في المقال السابق تناولنا محورين بالتعريف والتعليل، الاغتراب كظاهرة كونية، وكمفهوم فلسفي، وفي الشق الثاني من المقال تحدثنا عن الجالية العربية في أوروبا ومعاناتها التي ولّدت حالة اغتراب عن المجتمعات التي يعيشون فيها، واضطرابًا لدى الشباب.

وهنا في الجزء الثاني من الموضوع سوف نوضح أثر الاستقطاب الديني على عرب أوروبا، وبروز أزمة الهوية بينهم، فيما الأغلبية ساكنة تجاه أزمتها، مما جعل الحصاد العربي في أوروبا علقمًا.


استقطاب ديني

إن الاستقطاب الديني خلال السنوات الماضية للعرب المقيمين في أوروبا عرقل بشكل ملحوظ اندماج هؤلاء وأبنائهم في المجتمعات الجديدة، وجعل ارتباطهم بالقضايا العربية يحدده العنصر الديني، مما أبعد أيضًا كثيرًا من الناشطين الأوروبيين عن المشاركة بأية فعاليات تضامنية أو مظاهرات مع العرب؛ لأن دوافعهم للمشاركة هي دوافع إنسانية يمليها الجانب الأخلاقي لا الديني.

وهذا ما شاهدناه ونشاهده باستمرار في العديد من العواصم الأوروبية، إذ لا يرغب الفاعلون الأوروبيون في المشاركة بأنشطة يتم من خلالها إقصاء المفاهيم الإنسانية ويحضر فيها الانتماء الديني بشكل جلي، لأنه يحرض الآخرين على مهاجمتهم من أتباع أديان أخرى، ويمنح اليمين المتطرف الذريعة لتصعيد خطابه المعادي للعرب والمسلمين، حيث يعتمد بعض قادة هذا اليمين خطاب التنبيه من خطر «الغزو الإسلامي» لأوروبا، يقابله خطاب آخر محافظ من جانب بعض الجهات المسلمة التي تغذي روح العداء لـ«الصليبية واليهودية».


أزمة هوية

واقع الجاليات العربية في أوروبا الذي يفتقد لمنهجية عمل مشتركة، وسياسات الإقصاء والتهميش التي تعتمدها بعض الدول الأوروبية، أدت إلى ظهور أزمة هوية لدى الجيل الثاني والثالث من المهاجرين.

فلا هم ينتمون إلى بلدان آبائهم وأجدادهم، ولا هم ينتمون إلى بلد إقامتهم، على الرغم من أن عددًا منهم قد ولد في هذه البلاد ويحملون جنسيتها ويتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة. وتستغل الأحزاب اليمينية هذه الظاهرة للقول إن المهاجرين يجدون صعوبة في الاندماج.

الواقع العربي الراهن المتأزم، والذي يعاني من انسدادات سياسية واقتصادية وثقافية، يدفع عددًا من العرب للإصابة بمتلازمة الهزيمة الحضارية التي تعاني منها الأمة العربية، لأن الانكسارات التي أصبحت سمة للعرب، وكذلك التخلف والجهل والجوع والأمراض والحروب والأمية والقمع والعنف، كلها مرادفات للعرب>

فأصبح الكثيرون من العرب في أوروبا يشعرون بالخجل والعار لانتسابهم للأمة العربية، حتى صارت اللغة العربية وتراثنا موضع خجل من قبل البعض. إن سعي البعض للتنكر للهوية هو سلوك يهدف إلى إزاحة مسئولية الهزيمة التي نعانيها عن كاهله، فتراه ينسلخ من هويته الحقيقية ويحاول أن يجد لنفسه هوية أخرى تعوضه عما فقده.

وأمام التجاذبات السياسية والدينية بين أفراد الجاليات العربية في أوروبا، تبرز بعض الأصوات التي تقدم تفسيرًا ضيقًا ومحرفًا للنصوص الدينية وللفكر الإسلامي. الأمر الذي يمنح القوى اليمينية الأوروبية المتطرفة الحجة والذريعة لمواصلة هجومها على العرب والمسلمين، ويعطي خطابها نوعًا من المصداقية أمام مؤيديها.

ثم يظهر في المشهد سلوكًا مرعبًا من بعض العرب والمسلمين لتكتمل الصورة. هذه التصرفات نتيجة متوقعة للأثر الذي تحدثه بعض المفاهيم المتطرفة لدى قسم من رجال الدين المسلمين، ونتيجة الفهم الخاطئ للعقيدة الإسلامية. فلا عجب في أن نرى سائق حافلة مسلمًا في إحدى المدن البريطانية أوقف المركبة بعد أن أغلق الأبواب وأدى صلاته في الباص.

ولماذا الاستغراب إن قام أحد العرب أو المسلمين بقتل أخته أو زوجته أو ابنته بدافع الحفاظ على الشرف. ثم يظهر لك إمام مسجد في بريطانيا أو فرنسا أو هولندا، ويقوم بتحريض المهاجرين المسلمين على عدم الانقياد والانصياع لقوانين البلدان المضيفة لأنها «بلاد حرب» وقادتها من «الكفار»، والمسلمون فيها يجاهدون لأجل بسط الهداية. نعم هي تصرفات محدودة، لكن للأسف فإن الأثر الذي تخلفه مسيء جدًا إعلاميًا وتعبويًا.

إن سؤال التاريخ باعتباره جزءًا من مكونات الهوية يجب عدم إسقاطه ونحن نتحدث عن اندماج العرب في المجتمعات الغربية، خاصة الشباب الذين تقتضي هويتهم المزدوجة انفتاحًا على الآخر، وإحداث مقاربة متوازية تحفظ حقه في معرفة أصوله ووطن أبويه وأجداده، وتاريخه ولغته الأم. ولا تتطلب مواجهة سياسة اليمين الأوروبي -بظني- انغلاقًا من العرب وتصلبًا في مواجهة الآخر.

فهوية المهاجرين العرب بعمقها التاريخي والقومي هي قضية ثابتة وليست في حالة جمود، لأنها في الأصل حصيلة وخلاصة لتاريخ طويل وممتد من التجارب الثقافية والانصهار الحضاري، وكذلك المزج الإنساني، لذلك فهي عملية تفاعلية تمالك قابلية التغير والتكيف والتعايش مع الهويات الأخرى، بما يحقق الانسجام باختيارات واعية وفي سياقات تكفل التعادل والتكافؤ، مما يؤدي إلى غنى وإثراء ثقافي وإنساني للهوية.


أغلبية صامتة

تتعدد الأنماط الحياتية للعرب في أوروبا، منهم مندمج ومنسجم بالكامل مع الشروط المعيشية للبلدان التي يقيمون فيها وهم قلة قليلة، وجزء منهم يرفض ثقافة المجتمع الغربي وينعزل على نفسه وأسرته، وهناك الأغلبية التي تمارس خليطًا من هذا وذاك، تشارك مجتمعيًا مرة، وتنزوي مرة أخرى. لكن يمكننا القول بوضوح إن الغالبية العظمى من الجاليات العربية في أوروبا هي غالبية صامتة، ذات موقف سلبي من المشاركة والمساهمة في الشأن العام.

ربما يعود ذلك في أحد جوانبه إلى أن لا وجود لمشاركة سياسية حقيقية للمواطنين في معظم البلدان العربية التي أتى منها هؤلاء المهاجرون، وبالتالي نحن أمام ناس لا يمتلكون ثقافة ووعيًا سياسيًا. هناك عامل آخر خلف إحجام بعض العرب عن المشاركة السياسية في البلدان الجديدة، هو الخوف الذي حملوه في حقائبهم من بلدانهم، هذا الخوف الذي يجعلهم يظنون أن أية مشاركة لهم في الشأن العام قد تعرض وظيفتهم ومكاسبهم الاقتصادية للخطر.

إضافة إلى العامل الديني الذي يساء توظيفه وشرحه ونقله وإظهاره للآخر بصورة مشوهة. هي الصورة التي تقدمها بعض الجماعات الإسلامية في بعض الدول الأوروبية بغير قصد أو معه، من خلال مشاركة العشرات من المسلمين المتشددين الذين يهتفون ويدعون للجهاد ضد الكفرة الصليبيين الذين يشارك الآلاف منهم في نفس المظاهرة التي نظموها دعمًا للقضية الفلسطينية أو لقضايا عربية أخرى.

بالرغم من ندرة هذه المشاهد خاصة خلال السنوات الأخيرة فإنها تشكل عاملًا محبطًا للقوى الأوروبية المتضامنة مع القضايا العربية، وتمنح اليمين الأوروبي المتشدد مادة لتصعيد خطابه المعادي.


حصاد مر

إن سعي البعض للتنكر للهوية هو سلوك يهدف إلى إزاحة مسئولية الهزيمة التي نعانيها عن كاهله، فتراه ينسلخ من هويته الحقيقية ويحاول أن يجد لنفسه هوية أخرى تعوضه عما فقده.
إن المشهد العام للجاليات العربية في أوروبا هو انعكاس لوضع المجتمعات العربية ذاتها. إن جميع الانقسامات والخلافات والمشاحنات بين تلك الدول، تجد لها صدى فوريًا في الجاليات.

في الحصيلة يظهر مشهد الجاليات العربية في أوروبا شائكًا ومتعثرًا ومنقسمًا وفوضويًا، تمزقها الانتماءات الطائفية والمذهبية والقبلية والمناطقية، وتفرقها الولاءات لهذا النظام أو الزعيم أو ذاك، مشهد يخلو من أي تأثير لأبناء الجاليات في المجتمعات الأوروبية -باستثناء حالات قليلة جدًا.

هذا الوضع المختل تستغله جماعات الضغط الأخرى، خاصة اللوبي اليهودي-الصهيوني، للإساءة إلى صورة الجاليات العربية. والبعثات الدبلوماسية العربية -معظمها- تلعب دورًا سلبيًا في استقطابات سياسية وحزبية تعمق الفرقة بين أبناء الجالية، وبين أبناء القطر الواحد أنفسهم.

لكن بالرغم من هذه الصورة التي لا تعبر عن عافية، لا بد من الإشارة إلى بعض التجارب الإيجابية والمشرفة لبعض أبناء الجاليات العربية في بعض الدول الأوروبية، في فرنسا وإسبانيا وهولندا وإيطاليا وبلجيكا والدنمارك والسويد، ووصول عدد من أبناء الجاليات إلى البرلمانات ومجالس البلديات، وحتى تقلد مناصب وزارية.

إن المشهد العام للجاليات العربية في أوروبا هو انعكاس لوضع المجتمعات العربية ذاتها. إن جميع الانقسامات والخلافات والمشاحنات بين تلك الدول، تجد لها صدى فوريًا في الجاليات، وأي إنجاز حضاري وثقافي وسياسي واقتصادي يتحقق في البلدان العربية، سوف ينعكس إيجابيًا على واقع المهاجرين.

من الحقائق التي يجب التذكير بها أن المهاجرين العرب والمسلمين في الكثير من الدول الأوروبية، أصبحوا جزءًا مهمًا ومكونًا رئيسيًا من تاريخ وثقافة وحاضر هذه الدول. فقد ساهم الآلاف من المسلمين في الشمال الأفريقي ببناء فرنسا حين كانت إمبراطورية وحين أضحت جمهورية، ومنهم من ارتبط بثقافتها، والكثير من هذه الشعوب دفع جزء من أبنائها حياتهم في إعادة إعمار فرنسا الخارجة من الحرب العالمية الثانية لتبدو كما هي عليه الآن.

وكذلك الحال بالنسبة لبريطانيا التي ساهم أبناء مستعمراتها السابقة من العرب والمسلمين في نهضتها. وفي ألمانيا قام العمال الأتراك بدور فعال في إعادة بناء الاقتصاد الألماني المنهار بعد الحرب، وأصبحوا مكونًا من مكونات الحياة الألمانية. لذا تبدو سياسة التخويف من المهاجرين المسلمين، التي يعتمدها اليمين الأوروبي المتطرف في خطابه الشعبوي، سياسة تتناقض مع ثقافة التعايش بين المهاجرين والأوروبيين التي كانت سائدة قبل ارتفاع صوت اليمين.

من المهم أن يدرك العرب المهاجرون في أوروبا أنهم جزء أساسي من المجتمعات الأوروبية التي يقطنونها، وأن بإمكانهم توسيع مشاركتها وتعزيز فاعليتها في الشأن العام، من خلال استغلال المناخ الديمقراطي والبدء في الانتقال من حالة السلبية والحيادية إلى الحيوية والنشاط، والابتعاد عن الكسل، وتوظيف العامل الثقافي وليس الديني في مقاربة سياسة الاندماج بما يحقق التقارب مع ثقافة البلدان التي يعيشون فيها، وليس التنافر معها.

رغم وعينا بالأثر المحبط الذي تحدثه المواقف العنصرية لبعض القوى الأوروبية تجاه المهاجرين العرب وسواهم، إلا أنه لا طريق ثالثًا أمام عرب أوروبا، فإما المشاركة الإيجابية وإما الانكفاء والتقوقع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.