العلاقة بين الفن والسلطة علاقة أزلية، بداية من نحاتي المعابد وعلاقتهم بالفراعنة، مرورًا بشعراء الدولة الإسلامية في بلاط الخلفاء، وصولًا لأغاني حليم وجاهين في تمجيد ناصر، ومونولوجات «اخترناه» بصوت حسن الأسمر، وتراتيل التقرب للجيش في «تسلم الأيادي». لم تكن العلاقة بهذا الشكل الحميم دائمًا وأبدًا، كانت مضطربة في بعض الأحيان، وعدائية في أحيان أخرى.

حكايتنا اليوم عن تلك العلاقات العدائية، عن فنانين مصريين عبروا عن غضبهم ورفضهم ومعارضتهم السلطة المصرية، وبالتحديد تلك السلطة التي استحوذت على الحكم في مصر منذ يوليو 1952 وحتى اليوم. ناصر، والسادات، ومبارك، وأخيرًا السيسي، وجوه مختلفة لرؤساء مصريين ذوي خلفيات عسكرية، يرون الفن كأداة للحماسة وخدمة الوطن، الوطن الذي يبدو في أحيان كثيرة هو النظام، وحده لا شريك له.

نبدأ تتبعنا لهذه الثنائية اليوم من خبر إلغاء نقابة الممثلين المصريين عضوية كل من عمرو واكد وخالد أبو النجا، نتيجة موقفهم المعارض للتعديلات الدستورية التي ستغير مواد فترات الرئاسة في مصر، ونعود لنلقي نظرة على موقف السلطة المصرية في فترات سابقة من معارضيها من أهل الفن. بين العصا والجزرة، وبين الهروب والسجن.


فاتن حمامة وناصر: سيدة الشاشة تهرب من زوار الفجر

في منتصف الستينيات كانت فاتن حمامة هي النجمة الأهم لهوليوود الشرق. كانت حمامة هي النجمة الوحيدة تقريبًا التي يوضع اسمها قبل من يقومون بالبطولة الرجالية أمامها، رغم ذلك كله لم تكن فاتن حمامة في مأمن من مخابرات صلاح نصر.

كان جمال عبدالناصر مهتمًا بشكل خاص بالفن والأدب، كان الرجل يرى في مصر مركزًا ثقافيًا وفنيًا في مركز الوطن العربي، لكن رجاله كانوا يرون في المجال الفني فرصة سانحة لتجنيد عناصر أمنية ومخابراتية، دون أي قيود أخلاقية بالطبع.

كان رئيس جهاز المخابرات، صلاح نصر، مولعًا بشكل خاص بتجنيد نجمات السينما، وتصوريهم في أوضاع مخلة لضمان ولائهم، هكذا تم الحكم عليه لاحقًا في القضية الشهيرة باسم «انحرافات المخابرات»، والتي شهدت فيها اعتماد خورشيد ضد المخابرات.

لم تصرح فاتن حمامة بشكل صريح بأن جهاز المخابرات سعى لتجنيدها، في حين تؤكد ذلك شواهد عديدة منها تصريحات زوجها السابق عمر الشريف، إلا أن فاتن حمامة قد صرحت في لقائها المصور مع الصحفي مجدي الجلاد أنها تركت مصر لأنها لم تكن تشعر بالأمان في عصر زوار الفجر.رحلت فاتن عن مصر عام 1966، تنقلت بين بيروت وباريس ولندن، ولم تعد حتى مات عبدالناصر، وتم سجن صلاح نصر.

عمر الشريف أيضًا كان هدفًا لجهاز المخابرات، فقد صرح في لقائه التلفزيوني مع قناة «بي بي سي العربية» بأنه قد طلب منه في إحدى المرات أن يعمل كطعم ضمن عملية اغتيال مدبرة من المخابرات، وتضمن دوره القيام بمرافقة سيدة ما وإقامة علاقة معها. يحكي عمر أنه توقف في وسط العملية وأبلغ جهاز المخابرات بعدم قدرته على القيام بما هو مطلوب منه، ومنذ ذلك الحين و هو يتعرض لمضايقات مستمرة حين قيامه باستخراج تصاريح السفر للخارج. استمر عمر في هجرته الإجبارية عقب ذلك حتى توفي ناصر أيضًا.


الفاجومي والسادات: عين حرس للبتاع وبرضه مات مقتول

يمكننا اعتبار أحمد فؤاد نجم بمثابة العدو الأشرس للرئيس الراحل محمد أنور السادات. كان الفاجومي دائم السب للسادات، لدرجة أن السادات اعتاد تسميته بالشاعر البذيء.

قضى نجم معظم فترة حكم السادات داخل السجن، وفي السجن أيضًا قام بتأليف قصيدته الشهيرة التي يبدأها «كل ما تهل البشاير من يناير كل عام»، والتي يحكي نجم أنه قد قام بحفظها وترديدها في زنزاته، ثم قام عقب ذلك بنشرها كاملة دون أن يدونها كتابة.

الحادث الأشهر في تاريخ نجم والسادات هو تلك القصيدة التي ألفها نجم في ذم سياسات الانفتاح، والتي قام السادات باعتقاله على إثرها، إلا أن نبوءة القصيدة قد تحققت باغتيال السادات، حيث كتب نجم قبل حادث المنصة في ختام قصيدته «البتاع»، بيتًا تنبأ فيه بكل شيء، حيث بدأت القصيدة: «ياللي فتحت البتاع، فتحك على مقفول»، وانتهت: «عين حرس للبتاع وبرضه مات مقتول».


شريهان ومبارك: يناير هي الحقيقة الوحيدة

شريهان هي فتاة أحلام جيل نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات بلا منافس، الممثلة الاستعراضية خفيفة الظل، صاحبة الموهبة الكبيرة في أداء الأدوار الدرامية والاستعراضية و الكوميدية أيضًا.

القصة الشعبية المتداولة عن الفترة التي شهدت ابتعاد شريهان عن الأضواء في نهاية التسعينيات هي أنها تعرضت لحادث مدبر نتيجة رغبة أحد أبناء مبارك في الارتباط بها على خلاف رغبة سوزان مبارك.

الحقيقة أن شريهان قد تعرضت لحادث أدى لكسر مضاعف بالعمود الفقري، كما أنها نفت أكثر من مرة حقيقة قصة ارتباط أحد أبناء مبارك بها، لكن الشواهد أيضًا تبدو مرجحة لوجود ظلم مباشر وقع من مبارك وعائلته ضد شريهان، وهو ما أكدته شريهان في تصريحات كثيرة، أبرزها تصريحها الشهير في مكالمة هاتفية مع محمود سعد عقب تنحي مبارك على التلفزيون المصري، وتصريحها في مكالمة هاتفية مع قناة الجزيرة في مساء جمعة الغضب يوم 28 يناير.

تكثر الحكايات، ولكن الحقيقة الدامغة أن بطلة التسعينيات الأبرز قد اختفت تمامًا، ولم تعد للظهور سوى في يناير 2011، يصاحبها الهتاف الشهير:


أبو النجا وعمرو واكد في مواجهة عصر الرئيس الأبدي

يسقط يسقط حسني مبارك.

تعرف الجمهور المصري بشكل جديد على نجوم السينما من خلال يناير 2011، فوجئنا بثوار لم تكن نتوقعهم، وبملتصقين بكرسي الحكم كنا نظنهم ثوارًا. وفي وسط مفاجآت يناير تعرفنا بشكل جديد على خالد أبو النجا، وعمرو واكد، نجمي الشباك اللذين أصبحا مهتمين بالسياسة أكثر من اهتمامهما بالفن.

أبو النجا خريج الهندسة الذي درس التمثيل بالجامعة الأمريكية لا يتردد في وصف الأشياء في مصر بمسمياتها، ولا يحسب كلماته قبل انتقاد مؤسسة أو حكومة أو رئيس. أما واكد فقد أصبح الوجه الأكثر ظهورًا في مجموعة الأفلام التي حاول من خلالها السينمائيين المصريين تأريخ يناير، ومنها «18 يوم»، و«الشتا اللي فات».

لم يكن تحرك أبو النجا وواكد مفاجئًا إذ في نهاية مارس 2019 حاولا بدء حملة معارضة للتعديلات الدستورية التي يهدف من خلالها النظام المصري منح فترات رئاسية جديدة للرئيس الحالي، لكن الجديد كان تحرك النظام المصري.

في حين فضل نظام ناصر السماح لبعض معارضيه بالهروب، أمثال فاتن حمامة، وفضل نظام السادات اعتقال بعض كبار منتقديه، أمثال نجم، وفضل نظام مبارك تدبير حوادث لإبعاد بعض ضحاياه خارج المشهد، والأمثلة هنا كثيرة، فقد فضل النظام الحالي أن يغض الطرف عن واكد وأبو النجا وأن يستخدم طرقًا غير مباشرة لاغتيالهما معنويًا.

الطريقة الأولى، بالطبع كانت تجريدهم من صفتهم النقابية كممثلين مصريين، وذلك من خلال بيان نقابة الممثلين المصرية الذي اتهمهما بالخيانة والعمالة بشكل مباشر، أما الطريقة الثانية، فكانت من خلال حملة إعلامية تستهدف النيل من شرفهما وكرامتهما ولا تتورع في تلفيق الصور والحكايات، والمثال الأوضح هنا بالطبع سيكون غلاف مجلة «حريتي».

يبدو إذن صراع الفن والسلطة ممتدًا، تتغير الوجوه والأساليب، لكن يبقى الطريق واحدًا، محاولة للتمرد في مقابل محاولة للكسر والسيطرة والتطويع.