نهاية العالم «الأبوكاليبس» هي مفردة دينية تسكن الخطاب الديني للديانات الثلاثة، وموجودة أيضًا كجزء من أساطير الشعوب القديمة. أقدم المصادر الدينية تعود إلى العهد القديم «سفر دانيال» ثم نجد تجليها الأكثر ذيوعًا في رؤيا «يوحنا اللاهوتي» في العهد الجديد أو ما يعرف بسفر الرؤيا، رؤيا السبعة ملائكة الذين أعطوا سبعة أبواق، ويتبع كل بوق رؤيا خراب يحل بالعالم الشرير.

ابتداء من منتصف القرن الماضي، بدأت فكرت الأبوكاليبس تظهر بشكل متواتر في الأدب ثم في السينما وتكتسب شعبية جارفة، تغير خوف الناس من نهاية العالم التي تتأتى من قوى غيبية إلى نهاية من صنع البشر خاصة بعد استخدام القنابل الذرية في الحرب العالمية الثانية (هيروشيما ونجازاكي)، ثم صراع القوى العالمية على نإتاج وامتلاك الأسلحة النووية.

خرجت فكرة نهاية العالم إذن من حيز الأساطير والنبوءات إلى كونها احتمالية قابلة للتحقق على أرض الواقع. وتشكل فيما يخص السينما نوع فيلمي أطلق عليه النقاد «Apocalyptic Movies»، وهي أفلام تلقي الضوء على كيفية نهاية الحياة على هذه الأرض.

وجدت الدراسات الفيلمية التي أجريت على تاريخ السينما الأمريكية وتتبعت تيمات نهاية العالم، أنه خلال النصف الأول من القرن العشرين أي حتى عام 1950 كان عدد هذه الأفلام محدودًا للغاية. منذ الخمسينات ومع كل عقد يمر ظلت أعداد هذه الأفلام تتزايد بصورة مستمرة. تم إحصاء أفلام الأبوكاليبس التي تم إنتاجها بين عامي 1980 و1999 بما يمثل 59 فيلمًا، بينما الأفلام التي تم إنتاجها بين عامي 2000 و2013 بلغت 90 فيلمًا.

تفترض الدراسة أن هذه الزيادة في عدد الأفلام التي تتناول نهاية العالم ترجع لأنها تؤدي وظيفة ما للمشاهد، وهي كما تقترح الدراسة تمكن المشاهد من فهم أو إيجاد معنى للعالم الذي يعيش فيه، كما أنها توثق آمال الإنسان ومخاوفه، أحلامه وكوابيسه المظلمة، وأخيرًا معتقداته وصراعاته.

هذا لا يعني انحصار أفلام نهاية العالم داخل نطاق السينما الأمريكية باعتبارها نوعًا فيلميًا (genre)، فهناك مخرجون أوروبيون وآسيويون كبار استغلوا تيمات النهاية للتعبير عن رؤيتهم وفلسفتهم في الحياة، مثل «تاركوفسكي»، و«كوراساوا»، و«مايكل هانيكه»، و«بيلا تار»، و«لارس فون ترير».

في عامي 1985، 1986 قدم الياباني «أكيرا كوراساوا» والروسي «أندريه تاركوفسكي» رؤيتين قاتمتين لعالم يقف على حافة القيامة. قتامة الرؤية تتوافق مع مزاج الروح التي تبصر اقتراب النهاية قبل أوانها، وترى في موتها الفردي مصير العالم. سنحاول خلال ما تبقى من المقال الوقوف على حدود هذه الرؤية القيامية لاثنين من أكبر مخرجي السينما في كل العصور.


(RAN): المعركة الأخيرة للساموراي

المخرج الياباني «أكيرا كوراساوا»

التصور الأول للفيلم يعود إلى حقبة السبعينات من القرن الماضي عندما اهتم «كوراساوا» بأسرة النبيل المحارب «موري موتوناري» الذي يعود حكمه للعصور الوسطى، والذي يروي عنه أنه أعطى لكل ابن من أبنائه الثلاثة سهمًا، وأمرهم أن يكسر كل واحد منهم سهمه، وهو ما قاموا به بالطبع، لكنه عندما أعطى لكل منهم الأسهم الثلاثة مجتمعة فشلوا في كسرها. بقي الإخوة معًا وهو ما كفل ازدهار قبيلة «موري» على امتداد سنين طويلة. لسبب ما تساءل «كوراساوا» ماذا لو حدث العكس؟

على نحو ما لم ترق الأسطورة لكورساوا، ربما لحكمتها الساذجة والتي يسخر منها داخل فيلمه. النص السينمائي الذي كتبه «كوراساوا» رفقة «ايجوني هايدو»، و«ايدي ماسوتو» هو مزيج بين حكاية النبيل «موري موتاناري» – أو لنقل تصور كوراساوا لها- ومسرحية «الملك لير» لشكسبير. المسرحية التي يراها نقاد «شكسبير» مثل جبل شاهق يعجب به الجميع، ولكن ما من أحد يتمنى تسلقه. من يتمنى تسلقه هذه المرة عجوز في منتصف العقد السابع من عمره يريد أن يصنع عملًا ملحميًا عن عالم يقف على خط الزوال وفي قلب هذا العالم المتداعي من حوله بإمكانه هو نفسه أن يحتضن موته القريب مثلما يحتضن الساموراي سيف مصيره.

زمن الفيلم الذي يقترب من 3 ساعات هو زمن جحيمي. كولاج مرعب من الفوضى والخيانة والقسوة. يصور لنا «كوراساوا» عالمًا يلتهم نفسه، بعد أن هجرته الآلهة منذ زمن بعيد، لكن أين يكمن سر هذه الرؤية المغرقة في التشاؤم؟ ولماذا في ذلك الوقت بالذات؟

قال «كوراساوا» في حوار له إنه صنع الفيلم وفي مخيلته رؤيا أبوكاليبسية لعالم تلتهمه انفجارات نووية. «كوراساوا» الذي نجا من محاولة انتحار له بقطع شرايينه لأنه لم يجد من يمول أفلامه خلال عقد السبعينات وهو الذي اعتاد فيما سبق أن يصنع على الأقل فيلمًا كل عام، انهمك لعقد من الزمن في رسم تكوينات ولقطات فيلمه «Ran» معتمدًا على خلفيته كرسام، هذه اللوحات ستكون دليلًا لمساعديه أثناء التصوير الفعلي للفيلم، حيث إنه في ذلك الوقت كان يشكو من ضعف شديد في بصره.

هذا التفاني المدهش لمشروع فيلمه الكبير الذي يحمل داخله ما يلامس جرحًا عميقًا في روح «كوراساوا». أعتقد أن «كوراساوا » وهو المنحدر من أسرة ساموراي والذي بنى أسطورته كمخرج حول أفلامه التي تمجد البطولة، رأى على نحو ما نفسه في شخصية «هيديتورا»، الأمير الذي خسر مجده وتنازل عن مملكته بمحض إرادته وها هو الآن يدرك سقوط العالم الذي شيده في قبضة الفوضى والرعب. «كورساوا» مثل «هيديتورا» يدرك أنه لا مكان له في هذا العالم. «كوراساوا» الذي يرى الآن موته قريبًا بعد أن فقد خلال السنوات القليلة الماضية الكثير من الأصدقاء الذين شاركوه مسيرته الطويلة بالإضافة إلى وفاة زوجته أثناء التصوير، يصنع فيلمه تحت هاجس أنه آخر أفلامه أو وصيته السينمائية الأخيرة.

يصور كوراساوا عالمه من وجهة نظر الآلهة التي يتشكك في وجودها فهو يقطع بين المعارك على سماء مظلمة ومخيفة، وكأنما الآلهة الغائبة تشاهد ما يحدث، وكلما تقدمنا نحو النهاية الكارثية ازدادت السماء إظلامًا واختفى الضوء. يولي كوراساوا عناية فائقة لجماليات الصورة مستخدمًا ألوان بدائية وعنيفة كالأحمر والأصفر. لوحات قاتمة ومبهرة الجمال في الوقت نفسه، مما دفع بعض النقاد باتهام كوراساوا بالإيغال في تجميل الدمار البشري والموت على نحو إيجابي أو ما سموه «جماليات العدم».

نحن هنا أمام مخرج يتأمل في مصيره الخاص ومصير الإنسان، ويستقصي المعنى في عذاب الإنسان وسقوطه. ينهى «كوراساوا » فيلمه بإنسان أعمى يقف على منحدر يطل على هاوية سحيقة بعد أن سبقته إلى السقوط صورة الإله «بوذا».


«The Sacrifice»: المحبة والإيمان تنقذان العالم

لو نظرت إلى العالم من حولك، وفي مثل هذا العمر من المستحيل أن تشعر بالتفاؤل. إن التقدم التكنولوجي الحادث لم يساعد الإنسان سوى في قتل أخيه الإنسان بطريقة أكثر سهولة وسرعة.

«القربان The Sacrifice» هوالفيلم السابع والأخير في مسيرة الروسي «أندريه تاركوفسكي» والذي يطرح رؤيا أبوكاليبسية للعالم عبر كارثة نووية. ثمة انطباع أثناء مشاهدة الفيلم أن «تاركوفسكي» -الذي كان يحتضر من مرض السرطان أثناء صناعة الفيلم – أراد أن يضمن فيلمه كل شيء، اغترابه العميق، وثقل الحزن في روحه، وفقدانه الإيمان بالحضارة المادية التي تنهش قلب العالم، والانحطاط الروحي الذي تجرفنا إليه الحياة اليومية وضغوط العصر الحديث. لقد تبدت له روح العالم كشجرة ميتة تحتاج إلى معجزة أو قربان من أجل أن تزهر من جديد.

يمكن أن نختصر رؤية «تاركوفسكي» للعالم في المونولوج الطويل الذي يلقيه «ألكسندر/أرلند جوزفسن» على مسامع طفله الصغير وكأنما يحدث نفسه:

البشرية أضاعت طريقها، والنتيجة حضارة ميتة قائمة على التسلط والقوة والخوف. كل هذا التقدم التقني الذي حققناه قدم لنا بعض الرفاهية ونوعًا من النموذجية مثلما قدم لنا آلات العنف كي نحافظ بها على القوة. أصبحنا مثل الوحوش، لا، الوحوش أكثر روحانية منا.

تظهر باستمرار تيمة النهاية والحاجة إلى تضحية أو قربان في أفلام «تاركوفسكي» الأخيرة، ربما كان ذلك انعكاسًا لحالة روحه المحاصرة بالموت. في فيلمه السابق «Nostalgia» يقوم «دومينيكو» بسجن أسرته في بيت أقفلت أبوابه ونوافذه بإحكام لأنه يؤمن أن القيامة قريبة ويأمل أن ينقذ أسرته من هول النهاية داخل هذا البيت الإيطالي البسيط. «دومينكو» قرب نهاية الفيلم يعتلي تمثال «ماركوس افريلي» -الفيلسوف الوحيد الذي اعتلى عرش روما – في الكابيتول بروما ويتوجه للناس المجتمعين حوله مثل تماثيل بخطبة عن خطايا العالم الذي انحرف عن طريق الحق، ثم يضرم النار في جسده كنوع من القربان لعله يهز أرواح الخاطئين المتحجرين داخل أنانيتهم المتشددة.

هنا في القربان «ألكسندر» يواجه كارثة النهاية بنوع من الصلاة وهو الذي ظن أن الإنسان قد فقد حتى قدرته على الصلاة. يضرع إلى الرب أن ينجي عائلته من الكارثة القادمة وهو سيضحي بأغلى ما يملك/بيته مع نذر بالصمت الأبدي. في نفس الليلة يزوره «أوتو»، ساعي البريد وهو باب الفيلم على عالم غريب من الحوادث والأفكار، ليخبره أن الحل الوحيد لينقذ العالم أن يذهب إلى خادمته «ماريا» والتي يلقبها بالساحرة ويمارس معها الحب. بعد أن يتهمه «ألكسندر» بالجنون، يذهب إلى «ماريا» يركع أمامها هاذيًا: «هل بإمكانك أن تحبيني؟ أحبيني أتوسل إليك. أنقذيني. أنقذينا جميعًا». ثم يحلقان معًا في هواء الغرفة.

التحليق هو مجاز الحب في سينما «تاركوفسكي» الذي يقول في أحد حواراته: «الحب بالنسبة لي يمثل التجلي الأعلى للتفاهم المشترك، لا يمكن التعبير عنه بفعل جنسي بسيط على الشاشة، إن فعل الحب بالنسبة لكل ثنائي هو فعل نادر لا يمكن أن يتكرر».

في الصباح التالي يعود العالم سيرته الأولى، وتبتعد الكارثة عن العالم كحلم عابر أو ذكرى بعيدة. يمكن قراءة الفيلم كله ككوابيس وهلاوس شخص يقف على حافة الجنون. الفيلم يبدأ بشجرة يابسة وينتهي بشجرة توشك أن تزهر، بينما طفل «ألكسندر» ينام تحتها وينطق للمرة الأولى في الفيلم: «في البدء كانت الكلمة».

لا أعتقد أن رؤى القيامة المظلمة هي مجرد نزعات عدمية تدعو للاستسلام بل تحمل في القلب منها نقيضها، هناك إمكانية لعالم آخر محتمل على أطراف هذا العالم المريض. مثلما يقول «أمبرتو ايكو»: «في كل نص أخروي -أي يتنبأ بالنهاية – شحنة طوباوية متدفقة، حلم كبير بتغيير العالم بعد التردي الذي انتهى إليه».