ربما بدت الدراسة العلمية للكثيرين بعيدةً كل البعد عن الدراسات الأدبية والفكرية، لاسيما لما تتسم به هذه الدراسات من جوانب مادية صرفة وتطبيقات عملية خاصة تنحو بها إلى إعمال العقل أكثر من الروح والعاطفة، تلك التي تعتمد عليها الدراسات والكتابات الأدبية بشكلٍ أكبر، ولكن يبدو أن ذلك الابتعاد والخصام سينجلي عن قريب، ويكشف لنا الاقتراب بين العوالم الأدبية والعلمية جوانب أخرى تضيف لثراء الفكر الإنساني بشكل عام، وتمنح الأعمال الأدبية بعدًا آخر كان خافيًا أو مستترًا لفترة طويلة.

في كتابه المهم يبحث الدكتور «علي عبد الرءوف» المعماري والأكاديمي ما يمكن أن يحدث لو أمعنّا النظر في بنية الروايات العربية لنستكشف كيف رسم كتابها المدينة داخلها، وكيف عبّرت تلك الروايات عن روح المدن، وكيف كانت المدينة بتصميمها ومعمارها وبنائها عاملاً مؤثرًا وفارقًا في عدد من الأعمال الروائية العربية، لاسيما تلك التي اهتمت بالمدينة بمفهومها الواسع بشكل كبير، وهكذا يهدف الكتاب إلى:

اختبار الأدوار التي يمكن أن يلعبها الإبداع الروائي في إعادة اكتشاف المدينة وعمارتها وعمرانها، فضلاً عن استشراف مجالات أو روافد إبداعية ملهمة يمكن أن تشكّل حقبة أو حقبات جديدة ومتوالية في العمارة والعمران المصري والعربي المعاصر.

وعلى نحوِ أكاديمي منظّم يبدأ الكتاب بالتمهيد للفكرة وعرض عدد من الأطروحات النقدية التي تناولت العلاقة بين الرواية والمدينة أو الرواية والمكان بشكلٍ عام، ويبدو في رصده أمينًا ودقيقًا إلى حدٍ بعيد في استجلاء المصادر المختلفة التي تناولت الموضوع على مختلف المستويات، بدءًا بالطرح الغربي للفكرة الذي يتجلى في كتابات عددٍ من النقاد والأكاديميين الذين تعرضوا لعلاقة الروائي بمدينته، على نحو ما فعله «فرانكو مورتي» في كتابه «الجغرافيا الأدبية» الذي حلل منظور «جين أوستن» لإنجلترا ورؤية تشارلز ديكنز لمدينة لندن وقراءة بلزاك لباريس.

يعرض أيضًا مقالاً مهمًا للناقد والأكاديمي المصري «صبري حافظ» نشر بالإنجليزية بعنوان «الرواية المصرية الجديدة التحوّل الحضاري والشكل السردي»، ركّز فيه على صورة القاهرة بوصفها مدينة مزدوجة ذات أصول إسلامية، ثم ما حدث لها من تحوّل إلى أن أصبحت على ما هي عليه «القاهرة الخديوية».

ويضيف باحثون آخرون أيضًا قاهرة أخرى، هي «القاهرة الجديدة» كما تناولتها الباحثة «مارا نارمان» التي توقفت لتبحث الفراغات العمرانية في الأدب المصري المعاصر، وخاصة ما يتعلق بمنطق تشكّل وتطور مدينة القاهرة وأوجهها المختلفة المتباينة التي رصدت في عدد من الأعمال الروائية، والطرح الذي قدمته «سماح سليم» في كتابها (الرواية والمخيلة الريفية في مصر)، حيث عرضت للتمزق الحاصل بين القرية المصرية والمدينة.

وكذلك كتاب «سامية محرز» المهم جدًا (أطلس القاهرة الأدبي) والجهد الذي قدمته فيه لاحتواء الأعمال الروائية التي تناولت القاهرة وكيف تم عرضها معماريًا، وكيف أثّر عمران القاهرة على شخصيات رواياتها من جهة، وكيف عبّر الروائيون عن ذلك المعمار، وذلك البناء من جهةٍ أخرى.

يمتد التأصيل النظري وعرض الإشكاليات التي تواجه الدراسة وأهمية المكان في الإبداع الروائي إلى مائة صفحة، يتم فيها تناول الفكرة من مختلف جوانبها، وعرض كيف يمكن أن تتحوّل شخصية المكان/المدينة إلى بطلٍ أساسي في العمل الروائي، ويعرض في فصل خاص معايير انتقاء الأعمال الروائية، والتي يتم تحديدها بأهمية مفهوم المكان لدى المؤلف/الروائي، وتنوّع الحقب الزمنية والأطر المكانية التي أبدعت فيها الأعمال الروائية، والقدرة النقدية في العمل الروائي على مواجهة عمران المكان.

إلا أن كل تلك الإشارات النظرية برغم قيمتها وأهميتها لا تكتسب فعاليتها ولا تنجح في جذب اهتمام القارئ إلا عندما يتحوّل الموضوع إلى الجانب التطبيقي، الذي يتناول فيه الباحث عددًا من الروايات التي تتناول المدينة وتركز على دورها.

تتميّز الرواية بامتلاك القدرة على أن ترسم تصورات ذهنية لدى القارئ لبعض الأماكن التي لم يزرها، ولبعض المدن التي لم يرها، هنا تصبح الرواية أشبه بفيلم سينمائي يقدم للمتلقي كل أبعاد الحياة في المجتمعات التي لا يعرف عنها سوى اسمها فقط، وأحيانًا يظل الاسم نفسه مجهولاً، فأبدع كثيرون في رسم مدنهم بحيث أصبحت تلك المدن واضحة في ذهن المتلقي، وهذه من وظائف الفن الذي يتجاوز المكان، ليستقر في أماكن أخرى، وقد أعطى المكان قيمةً للسرد الروائي، فبدون غموض المكان وخصوصيته وشاعريته تتداعى البنية الإبداعية للرواية.

يبدأ ذلك الجانب من الفصل الرابع المعنون «الرواية والمدينة العربية»، والذي يتوقّف فيها الباحث لتناول وجهات نظر عدد من الروائيين في المدن التي تناولوها في رواياتهم، يبدأ بالشام فيعرض لرؤية الروائي السوري الكبير «حنا مينة» في «المصابيح الزرق» وفواز حداد في «موزاييك دمشق» ورواية غادة السمان «فسيفساء دمشقية»، ثم ينتقل إلى بيروت عارضًا رواية واحدة هي «بيروت» لإسكندر نجار، لينتقل بعد ذلك إلى الرواية في الخليج، ثم الجزائر وتونس.

يبدو انحياز الكاتب واضحًا للقاهرة، إذ يفرد لها فصلاً خاصًا بعنوان «عمارة وعمران القاهرة في الإبداع الروائي المعاصر» عارضًا صورة بانورامية للروايات التي تناولت القاهرة على أربع أطروحات مهمة هي الطرح التراثي التأصيلي ويمثله «نجيب محفوظ»، و«جمال الغيطاني»، ثم الطرح التغريبي الذي يتناول القاهرة الخديوية ويشمل روايات محفوظ المتأخرة «ثرثرة فوق النيل»، و«قطعة من أوروبا» لرضوى عاشور، و«قالت ضحى» لبهاء طاهر، و«عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني، و«صالح هيصة» لخيري شلبي، ثم الطرح العشوائي الذي يمثله «يوسف إدريس» بقاع المدينة، وأعمال إبراهيم أصلان، ومحمود الورداني في «بيت النار»، ثم يقفز الكاتب إلى تصوير العمران خارج المدينة/ القاهرة كما عرضه فتحي غانم في «الجبل» وبهاء طاهر في «واحة الغروب»، لينتهي بعد ذلك إلى الرؤية المستقبلية للقاهرة كما صوّرها أحمد خالد توفيق في «يوتوبيا».

وهكذا على الرغم من اتساع مساحة العرض التي يقوم على أساسها الكتاب زمانيًا (من الثمانينيات حتى العصر الحالي)، ومكانيًا (من المحيط إلى الخليج) ليشمل طائفة واسعة من الروايات التي لم يتم تحديد دوافع اختيارها بشكلِ واضح، ومع تقديرنا الكامل لكون الدراسة على هذا النحو تفتح مساحة كبيرة ومتعددة للتفكير وتسعى جاهدة إلى تأصيل طريقة التحليل المعماري بأكثر من طريقة واعتبار، لكن القارئ سيلحظ بشدة أن الفصل الخامس في الكتاب مثلا، والذي تم التركيز فيه على القاهرة (من1944 حتى 2012) بشكلٍ خاص جاء أكثر تركيزًا وعرض وحلل أكثر من رواية من خلال أطروحات متعددة، ربما تساهم وتغيّر من وجهة نظر وتلقي القارئ للروايات التي يقرؤها أو يتناولها بالعرض والتحليل، كما تسهم بالتأكيد في توسيع مجال تفكيره وتلقيه لهذه الروايات.

ولاشك أن عددًا من الأعمال الروائية، لاسيما الحديثة، قد تناولت القاهرة بشكل خاص بطريقة مختلفة، والتي ربما تشترك مع رواية «يوتبيا» التي تناولتها الدراسة من حيث هي «قاهرة ماذا سيحدث للمصريين»، وربما يكون من المفيد هنا الإشارة إلى بعضها:

ما فعله «محمد ربيع» في رواية (عطارد 2014) حيث قدَّم تصويرًا كابوسيًا سوداويًا لما ستكون عليه القاهرة بعد عدة أعوام (2025)، حيث يتعرّض عدد من معالم المدينة للهدم والتدمير، كذلك ما قدمه «أحمد ناجي» في روايته (استخدام الحياة 2014) حيث يصوّر بطريقة سوداوية أيضا واقع القاهرة ومدى ما يعيشه فيها شبابها من بؤسٍ وما يلاقونه من صعوبات، ولا شك أن تلك القراءة يمكن أن تنسحب أيضًا على روايات أحدث تناولت رسمًا وتفصيلاً أكثر دقة لمدن ربما لم تكن العاصمة بينها، مثلما فعلته داليا أصلان في روايتها (المختلط 2016)، حيث جعلت من «المنصورة» مركزًا ومحورًا لأحداث روايتها التي أدارتها في فترة زمنية واسعة، واستطاعت من خلالها أن تحكي التاريخ الشعبي لمصر في تلك المدينة.

اقرأ أيضًا:رواية «المختلط»: بانوراما تاريخية في مدينة «المنصورة»

من جهةٍ أخرى تلفت قراءة «علي عبد الرءوف» لعدد من الروايات «الخليجية» مثلاً انتباه القارئ لروايات أخرى لم يتم ذكرها، وإن كانت تنتمي إلى نفس الفترة الزمنية والمكانية التي تناولها الكاتب، وتستعرض المدينة بشكلِ مفصّل لدرجةٍ تبدو فيها المدينة عاملًا مؤثرًا في السرد الروائي، من ذلك مثلًا ما قدمه الروائي السعودي «محمد حسن علوان» في روايته (سقف الكفاية 2002) حيث تحضر «الرياض» كمدينة شديدة القتامة تمارس ضغوطها على الأحياء، في مقابل مدينة «فانكوفر» الكندية التي تغرّب فيها رغم أنه مسكونٌ بمدينته التي قتلت فيه الحب والحياة.

على نحوٍ من ذلك أيضًا تحضر بقوة رواية رجاء الصانع «بنات الرياض 2005» التي عرضت شكل حياة الفتيات في تلك البيئة، وذلك المجتمع المنغلق، وكيف مثّلت المدينة/الرياض فضاءً سرديًا ضاغطًا ومؤثرًا على بطلات الرواية، وكيف استطاعت الروائية أن تعبّر عنه بكل صدق.

وإذا كان الكاتب قد تناول روايات «عبد الرحمن منيف» (خماسية مدن الملح 1988) كروايات دالة ومعبّرة عن مرحلة تحوّل المدن الخليجية إلى مدن نفطية، وأثر ذلك في شخصيات أبطال الرواية، فإنه كان من المهم الإشارة إلى روايات روائيٍ معاصر مثل «عبده خال» الذي اهتم بتشريح المجتمع السعودي في الفترة التالية لمرحلة الثورة النفطية، كما قدم قراءات مهمة لتلك المدن من وجهة نظرٍ أخرى مهمة في رواياته (مدن تأكل العشب 1998) حتى روايته (ترمي بشرر 2008) التي فازت بجائزة بوكر العربية، وتناولت مدينة «جدة» السعودية وما يدور فيها بين الأثرياء أصحاب القصور الفخمة والفقراء المعدمين الذين لا يجدون قوت يومهم.

وفي الجزائر على سبيل المثال، تعرّض الكاتب لروايات الزلزال للطاهر وطّار وبم تحلم الذئاب لياسمينة خضرا (2000) ولم يذكر ثلاثية أحلام مستغانمي المهمة (ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير) (1998 : 2005) ولا تحضر أي من روايات “واسيني الأعرج” التي تعد توثيقًا وتخليدًا للجزائر المدينة والناس بمراحلها المختلفة، وليست الجزائر فحسب، بل إن “الأعرج” يقدم مرثية مهمة وبديعة للقدس في روايته (سوناتا لأشباح القدس 2008) رابطًا فيها الحاضر بالماضي ومآسي الأندلس القديمة بمآساينا الحالية المتجددة.

وما يقال عن مصر والخليج والجزائر، يمكن أن يقال مثله عن لبنان مثلا، التي نذكر من روايتاها المهمة التي تناولت «بيروت» تحديدًا ثلاثية ربيع جابر (بيروت مدينة العالم 2003) ورواية حنان الشيخ (بريد بيروت 1996) ورواية هدى بركات (حارث المياه 2000) وغيرهم الكثير.

ولاشك أن القائمة تطول حول الروايات التي تناولت المدن، أو الروايات التي كانت المدن والأماكن بصفة عامة بطلًا أو عاملًا مؤثرًا في نفسية أبطالها، ولهذا ربما كان من الأفضل -في اعتقادي- أن يتم تحديد مساحة زمانية ومكانية لدراسة موضوعٍ كهذا، ولاشك أيضًا أن ما قدمه «علي عبد الرءوف» في هذه الدراسة المهمة يفتح مجالاً كبيرًا للدراسة والمناقشة، ويمنح قراءتنا للروايات من جهةٍ أخرى عمقًا وفهمًا آخر.