يحتدمُ الجدل منذ مطلع شهر رمضان الحالي وبداية عرض مُسلسلات الموسم الدرامي 2023، الذي عادة يتسيّده كل عام، ظاهرة جديدة، تُفعّلها مُجتمعات التواصل الاجتماعي. ظاهرة هذا العام جاءت لإبراز سؤال فنّي أثير، وهو العلاقة بين المُتلقى والمؤلف/ المخرج، والعمل بينهما. ورغم أنّها تبلورت، بفعل المزاج الاستهلاكي على منصّات التواصل الاجتماعي، إلى حالة من التراشق بمفردات النخبوية والتعالي على الجمهور، كانت من بين هذه المُفردات، «التربّص».

بعد عرض الحلقات الأولى من مُسلسل «سرّه الباتع» للمُخرج خالد يوسف، لاحظ الجمهور بعض الأخطاء الواضحة في المُسلسل، وللمفارقة، كان الانطباع الجماهيري مُحدد في مسمّيات أقرب إلى الممارسة النقدية، بداية من التعليق على مُباشرة الحوار والحشو الخطابي، مرورًا بالاستخدام المظهري للموسيقى دون اشتباكها ضمن تدفّق الحدث، بالتعبير عنه والإضافة إليه، وانتهاء بظهور أحد أفراد مجموعات الحرب، يرتدي حذاء رياضيًا في زمن الحملة الفرنسية على مصر.

جندي مملوكي بحذاء رياضي من مسلسل سره الباتع
جندي مملوكي بحذاء رياضي من مسلسل سره الباتع

أصبحت التعليقات المنطقية من الجمهور حول مُسلسل سرّه الباتع، تربّص في صورة نقد، بحسب أحدد الممثلين الفرعيين بالمُسلسل، وتداعت إلى حملات إلكترونية ضد ملحمة فنّية تاريخية، مثلما قالت صحيفة الدستور.

لا يُعتبر الجدل الحاصل بسبب رأي جماهيري حول عمل فنّي مسألة مُستحدثة، بوادر الاستعلاء على رأي «العادي» ذُكرت قبل ذلك، حينما صرّح الفيلسوف والروائي الإيطالي الراحل إمبرتو إيكو في أحد حواراته، بأن منصّات التواصل الاجتماعي فتحت علينا آراء جحافل من الحمقى. ومنذ شهور قليلة، خرج المؤلف السينمائي محمد الغيطي عقب عرض مُسلسل «الضاحك الباكي» ليُزايد على آراء الجمهور عن مُسلسل، هو بالفعل شديد التواضع.

لو وقفنا عند كل مُسلسل يُعرض حاليًا، سنجد حوله جدل ما، أو خلاف ظهر من مشهد سريع في المُسلسل، الأسئلة تبدأ بُفرصة لخلق نقاش مُوسّع، يُمكن للمُشاهد أن يُسهم في تفعيله، لكنه عادةً يستحيل إلى مجموعة من الفِرق، بين استعلاء النُخبة وسخرية الرأي الانطباعي منها، ومُحاولة فهم مدى تواضع المشهد الدرامي المصري المُعاصر، وضرورة تشجيعه، أو الاشتباك بحدّة مع العيوب والاستسهال الحاصل في كثير من المُسلسلات.

هذه الحلقات التي ندور فيها، تتداعى في أوقات كثيرة إلى مواجهات، انعكاس مُتوقّع للحاجة في إبداء رأي ما، بخاصة لو سلبي، وفي إطار آمن. لكن حتى هذه الحوارات الآمنة، تنقسم سريعًا إلى صراع مراكز قُوى، مُسيّل بحكم الفضاء الإلكتروني، يذوب سريعًا ويأتي غيره. لكن الحيّز الذي يتوقّف عنده أي طرف أمام الرأي العادي، مع اتهامات التربّص والحشد الإلكتروني، هو سؤال في حد ذاته، يُحيلنا إلى النظر في كيفية صعود جملة عابرة لمجهول على «فيسبوك» أو رأي عادي وسريع لمُشاهد ملول إلى مُمارسة نقدية وفاعلة.

فضاءات التلقّي

في أواخر الستينيات، صدر للناقد والفيلسوف الفرنسي رولان بارت مقال «موت المؤلف» التي أعادت تشكيل فضاءات التلّقي بين الكاتب والقارئ. رأى بارت أن الصلة المباشرة بين الكاتب والنص المقروء مقطوعة، والبحث داخل النص، لا يكون حول سيرة الكاتب، أو انعكاسه، بل داخل إطار النص ذاته، وبصورة مستقلة –تتحاكم إلى اللغة كموضوع- بين القارئ والنص.

رغم أن رؤية بارت، جاءت في إطار إشكالي، يتعلّق أكثر بإعادة النظر إلى اللغة كمكوّن للذات، وليس العكس، وأن قراءة النص تكون من خلال تناول لغته، باعتبارها مؤسسة اجتماعية، لكن القطيعة الأولى مع صاحب العمل جاءت من هنا، من تلاشي قُدسية المؤلف/ المُخرج، ووجود فضاء يفصلُ بين العمل وصاحبه، ذلك الفضاء تحديدًا هو ما يُشكّل النص، وذات الكاتب، ويُحوّل كل نظرة ناقدة لموضوع ما، إلى نص، إنها اللغة.

يعنينا من بارت، هو الحراك النقدي على يد المنهج البنيوي، الذي بدأ في نفي قُدسية الكاتب، أو المؤلف، إذ لم يعد هو مركز حول مُنتجه، أو مثلما يقول تيري إيغلتون «المعنى لا يبدأ وينتهي عند خبرة الفرد».

في كتاب موت الناقد عمل رونان ماكدونالد على إحالة فضاء للتلاقي بين الكاتب والقارئ، إلى فضاء الناقد والقارئ. الناقد –بصورته التقليدية والوصائية- أخلى مكانه للقارئ الذي يستطيع في ضوء تطور وسائل التواصل، أن يضفي قيمة على العمل الإبداعي، لأن آليات القراءة منثورة حوله، لا تحتاج إلى ناقد متخصص، أو مُرشد، يشير له على ما يستحق القراءة وما لا يستحق. جاء موت الناقد، كإعلان، لحراك جديد تشغله ردود أفعال تخلق المُنتج الفنّي، ولا يُمكن إنكار تأثيره في طبيعة المُنتج ذاته، فضلًا عن التأثير في النظر إلى مدى جودته وقدرته على الانتشار.

استحالت مسألة دخول المؤلف/ المُخرج إلى حيّز الجدل حول العمل الفنّي إلى مسألة مُعتاد فيها أن يتراجع صاحب المُنتج، لأنه قد انتهى من دوره، وما هو قادم يتعلّق بفضاء التلّقي بين الجمهور والمادة الفنّية المعروضة.

حالة مُسلسل سرّه الباتع تحديدًا، تنطوي على كشف كبير حول العلاقة بين الرأي العادي وتفاعل صُنّاع العمل معه، أو تحديدًا «المؤسسة» التي ينطلقُ المسلسل منها. بعد عرض حلقة أو اثنتين، ظهرت مُشكلات وأخطاء تقنية واضحة في العمل، وكانت الآراء الجماهيرية مُحددة. في هذا السياق، ليس على صنّاع العمل سوى إعطاء حق المشاهدة والنقد، لأي مُشاهد، مُتخصص أو غير ذلك، مع إعطاء حرّية الرأي بالسلب أو الإيجاب.

هجوم اللجان بالطبع

تحوّل الجدل حول سرّه الباتع سريعًا إلى السردية الرسمية المُفضّلة منذ سنوات، وهو التعرّض لهجوم ما، من جهات ما، مُغرضة، مثيرة للفتنة، تُريد التقليل من تاريخ الوطن، وهكذا.. لكن ما حدث بالفعل، هو أن العمل الجديد لخالد يوسف مُتواضع بالفعل، وأن مساحات تلّقي ما هو مُنتظر بصورة جماعية، مثل مسلسلات رمضان، قد تغيّرت عن الصورة الحميمة السابقة، المُتعلّقة بمشاهدات العائلة على التلفزيون.

سواء أطلقنا عليه نقدًا أو غير ذلك، تظلُ مجتمعات التواصل الاجتماعي حاليًا لها يدٌ عُليا في تحقيق التباين حول دراما رمضان الحالي، إذ باتت آفة إعادة الإنتاج حالة يُمكن ضبطها بسهولة، ويُمكننا هنا أن نتساءل حول بعض المُسلسلات الترويجية، ودورة حضورها منذ المواسم الأربعة الماضية، إذ كانت شديدة المركزية، يتجمعُ حولها الجمهور، بعيدًا عن الرأي الفنّي، والآن تظلُ مُسلسلات جديدة معروضة، من النفس، ولا تلقى سوى اهتمام شحيح.

رغم كل هذه الاشتباكات، وما تؤول إليه الأسئلة حول العمل الدرامي إلى تراشق بالتُهم، تأتي الأزمة أولًا من التعالي –الذي لا يأتي عن موهبة كافية بالمناسبة- من خلال نماذج حاضرة في الموسم الدرامي، إذ تتخوّف من جُملة نقدية في حق عمل ما، يطفح بعيوب كثيرة.

كان خورخي بورخيس، يتخيّل، وهو يسلّم مسودات أعماله، أنّه يقف على شاطئ بينما تقف كلماته على شاطئ آخر، وهو يودّعها.

لماذا لا يودّع صنّاع الدراما في مصر أعمالهم، ويتركونها في يد الجمهور، الذي لأجله، صدرت هذه المسلسلات!

بحثًا عن مُشاهد أبدي

مع تقدير الرأي الجماهيري حول المُسلسلات المعروضة، دون إغفال جانب ضروري منها، وهو السخرية، تظلُ آلية تفعيل الرأي وإحالته إلى قياس تُجاري للمُنتج، مسألة إشكالية، تستدعي النظر إلى ثنائية الأصالة والتبعية في الرأي العام المُعلن على منصّات التواصل، وكيفية تفعيله، تحوّله خلال عدّة لمسات على الهاتف إلى حالة لا يُمكن إغفالها، ولها تأثير يصلُ إلى إضفاء نجاح كبير على العمل الدرامي، أو تجهيله تمامًا.

تخضع عملية إنتاج الرأي على فيس بوك باعتباره مادة القياس الأنسب في هذه الحالة إلى التسييل، لأنه المُشترك الذي يشملُ مُختلف الآراء. ننتقلُ، خلال يومٍ واحد، من حشد ساخرٍ تجاه إعلان ما، أو مشهد من عمل درامي، ثم حشد جاد آخر، يحتفي بلقطة أخرى، ويغضب على لقطة ثالثة، وهكذا يُصبح المرور الانطباعي، السريع، أشبه بسلطة بديلة يفعّلها الجمهور، ويخضع لها لاحقًا.

يُصاحب التفكير في أي حشد ما، حتى ولو كان خلال فضاء إلكتروني، التفكير في مُحرّكات تفعيل الرأي، مدى انتشاره وقدرته على التأثير، طالما كانت الصورة التقليدية للحشد حول رأي نابتة من نموذج «قيادي» لكن الآلية المُعاصرة لتشكيل الرأي تتخذ منه فُرصة لخلق سلطة، تتشكّل بصورة كبيرة من مُواكبته لما يفتقده الجُمهور.

تتجلّى سلطة الرأي المُنتشر على تحقيق مزيد من المُريدين الباحثين عن أي بديل للظهور ولو بشكل مُجتزأ خلال فضاء افتراضي، في حالة النقد الواسعة التي طالت المُمثّلة رحمة أحمد ودورها في الجزء السابع من مُسلسل الكبير، بخاصة وأن المُمثّلة ذاتها، تلّقت حفاوة بنفس سرعة نقدها اللاذع حاليًا، في الموسم السابق من نفس المُسلسل.

يظلُ حضور الرأي الآتي من الفضاءات الإلكترونية إشكاليًا، لا يُمكن حصره ضمن معايير مُحددة لضبطها، ويظهرُ ذلك بوضوح خلال مُحاولات المنتج الفنّي مواكبة ما يطلبه المُستمعون، واستقطاب أي ظاهرة تحظى بمُشاهدات كثيرة إلى الفضاء الواقعي، المؤسسي، والظهور على الشاشة في عمل درامي أو سينمائي.

مع ميوعة المادة التي تُشكّل كثيرًا من قدرة العمل على الانتشار، لا تزال المُساءلة تجاه الأعمال الدرامية مشروعة، إضافة إلى ضرورة التجاوب معها، فحصها، أو على الأقل التوقّف عن مهاجمة أي رأي نقدي، لمُجرّد سلبيّته، ثمّ إحاطته بالوصم.

خلال الموسم الحالي، ظهرت بعض الأعمال الجيّدة، حجزت لنفسها مساحة مُميّزة من المُشاهدات، ولم يأت ذلك فقط من القدرة التسويقية، بل قامت معقولية الجودّة الفنّية بفرض نفسها، ثم انعكست على الفضاءات الإلكترونية لتشغل حيّزًا معقولًا من الانتباه، مثل مسلسلات الصفّارة، الهرشة السابعة، رشيد.. وغيرها.

في الأخير، لا يُمكن التسلّيم بأصالة الرأي الناتج من منصّات التواصل الاجتماعي، وبنفس الدرجة لا يُمكن تجهيل أسئلة موضوعية تُثبت حضورها دائمًا. المُنتج الفنّي، أي مُنتج، يبدأ عند صنّاعه، وتحدد إمكانية تجدده وبقائه على المُشاهدة، التي تُعيد إنتاج العمل من جديد، بالرأي والنقد، المُسالم والحاد، والمُساءلة التي تلدُ إجابات مُفخخة، ينبتُ منها مُساءلات جديدة، وطالما لدى المُنتج الفنّي قدرة على توسيع أفق تأويله، والتجاوب مع الرأي الانطباعي والنقدي، فإنه بالضرورة باقٍ.