انجذب المواقفيون بقوة إلى طلائع الدادائية والسريالية، وقد نشأتا تزامنًا مع الحرب العالمية الأولى واستمرتا بعدها كتيارين طليعيين حرضا بمنتهى القسوة الراديكالية ضد الفن بوصفه اختصاصا، ودعتا إلى ممارسته ودمجه كجزء من الحياة اليومية ضمن عالم سيتيح للبشر إطلاق ملكاتهم بشكل فوري دون تنميطها «لخلق أجواء وتحقيق فانتازيات»* غير محدودة.

ولأن رؤيتهم لم تتوقف عند الحد الذي يسمح بممارسات فردية تنقلب عليهم لتعود اختصاصًا، ولأنهم وجدوا في المزيد من الخبرة الفعالة و«المزيد من الكثافة والرغبة» إمكانية عالم آخر أكثر لذة وشعرية، فقد شعروا بأن الواقع النشوان الممتع مُخبأ خلف الاستعراض، وبأن الحياة الفعلية التي تاقوا للالتحام بها بشدة مسلوبة من البشر.

أخذت الدادا على عاتقها مهمة تخريب كل الثوابت في حضارة أحبطتها مشاهد الحرب والنفاق الأخلاقي البرجوازي، بحثت الدادا عن أنماط جديدة للغة، وأشكال جديدة للتعبير الفني المارقة عن معايير الفن البرجوازي تجلت في فن القص والتركيب الصوري (الكولاچ) وفي الأعمال الفنية مسبقة التجهيز كمبولة مارسيل دوشامب التي ألصق عليها اسم: نافورة.

لقد بينوا أن مجرد الطرح – ابتكار – المجازي الدقيق والشاعري لرؤية أو فكرة جديدة للأشياء المادية – تزيح طبيعتها المنطقية المُدركَة بواسطة العقل البشري- كفيل بإنتاج فن، كما رأوا في التعبير اللغوي بحروف منفردة والأصوات غير المنتظمة إمكانية صادقة للتعبير الفني.

مارسيل دوشامب: النافورة
مارسيل دوشامب: النافورة، دورية الأعمى، العدد الثاني، مارس/آذار 1917

فيما أعادت السريالية اكتشاف الحياة عن طريق اللاوعي، وجربت آليات للكتابة الحرة والرسم تشبه أسلوب التحليل النفسي الفرويدي «التداعي الحر» كانت بعض تجلياتها رواية نادجا لأندريه بريتون ولوحات سلفادور دالي.

وبينما اكتفت الدادائية بالاستفزاز والتحريض على الثوابت بُغيَة تخريبها دون وجهة واضحة، فقد وعدت السريالية بإمكانيات هائلة للمتعة وتحقق الخبرات محجوزة داخل الخيال في حاجة للانطلاق فورًا، وكانت الخطوة المهمة بالنسبة لهم هي إنهاء الرأسمالية التي تضحي بمتعة الحياة «على مذبح الإنتاج والاستهلاك البرجوازيين» لذلك فقد تماهوا مع الماركسية – خاصة بريتون محرك سريالية باريس – كأداة للتغيير السياسي وتمكين البرولتياريا، أداة لا يمكن أن تمس إمكانيات التمتع والإبداع الفردي.


ركض متواصل

ستتحول الحياة إلى عملية ركض متواصل ينسحق فيها تحت الحشود من يتوقف ليلتقط أنفاسه
الفيلسوف الألماني «كارل ماركس»

كلعبة القفز على الحبل يَكون الاستلاب فبينما يُصوَر الذهاب للعمل بالقفزة الأخيرة التي سيتوقف بعدها المرء ليواصل الحياة؛ يكتشف أن الحبل مستمر فى الدوران وأنه تساقط على الأرض مباشرة إلى القبر؛ الحبل كان حياة منهوبة قضاها في تأمل الحياة الحقيقية.

إنه الواقع المخبأ خلف شبكة من التمثيلات، الخبرات المؤجلة إلى ما لا نهاية، التواصل المُقيَّد بتقسيم العمل والعقلانية الأداتية المفرطة – المنبثقة عن روح الرأسمالية – التي تُنمِّط التواصل والحوار بين البشر- مجموعة من المتخصصين يتحدثون عن كيفية عمل الأشياء؛ فيما تنسحب العاطفة الجريئة الواضحة والتضامن الإنساني تدريجيًا من الحديث.

رغب المواقفيون في الالتحام الحسي المباشر مع العالم دون توسطات؛ ضمن حالة غير مسئولة أو مرهونة بإلارجاء القسري للمتعة – في التمتع بالتواصل المباشر خارج توسطات السلع – التي تصر على إرجاء الإشباع بصورة لا نهائية – والتي تفصل بين ذوات البشر وبعضهم البعض وبينهم والعالم.

حتى في أوقات الفراغ المشروطة بمواصلة العمل ينفصل المرء عن ذاته وعن الالتحام بكليته في الخبرة المعيشة؛ يظل الإنسان منشغلًا بالتركيز على «البقاء» في آليته غير الطبيعية – أي الناتجة من مواجهة الإنسان لقوى الطبيعة – لكنها الآلية المصطنعة التي يشكلها الاستلاب بوصفه صراعًا موضوعيًا – يحاول أن يُؤبّد نفسه – بين الإنسان وذاته.

يرغب المواقفيون في امتلاك التجربة الخالصة لذات تمتلك وقتها وقرارها، إنها «خبرة الاندماج الكامل، لحظة الإسراف المطلق، والوحدة والتشارك الحميم، والاكتمال التام،إنها تجربة الأنبياء والشعراء بل العشاق ومتعاطي المخدرات». فقدان القدرة على التفكير في العالم أو حتى التأمل فيه، الإنسان النشوان لا يملك التعبير عن الذات، لأنه يشعر بوحدة تفصله عن العالم الوضعي.


عالم من المتع لِنَكسبه

تتفكك الحياة اليومية وتتحول كما بينها الاجتماعي والفيلسوف الفرنسي لوفيفر في كتابه ( نقد الحياة اليومية) إلى جري متواصل بحثا عن تحقق الذات في مجاراة السلع يحاول المرء عبثا الفرار من اعتياد الأشياء إلى اعتياد الأشياء.

وما يَتكشّف خلال عملية الركض هي إمكانيات مطمورة ضمن جوهر الحياة اليومية يصورها لنا المفكر البلجيكي راؤول فانيجيم في كتابه «ثورة الحياة اليومية» الذي يؤكد فيه ضرورة البحث عن عناصر الخبرة الفعلية خلف واجهات الاستعراض والتقاطها؛ والتمسك بها كعماد أساسي لا يكون المشروع الثوري دونه سوى جثة ترطن بأحاديث بالية عن التغيير الاجتماعي بغير التطرق إلى جوهر الحياة اليومية الذي يشكل المجتمع والذي تتسرب من خلاله آليات الاستعراض في محاولة عتيدة لإخضاعه.

انطلق فانيجيم من رغبة المرء في تحقيق ذاته الفردية؛ رغبته في أن «يصنع من حياته اليومية شيئا»، إرادة التمتع بالحياة في تفاصيلها الناشئة عن الحب، الرغبة، والتعاطف، تلك الإرادة التي تشكل محرك الاستعراض -عن طريق استغلالها في التجديد اللانهائي للرغبات الزائفة التي تشكلها السلع للحفاظ على دورتها- لكنها تشكل أيضا مُحرك النفي الجذري للاستعراض عن طريق التنقيب عن مصادر المتعة الحقيقية المطمورة عمدًا بين خبايا الحياة اليومية.

الحياة هي بالفعل هنا. وليست فيما ينظمه المرء من «أنشطة أو تلهيات متخصصة» تحاول الهروب من حقيقة أن حياته اليومية هي نفسها مصدر المتعة الأساسي، وأنه لا مكان لنشاط تعويضي عن النشوة الناتجة عن الحب والتواصل وممارسة الفن باعتباره – ليس اختصاصًا- وإنما مكون للتجربة الإنسانية برمتها.

والانطلاق في سلسلة من تحقيق الرغبات دون انتظار إذن مسبق أو تأجيلها تبعا لشروط الاستلاب التي تفرض هذا أو ذاك، وصف النشاط نفسه بالتعويضي يدل على مدى إدراكنا لعبثية و«بؤس التنظيم السائد للحياة»، إذا أطلقنا على اللحظات التي نحظى فيها بالمتعة لفظ ملهاة، فهذا دليل على عجز الحياة اليومية بشكلها الحالي في الإيفاء بالتزاماتها تجاهنا، وتحولها إلى عذاب يُوجِب التًلهّي عنه بقدر الإمكان، وهو ما يبرر ضرورة تحول الحياة اليومية نفسها إلى ملهاة نحظى فيها بكل المتع الحسية والمادية الممكنة التي وفرتها لنا آلة ضخمة ظلت تزمجر فوق رؤوسنا قرونًا عديدة فيما يحظى ملاكها بكل المتع الممكنة ولا يحصد أصحاب القيمة المُنتَجة الحقيقيون سوى الصمم عن النداء الحقيقي للحياة.

جي ديبور (من اليسار) رفقة راؤول فانيجيم

رأى فانيجيم الثورة كلعبة يتم فيها الاحتفاء بالحرية والتواصل الإنساني الذي يحول أيامًا معدودة إلى ذاكرة ضخمة من العاطفة الخالصة والانفعالات الحسية المنتشية ببهجة اللحظة الثورية، لقد رأى في اللعب: وسيلة لنزع كل مُقدس والكشف عن كل أشكال الحرية، وضرورة لخلق ثورة دون توسط أو جمود أو مراتبية، ثورة تصل إلى وجهتها في ذات اللحظة التي تنطلق في السعي إليها، وجهة الاختيار الحر- جوهر اللعب- للأدوار التي يرغب الفرد في عيشها.

ولأن اللعب هو نفي الانفصال عن الحياة اليومية الذي يشكله الاستلاب، فإنه سيصير «النشاط المحوري للحياة اليومية» للمجتمع الجديد القائم على أطلال الاستلاب. إنه شبح ماركوزه يلوح في الأفق حين يقول: «اللعب منسجم مع الذات وحريتها، أما العمل فيقيد الذات ويسلبها حريتها، اللعب هو الآلية التي تخلق بها الذات نفسها بمعزل عن العالم»**.

يضيف فانيجيم إلى اللعب الحب «الذي يقدم النموذج الأكمل للتواصل، الذروة الجنسية، الاندماج الكامل لكائنين منفصلين، قبس من كون متغير»، والعطاء الذي هو وسيلة التبادل الجديدة في «مجتمع يخترعه سادة بلا عبيد». مع ذلك فإن فانيجيم لم يكن ذلك الطوباوي الذاتوي الحالم؛ المنفصل عن الموضوع، فقد رأى أثر الشروط الموضوعية المتغيرة والمتطورة على الذات، لقد رأى كما رأى ديبور أن الرغبة الذاتية في الحياة هي «قرار سياسي» وبما أن السياسة هي الصراع الدائر داخل المجتمع فإن ضرورة تغييره هي ضرورة لتحقيق الذات.


الشُهرة وتقسيم العمل

في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية لابد من التقسيم المستمر للعمل، أي صناعة التخصص باطراد، وهو ما يؤدي إلى الانفصال بالفرد عن المجموع الكلي للخبرة، وبالتالي تدمير كل صورة عن المجموع كما يرى أحد فلاسفة فرانكفورت جورج لوكاتش، ضمن هذا النمط تتطلب كل أساليب الحياة الالتزام المعرفي المتخصص الذي لا يجوز المساس به، قاعدة لا يجوز كسرها إلا عند حاجز النجومية أو الشهرة، وبكل استهزاء وفجاجة حيث «الخبير في مجال واحد صالح لإصدار الأحكام عن أي مجال آخر، ويمكن للسياسيين الانزلاق إلى العمل الإذاعي والرياضيين إلى البرلمان بسهولة تكشف عن خواء كل الأدوار الاستعراضية».

للشهرة وظيفة أخرى هي تقديم كل ما يعجز المشاهدون عن تحقيقه من مظاهر استعراضية وإجبارهم في ذات اللحظة على التماهي التام معه، المشهورون هم نموذج السيولة التي هي لا جوهر الاستعراض، دعوة للتماهي مع كل شيء وأي شيء، إبعاد مستمر لما يجب أن يكون الواقع عليه إلى امتثال لما يكون عليه النجم، إنهم الصورة المُثلى للاستعراض، النجم هو «الكل الاستعراضي القادر على شراء كل الأشياء التي في المتجر والمتجر نفسه»، لكنه بالرغم من ذلك مجرد جزء أصغر حجما بكثير من الكل الذي يستوعبه.


حجر الزاوية

جي ديبور رفقة راؤول فانيجيم
للنظرية المواقفية أربعة أحجار، هي: الذات، التاريخ، الطبقة، الرغبة.

الرغبة تحفز البحث عن الذات المطمورة ضمن عناصر الواقع المستلب، واقع لابد من تغييره على يد «الطبقة» التي لم تزل تُفتّش عن نفسها بعد أن فقدت كل سيطرة على حياتها، بينما تستمر محاولات الأيديولوجيا المُسيطِرة تقديم مسكنات لإحباط رغبة الطبقة في بناء حياة حقيقية، فإنها «تخفق في الإشباع وتميل إلى حفز إرادة بناء وحدة اجتماعية حقيقية تعمل كسلاح ثوري» في سبيل بناء التاريخ الحقيقي العادل للبشرية.


*جميع العبارات الواردة بين علامتي النص « » مقتبسة عن الفصلين 2، 3 من الكتاب.** من مقال للفيلسوف هربرت ماركوزه بعنوان «حول الأساس الفلسفي لمفهوم العمل في علم الاقتصاد».