منذ أواسط القرن العشرين والسينما الآسيوية ضيف دائم على مختلف المحافل السينمائية الدولية. فبحلول عام ١٩٥١ انفتحت أبواب العالمية على مصراعيها أمام الآسيويين كي يكسروا حاجز المحلية وتعدوا إبداعاتهم نحو العالمية بخطوات سريعة ومذهلة. واليوم وبعد مرور أكثر من ستين عامًا على أول جائزة سينمائية دولية في تاريخ السينما الآسيوية -الأسد الذهبي بمهرجان فينسيا لـ«Rashomon» من إخراج «أكيرا كوروساوا»- نجد أن الثقل الفني للسينما الآسيوية قد أصبح بازغًا كالشمس، وأن الجعبة الآسيوية صارت مليئة بالجوائز الفنية الكبرى.

يعتبر «مهرجان القاهرة السينمائي» من الساحات الفنية التي نافس فيها الآسيويون ببراعة، وحصدوا من خلالها العديد من الجوائز الفنية والتي بلغ مجموعها في المجمل ٢٠ جائزة من مختلف جوائز المهرجان؛ الهرم الذهبي، أفضل مخرج، أفضل ممثل، أفضل ممثلة، …إلخ. حصلت الهند على خمس جوائز من بداية مشاركتها في المهرجان، خمس أخرى كانت من نصيب إيران، أما الصين فكان لها نصيب الأسد حيث فازت بعشر جوائز منذ بداية مشاركتها في المهرجان.

هذا العام شاركت العديد من الجنسيات الآسيوية ضمن مختلف العروض والفعاليات، أبرزها الصين التي حلت كضيف شرف على المهرجان وشاركت بعدد ضخم من الأفلام المميزة من الكلاسيكيات والسينما الصينية الحديثة. في السطور القادمة نستعرض سويًا أهم ملامح المشاركة الآسيوية هذا العام والتواجد المتميز للصين ضمن أحداث المهرجان.


الصين: رحلة بين زمنين

وقع الاختيار هذا العام على الصين كي تكون ضيف شرف مميز على فعاليات المهرجان، وهو ما أتاح الفرصة لعرض عدد كبير من الأفلام الصينية الكلاسيكية والحديثة والإنتاجات المشتركة ما بين الصين ودول أخرى بلغ عددها أكثر من ٢٠ فيلمًا.

للصين باع طويل في عالم السينما وتاريخ عريق بدأ بعام ١٩٠٥، عندما خرج إلى النور الفيلم الصامت «معركة دينج چان شان»، الذي يعد أول إنتاج سينمائي صيني في التاريخ، أتى بعده فيلم «الثنائي الصعب – ١٩١٣» ليكون أول فيلم صيني طويل ومستقل، لتتوالى بعد ذلك التجارب السينمائية حتى مطلع الثلاثينيات حينما أُنتج «السماء الصافية بعد العاصفة»، وهو أول فيلم سينمائي ناطق في تاريخ الصين، ومنذ الثلاثينات وحتى اليوم توالت التغيرات الاجتماعية والسياسية على المجتمع الصيني وتزامن ذلك مع عدد من التقلبات والتطورات التي حدثت للسينما الصينية مواكبة لما حدث من تغيرات اجتماعية فيما عرف بـ «الأجيال الستة للسينما الصينية»، والتي تعبر عن أهم مراحل تطور السينما الصينية منذ بداية السينما الناطقة إلى اليوم.

يعد فيلم «This life of me» للمخرج «Hui Shi»، الذي عُرض ضمن فعاليات المهرجان هذا العام، عملاً معبرًا عن مرحلة مهمة في تاريخ السينما الصينية. الفيلم من إنتاج عام ١٩٥٠. يسرد الفيلم تاريخ الصين خلال النصف الأول من القرن العشرين من وجهة نظر الضابط الفقير الذي تضرب نفسه تساؤلات عديدة حول العدالة والتفاوت الطبقي وطغيان الأغنياء الذي لا يتغير مع تغير العصور والفقراء الذين يزدادون فقرًا وإمكانية تغير هذا الوضع، يصطدم خلال حياته بالعديد من المواقف والشخصيات التي تشعل التساؤلات داخل نفسه وتجعل بداخله أملًا جامحًا في انتظار غد جديد يقلب الأوضاع.

الفيلم ينتمي إلى المرحلة المبكرة من الحقبة الشيوعية أو ما يعرف فنيًا باسم «سينما الجيل الثالث»، وهي مرحلة سيطرت فيها الرؤية الماركسية للفن -كونه أداة للدعايا الاشتراكية والتحريض على الثورة- على صناعة السينما في الصين. فكان التوجه العام للسينما يرتكز على صناعة أفلام تتناول أحوال الطبقة العاملة والفلاحين، وتتناول الصراع الطبقي ومدى بشاعة النظم الإقطاعية والرأسمالية، وما يمكن أن تقدمه الاشتراكية التي تطرح نفسها كبديل عادل لتلك النظم المستغلة.

تأثرت هذه المرحلة كثيرًا بسينما البروباجندا السوفييتية (Battleship Potemkin لسيرجي إيزنشتاين كمثال) وبأسلوبها في الدعايا الاشتراكية وفنياتها. كما أنها عُدت ثمرة لما سبقها من سينما الجيل الأول في الثلاثينات، والجيل الثاني بعد جلاء الاحتلال الياباني في نهاية الأربعينيات، ذات الميول اليسارية والتي ركزت على أحوال الفقراء والطبقة العاملة وتناول قضاياها، والدعايا ضد التيارات اليمينية والمحافظة. الفيلم فنيًا ذو بناء تقليدي على مستوى القصة والمستوى البصري، فكان عبارة عن مليودراما كلاسيكية داخلية التصوير، شخصياتها أحادية الجانب والأداء التمثيلي فيها غلب عليه الطابع المسرحي، غطى فيه المحتوي الدعائي السياسي على جوانبه الدرامية.

في المقابل أتى فيلم «Mountains may depart» من إنتاج ٢٠١٥ نقيضًا تامًا لسابقه. ينتمي الفيلم لما يسمى بـ«سينما الجيل السادس»، وهو جيل متمرد من صناع السينما الصينية خرج في نهاية التسعينيات من رحم عالم السينما المستقلة و«الأندرجرواند»؛ ليقدم سينما مغايرة ومختلفة عما هو سائد في السينما الصينية والتطرق إلى مواضيع مختلفة مثل حياة الشباب والثقافة الرائجة ومناقشة الرومانسية والحياة اليومية بأساليب مختلفة عن السائد.

استفاد الجيل السادس من الطفرة التي أحدثها سابقه «الجيل الخامس» في عالم السينما الصينية؛ من تحطيم لمحظورات الثورة الثقافية كمناقشة الدين والتراث الشعبي والمواضيع السياسية خارج نطاق البروباجندا الشيوعية، والتأثر بأساليب صناعة السينما الأوروبية، وانطلاق السينما الصينية نحو العالمية ومنافستها في المحافل الدولية، والتي تعد أكبر استفادة استغلها الجيل السادس من غنائم سابقة، حيث أكمل الجيل السادس المسيرة في المنافسة في المحافل الدولية والفوز بكبرى الجوائز الفنية لعل أهمها جائزة الأسد الذهبي بمهرجان فينسيا عام ٢٠٠٦ لفيلم «Still Life» من إخراج «Jia Zhangke» نفس مخرج فيلم «Mountains may depart».


الفلبين : آلام «الأم روزا»

شهدت فعاليات المهرجان هذا العام مشاركة وحيدة للفلبين لكنها كانت متميزة للغاية، من خلال فيلم «الأم روزا» من إنتاج ٢٠١٦ وإخراج «Brillante Mendoza»، وكان ضمن المتنافسين على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان «كان» لهذا العام وحصلت بطلته الرئيسية «Jaclyn Jose» على جائزة أفضل ممثلة بنفس المهرجان.

الفيلم يدور في إطار واقعي سوداوي حول الزوجين «روزا» و«نيستور» وأسرتهما المكونة من أربعة أبناء، والقاطنة في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة “مانيلا” عاصمة الفلبين. تجاهد روزا وزوجها الفقر والأحوال المعيشية الصعبة عبر الانخراط في عالم تجارة المخدرات والعمل كموزعين تحت غطاء دكانهم الصغير. تقع أزمة تقلب حال الأسرة رأسًا على عقب، حيث تداهم الشرطة منزل روزا وتلقي القبض عليها هي وزوجها وتوجه لهما تهمة الاتجار بالمخدرات. بعد محولات عديدة ومساومات يعرض رجال الشرطة على روزا وزوجها صفقة مفادها تسيلمهم ٢٠ ألف بيزو مقابل إنهاء الأمر والإفراج عنهما. يحاول الأبناء إنقاذ والديهما بشتى الطرق والسعي لتجميع المبلغ الضخم بكل السبل المشروعة وغير المشروعة في ملحمة درامية مليئة بالآلام.

يتميز الفيلم بعدة جوانب أهمها الواقعية، فقد تم التصوير في أماكن حقيقية وسط الأحياء الفقيرة للعاصمة مانيلا ووسط سكانها الفقراء؛ مما أعطى الفيلم نكهة واقعية مريرة جسدت واقع معاناة سكان هذه الأحياء وصورت عن كثب الحياة اليومية القاسية لهؤلاء البشر، كذلك ساعدت الكاميرا التي كانت أقرب إلى كاميرا الفيديو وحركتها المضطربة والمهتزة في تحويل الفيلم إلى شكل أقرب للوثائقي؛ مما أكد على الروح الواقعية للعمل.

التمثيل واختيار الأزياء وتصميم الشخصيات كان متميزًا وبه واقعية ومصداقية عالية بشكل جعل من أبطال العمل نسيجًا متجانسًا مع البيئة التي تدور بها الأحداث. الفيلم يسلط الضوء على عالم الأحياء الفقيرة ومدى التردي المحيط به وما يدور به من أنشطة غير مشروعة كتجارة المخدرات والدعارة والسرقة، ومدى فساد جهاز الشرطة وممارساته القمعية ضد أبناء هذه الأحياء وهو ما اعتبره مخرج الفيلم رسالة لا تتحدث عن الفلبين وحدها بكل العديد من دول العالم التي تتشارك معها نفس الظروف.


اليابان: ما بين تمرد «كوروساوا» وعاصفة «كوريدا»

السينما اليابانية هي واحدة من التجارب السينمائية الرائدة في العالم الآسيوي وأكثرها تأثيرًا. فمن اليابان خرجت أعظم الأسماء الفنية والأعمال التي حصدت كبرى الجوائز الدولية، ولاقت احترامًا وإعجابًا كبيريْن على مستوى العالم.

المخرج «أكيرا كوروساوا» أحد الأسماء الفنية البارزة وذات الثقل في تاريخ السينما اليابانية، كيف لا وهو من فتح باب العالمية أمام السينما اليابانية وشيّد جسرًا حضاريًا بين بلاده والعالم أجمع. تعددت أعمال كوروساوا وأختلفت أنواعها ما بين أفلام الساموراي، والأفلام التاريخية، والدراما الإنسانية، والدراما النفسية، وأفلام الجريمة وحتى الأفلام السريالية.

فمنذ أربعينيات القرن العشرين وحتى وفاته عام ١٩٩٨ اعتمد كوروساوا في أسلوبه على التنوع والتجديد وتجريب مختلف ألوان السينما. إلا أنه تميز بشكل كبير في تقديم السينما الروائية وتحويل الأعمال الأدبية المختلفة من الأدب الياباني والعالمي إلى أفلام، وإعادة صياغتها بطريقته الخاصة وحسب رؤيته وفلسفته.

يعد «شكسبير» أحد أبرز المشاركين في مسيرة كوروساوا الفنية، فقد اقتبس عنه ثلاثة من أفلامه المميزة «Throne of blood – ١٩٥٧»، و«The Bad sleep well – ١٩٦٩»، وأخيرًا «Ran – ١٩٨٥» والذي عرض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي هذا العام ضمن برنامج «شكسبير في السينما». الفيلم إنتاج ياباني-فرنسي مشترك، وإعادة سرد وصياغة يابانية لمسرحية «الملك لير» ومن بطولة النجم الياباني المخضرم «Tatsuya Nakadai».

يتميز العمل بعوامل عدة أدت لكونه أحد أبرز أعمال كوروساوا التاريخية؛ الإنتاج الضخم الذي ساهم في خروج الفيلم بشكل ملحمي، والذي يبرز في مشاهد المعارك الحربية، وكم المعدات والديكورات والقوى البشرية لخروج المشاهد بهذا القدر من الثراء، كذلك الإخراج الذي كان له الدور الأبرز في خروج هذه الملحمة.

يتميز أسلوب كوروساوا بعدة عوامل مهمة تعطيه طابعًا خاصًا؛ منها التحريك المنظم للمجاميع الكبيرة، وهو عامل برز بشدة في مشاهد المعارك التي شهدت تحريكًا منظمًا وتناسقًا في الحركة بين الجموع، كذلك تناسق وترتيب عناصر المشاهد بشكل يوصل دلالة ما للمشاهد. المشهد الافتتاحي خير مثال على ذلك، حيث كان «هايدوتورا» يتوسط المشهد وعن يمينه ويساره بقية عناصر المشهد وهو ما يرمز لمركزية الشخصية ودورها المهم في الأحداث.

ومن هذه العوامل أيضًا، طغيان الروح التشكيلية على صناعة المشهد حيث كان للألوان دور بارز في بناء المشهد في تلك الفترة من مسيرة كوروساوا. ظهر ذلك في الاختيارات الخاصة بالأزياء والديكورات والمكياج، حيث كانت المشاهد أقرب ما يكون للوحات التشكيلية بتعدد ألوانها وتنوعها، فضلاً عن اختيار أماكن تصوير طبيعية مثل الغابات والسهول؛ مما يعطي للفيلم سحرًا خاصًا. كان هذا العمل هو أبرز اقتباسات كوروساوا الأدبية وآخر أعماله الملحمية والحربية، قبل أن يبدأ في المرحلة الأخيرة من مسيرته التي سلكت سبيل الدراما بعيدًا عن عالم الحروب والملاحم الكبرى.

ومن عالم كوروساوا العاصف بالمعارك والحروب، ندخل إلى عالم آخر عاصف بالمشاعر والعلاقات المتشابكة وهو عالم «Hirkazu Koreeda»، وآخر أعماله «After the storm»، أو «بعد العاصفة» الذي عرض ضمن فعاليات المهرجان لهذا العام.

طوفان من الغيرة يشتعل داخل نفس «ريوتا» حين يعلم بأن «كيوكو»، مطلقته وأم ولده الوحيد، تواعد رجلًا ثريًا وفيما يبدو أنهما على وشك الارتباط. يدور صراع درامي ما بين آمال «ريوتا» في إعادة لم شمل أسرته الصغيرة وبين رغبة «كيوكو» في تربيته ولدها الوحيد بشكل جيد بعيد عن والده المقامر المستهتر وعالمه المليء بالفشل والسلبيات، وبين الفتى المتأرجح بين الإرادتين. تأتي العاصفة الموسمية لتجمع شتات الأسرة مصادفةً في منزل والدة «ريوتا»، ولتشعل ذكريات من الماضي وكثير من مشاعر الحنين والدفء كادت أن تدفن تحت جبال النسيان.

الفيلم درامي اجتماعي تدور أحداثه في إطار كوميدي خفيف وبسيط حول الأسرة والعلاقة المتشابكة ما بين الآباء والأبناء والاختلافات والتقاربات بينهما، كما تطرق إلى صراع الأجيال ونظرة كل جيل للحياة وأولوياتها. يحمل الفيلم لمحات من أسلوب «Yasujiro Ozu»، أحد آباء السينما اليابانية وقاماتها البارزة، والذي تميز بإخراج الأفلام الاجتماعية هادئة الوقع التي تدور حول العلاقات الاجتماعية والأسرية وتفاصيلها والتطورات التي تتعرض لها مع مرور الزمن.

الفيلم هادئ وبسيط التفاصيل، تميز بنص سينمائي جيد استطاع صياغة الفكرة بطريقة بسيطة وإنهاءها بطريقة واقعية غير رومانسية وبناء الشخصيات بشكل جيد يبرز جوانبها المختلفة ودوافعها وعلاقاتها المتشابكة بباقي عناصر القصة، كما ساعد الإخراج على إبراز جوانب ومشاعر ودوافع كل شخصية والتركيز على التفاصيل الظاهرية لكل شخصية التي تعطي دلالة لدى المشاهد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.