كثيرًا ما تحمي الثورات نفسها بالعديد من الشعارات والمقولات الجاهزة التي يرددها أنصارها والمدافعون عنها، حتى يتحوَّل الأمر مع مرور الزمن إلى إسباغ نوعٍ من القدسية والقيمة الكبرى لكل فعلٍ وتصرف أثناء الثورة، يجعل من انتقادها أو الهجوم عليها أمرًا منبوذًا موصومًا بخيانة الوطن والعمالة والانتماء للمعسكر الآخر من فلول الثورة، وغير تلك الصفات والأفكار، التي تجعل من مجرد رصد سلبيات الثورة أمرًا محظورًا.

لكن الكتابة الأدبية والروائية على وجه التحديد استطاعت طوال الوقت أن تجد لها أساليب وطرقًا مختلفة للتحايل والالتفاف على الهجوم الذي قد يكون متوقعًا على نقد الحركات الوطنية والثورية، ومحاولة محاسبتها، حدث ذلك من الستينيات مثلًا عند عدد من الكتاب الذين انتقدوا ثورة يوليو 1952 وما حدث بعدها، وكان ذلك من خلال استدعاء التاريخ وإسقاطه على الواقع الراهن حينًا، أو استخدام الرمز في أحيان أخرى، فيُتَحَدَّث عن الحبيبة ويُقْصَد بها الوطن، وعن عمدة القرية الذي يقصد به الرئيس أو زعيم الثورة مثلًا، حدث ذلك بمستويات مختلفة في العديد من الأعمال الأدبية.

ويبدو أن ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011 لم تخلُ في أحداثها ومساراتها من أخطاء ومشكلات ساهمت إلى حدٍ كبير في وصولنا اليوم إلى هذه الحالة التي يعرف الجميع كيف أنها أكثر سوادًا وقمعًا مما كان قبل الثورة، وربما يكون هذا الوضع السوداوي الراهن هو ما سهَّل على الكاتب والروائي «أحمد عوني» طريقه في كتابة روايةٍ تنتقد الثورة المصرية بشكلٍ واقعي، وتقدم الصورة بشكلٍ مختلف بعد مرور ثماني سنوات على هذه الثورة التي غيَّرت الكثير.

اقرأ أيضًا:ثورة يناير في أدب الشباب 7 روايات تحكي الحكاية

في روايته الأولى، وبعنوانٍ يحمل الكثير من الدلالات «جوائز للأبطال» يقتحم «أحمد عوني» دهاليز مجتمع وسط البلد المصري، شرارة الثورة الأولى وأحد أهم أعمدتها ومحركيها، وينتقل من خلالهم إلى رسم صورة عامة للمجتمع المصري وثورته وكيف كانت بدايتها الحالمة البسيطة أحد أهم أسباب انتكاستها، بل هزيمتها الحالية.

«رامي مصطفى» شاب أرستقراطي، من عائلة ثرية، خريج الجامعة الأمريكية، لا علاقة له بالبسطاء ولا يعرف شيئًا عن «المطالب الفئوية» والمظاهرات والاعتصامات، يقوده حظه العثر إلى التورط في الاشتراك في الثورة، ويتحوَّل في غضون أيام إلى بطلٍ، يتعرَّف في رحلته إلى ذلك العالم الغريب بكل تفاصيله، ويعرض الكاتب من خلاله صورة أخرى مغايرة للصورة النمطية المعتادة عن الثورة وما جرى فيها من تضحيات وفداء، وكيف يُمكن استغلال غياب أحد الأشخاص فيها لتحويله إلى شهيد وثوري ورمز.

كنت أتكلم في أضيق الحدود؛ لأن الكلام معهم كان خطيرًا. يقول أحدهم إن غزو أمريكا للعراق دمره بالكامل، فأكون على وشك قول إن حياة العراقيين بالتأكيد كانت أفضل قبل الغزو، فأتراجع مع تراجعه وهو يقول إن صدَّام سفاح لا يتعاطف معه أي إنسان. وهذه المرة التي كنت قد قضيت فيها اليوم كله أذاكر صفحة «كلنا خالد سعيد»، ودعواتها إلى الوقفات الصامتة وتحديدها ميعادًا لاحتجاج كبير في يناير المقبل، وفوجئت بالليلة كلها سخرية من الصفحة، ومن عبثية تحديد ميعاد سابق لأي حدث يمكن أن يُحدث أي تغيير في هذا البلد.

يقسم أحمد عوني روايته إلى فصول قصيرة كل فصلٍ منها يعود إلى زمن، مقسمًا الأحداث بين ذكريات البطل القديمة، وحكايته عن أسرته، وعلاقته الخاصة بوالده. وفي الجزء التالي حكاية الثورة وكيف كانت البداية، وكيف تطورت علاقته بأصدقائه من خلالها. وفي الجزء الأخير نجد سرد اللحظة الراهنة التي يتحدث فيها عن محاولته للخلاص من كل ما يحيط به.

خلال ذلك التقطيع الزمني المدروس ينتقل القارئ بين حكايات الثورة وحكايات تشكل الوعي الذي حدث لبطل الرواية رامي، وكيف انتقل فجأة من الأرستقراطي ابن صاحب المصنع إلى الشاب الثوري الذي يهتم بمطالب العمال ويسعى لتحقيقها.

ليست الثورة وحدها ما يتناوله أحمد عوني في روايته هذه، ولكنها الأحلام والآمال العريضة كلها، أحلام الحب والزواج والاستقرار، تخبط مشاعر الشباب في تلك المرحلة من حياتهم، وصورة حيَّة لطبقةٍ ربما تغيب كثيرًا عن الكتابات السردية، وتُتَجاهل وتُوصَف بأنها أرستقراطية متعالية على الآخرين، ولكن الاقتراب الحقيقي والواقعي منها هو ما يوضح كيف أنها تحمل همومًا خاصة بها، وكيف يمكن أن يُسْتَفاد منها وتُكيَّف بما يتفق مع آمال الآخرين وطموحاتهم في وطنٍ حر يعيش فيه الجميع سواسية.

لا أعرف كيف صارت فجأة لي هذه العين الثاقبة، ولمحت صورتي من بين أكوام الجرائد فوق المكتب وعلى الأرفف الواصلة للسقف وعلى الأرض، غرفة مثل أرشيف الصحف التي رأيتها في الأفلام، إنما من دون الموظف البائس الذي كان من المفترض أن أستلف منه سيجارة وهو يدلني على ما أريد. وبينما أزيح الجورنال لأفتح آخر تحته، أدركت أن كومة الجرائد أمامي تخصني، لا أحتاج غيرها كي أعرف كيف أصبحت شهيدًا.

ربما يُتَّهم الكثير من الكتابات الروائية التي تحدثت عن الثورة بأنها توثيقية للحظة التي تخطاها الجميع الآن، ولكن المهم في ظني كيف يستطيع الكاتب أن يصوغ ذلك التوثيق بشكلٍ لا يجعله مجرد عرض صحفي سطحي، لا يحتمله القارئ، ولا يستسيغه في عملٍ أدبي. وربما هذا بالتحديد ما نجح فيه أحمد عوني في روايته، فعلى الرغم من أننا نجد في الرواية سردًا مطولًا وحكايات عديدة سمعناها وعرفناها من قلب الثورة، فإن ذلك كله صِيغ بشكلٍ أدبي وفي قلب حكاية بطل الرواية رامي، الذي يسرد الرواية بصوته، ويجعل القارئ متفاعلًا مع حكايته بشكلٍ كبير.

وهكذا بعد سنوات من ثورة يناير جاءت «جوائز للأبطال» لتقدم للثورة نقدًا حقيقيًّا، ينبع من تصوير واقع الأبطال أو من يمكن أن يطلق عليهم أبطال، سواء كانوا حقيقيين مشاركين وفعالين، أو أبطال آخرين وُضِعوا واسْتُغلوا بشكلٍ مبالغ فيه حتى تنجح هذه الثورة.

أحمد عوني، كاتب ومهندس مصري، تخرج عام 2011 شارك في كتابة «صوت من الملجأ» الصادرة عن دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، صدر له مجموعة قصصية بعنوان «قلق مزمن» عن دار شرقيات عام 2010. و«جوائز للأبطال» هي عمله الروائي الأول صادرة مؤخرًا عن دار المحروسة.