يبدو أن ثورات الربيع العربي لم تنجح سوى في فتح مجالات الكتابة الروائية التي تدور حول استشفاف المستقبل بطرقٍ متباينة، وإطلاق خيال الروائيين والكتاب لوضع تصورات لما يمكن أن يكون عليه العالم بعد هذه الثورات. من أكثر هذه الأفكار حضورًا وسيطرة لدى عدد كبير من الكتاب هو فكرة المدينة الفاسدة «الديستوبيا» التي تحدث عن مدينةٍ أو عالم ينهض على أشلاء ما يعيشه الناس اليوم من حروبٍ ودمارٍ وفساد، مما يقض أواصر المجتمعات ويفككها، وينشئ بالتالي عالمًا شديد السوداوية والقتامة، على نحو ما وجدنا في روايات مثل «عطارد» لمحمد ربيع، و«شواش» لأحمد سمير سعد، و«حرب الكلب الثانية » لإبراهيم نصر الله، وغيرهم.

في روايته الأولى «ظل التفاحة» يقدّم الروائي الشاب محمد إبراهيم قنديل تصورًا مختلفًا ومغايرًا للديستوبيا، حيث يعيد تفكيك حكايات بداية العالم ونشأة الكون مستعينًا في ذلك بجزءٍ من الموروث الديني بدءًا من نزول آدم للأرض وحتى طوفان نوح وغيرها من حكايات، ليسرد حكاية بطل روايته علاء توفيق الذي يعيش حياتنا وواقعنا الذي نعرفه، لكنه يتجاوز ذلك فجأة ليصادف أنه يشهد ما يمكن أن يكون نهاية العالم.

انظُرْ إلى نفسِكَ يا علاء جالسًا على حافةِ الليلِ والطوفان تنبشُ في نهايةِ العالَمِ عن جذوةِ إيمانٍ تُهَدِّئُ خاطرَك، نجوتَ لكنكَ ما زلتَ تبحثُ عن سفينة، السفينةُ التي لم تلجأْ لها إلا بعد قدومِ الطوفان. تُراها كانت بين عينيكَ طوالَ الوقتِ تناديكَ ببوقِها المكتومِ أنْ تركبَ وكنتَ تتجاهلُ النداءَ وتوغِلُ في الشوارعِ المسفلَتَةِ تُغريكَ بتجاهُلِها أكثرَ، لم تكُنْ نوحًا إذن. كنتَ على الجهةِ الأخرى تتعجبُ من النوحيين البدائيين السُّذَّج وتسخَرُ من سفينتِهم الوهمية التي لن تجدَ ماءً تسيرُ فيه. أين الحقيقةُ أيها العالَمُ المجنون؟ في الإيمانِ الهائمِ بين الآياتِ الشفافة؟ في السعيِ الحثيثِ إلى ذاتٍ راسخةٍ في الأرض؟ أم في تقَلُّبِ الحالِ بين هذا وذاك؟ وأيُّ إيمانٍ يشبهُ الحقيقةَ أكثر؟

لعل أكثر ما سيلفت انتباه القارئ في هذه الرواية قدرة كاتبها العالية على التكثيف، فالرواية التي لم تتجاوز 120 صفحة استطاع أن يعرض فيها قنديل سيرة حياة بطله، وتحولاته من الطفولة إلى المراهقة والشباب، ومرحلة تمرده وخروجه على المألوف والمعتاد بين أسرته وأهل قريته، بل تجاوز ذلك لفكرة الرواية الرئيسية والتي تتحدث عن ما يفعله ذلك البطل إذا كان وحيدًا في العالم، وكيف ينشأ عالم آخر بعد تلك النهاية، وما يمكن أن يكون عليه، وهي كلها محاولات للبحث عن أجوبة لأسئلةٍ مؤرقةٍ كُبرى، أشار قنديل لبعضها بشكلٍ مباشر في الفصول الأخيرة من الرواية حينما تحدث عن الحق والحرية وغيرها من أفكار لا تزال تؤرق الفلاسفة والمفكرين والروائيين أيضًا في الوقت نفسه.

من جهةٍ أخرى تقوم الرواية، منذ عنوانها الدال «ظل التفاحة»، على استدعاء قصة خروج آدم من الجنة في موازاةٍ رمزية لخروج بطل روايته علاء توفيق من جنته الأرضية التي كان يحلم بالعيش فيها طويلاً في القاهرة، بعد أن واجه عائلته ومجتمعه وترك حبيبته، فإذا به يواجه الطوفان الذي تغرق فيه المدينة كلها، ويبدو أنه لم ينج غيره، حتى يعيد استكشاف من بقي في العالم من جديد، وهنا يستعيد مرة أخرى فكرة طوفان نوح ومحاولة إنقاذ الغارقين والوصول بهم إلى بر الأمان.

لو كان لصفةٍ واحدةٍ أنْ تنافسَ النسيانَ فينا فهيَ الفضولُ، تعريفُنا المجرَّد، الصوتُ الوحيدُ الذي طغى قديمًا على صوتِ الإلهِ فينا فأوقَعَ قطعَ الدومينو واحدةً وراءَ أخرى حتى تشَكَّلَتْ الحياةُ كما نعرفُها، سُلَّمُنا الحريريُّ إلى المعرفة وطريقُنا الممهَّدُ إلى التعلُّم والتطور، لا تدري أحيانًا هل تنقمُ على ذلكَ الجين الموروث أم تدينُ له بالعرفان، لكنَّهُ لا يتوقفُ عن ممارسةِ دَورِه ولا عن إبهارِكَ بآثارِه تحتَ أي ظرف.

تدور الرواية ببساطة حول هذين المحورين، بين العالم الجديد الغريب الآخذ في التشكل، وبين حكاية بطل الرواية علاء توفيق وعلاقاته بمن حوله قبل وبعد تشكل هذا العالم، حكاياته الأولى، والحكايات الجديدة التي يكون هو محورها ومركزها، وكيف يعيد استكشاف إنسانيته مع امرأة أخرى، ويستعيد اكتشاف مسؤولياته مع أشخاص/أطفال آخرين.

يتنوع السرد في الرواية عبر فصولها الأربعة بين المتكلم/البطل علاء توفيق نفسه، وبين شخصيات الرواية الأخرى، الأطفال الذين يستعيدون أيضًا اكتشاف عالمهم، وحكاية حكايتهم بشكلٍ موجز، وعبر هذا وذاك يستعين قنديل بلغة شاعرية رائقة تبلغ ذروتها في الفصل الذي يتناص فيه مع النص الديني المسيحي «ورأى الرب ذلك غير حسن».

كل ذلك يجعل القارئ منسجمًا مع عالم الرواية وتفاصيلها، بينما يبث بين الحين والآخر أسئلته الفلسفية النابعة من المواقف التي يضع فيها أبطال روايته باستمرار، مما يحفز القارئ على المزيد من التأمل والتفكير، وبدون أن يخرج عن موضوع روايته الأساسية والحكايات والمواقف التي تدور بشكلٍ متلاحق، بين حكايات الحب القديمة والجديدة، وبين السعي لخلق الحياة من جديد على الجزيرة، الجبل الجديد، وبين مواجهة الآخرين في ذلك العالم المتخيّل تمامًا.

في النهاية استطاع قنديل أن يقدّم في روايته عالمًا مختلفًا يمزج بين الديستوبيا والواقع، ويستفيد في الوقت نفسه من إمكانات الحكايات التراثية في خلق حكاية خيالية ناجحة أخرى، وأن يخرج في الوقت نفسه من أسر تيمة الروايات الأولى التي كثيرًا ما تعتمد على سيرة كاتبها الذاتية وتجاربه الخاصة، وانتقل إلى فكرته وعرض فلسفته في الرواية بشكلٍ ذكي وبسيط.

محمد إبراهيم قنديل شاعر وروائي مصري، ورواية «ظل التفاحة» هي روايته الأولى، والتي حاز بها على جائزة «أخبار الأدب» للرواية عام 2018 وصدرت مؤخرًا عن دار نهضة مصر.