطع الفيديو التي يبثها على صفحته الشخصة على تطبيقي «فيسبوك» و«تويتر» كما لو كان يعيش أفضل أيامه، كشخص وجد سلامه أخيرًا مع الذات والعالم، هو الذي يقول مؤخرا في أحد حواراته: «كان يجب أن أكون الآن في بورت تالبوت، مسقط رأسي في ويلز ببريطانيا، إما ميتًا أو أعمل في مخبز أبي، ولكن لسبب ما لا أعرفه، أنا هنا. لا شيء من ذلك يبدو منطقيًا، ولكنني أنظر إلي الآن وأقول لنفسي نحن بخير يا فتى».