«أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي أبدًا» هذا بالضبط هو ما فعلته مؤسسة الأزهر مؤخرًا، فقد ظللنا نسمع سنوات طويلة عن تجديد الخطاب الديني، وروح العصر، وكيف أن الإسلام مناسب لكل زمان ومكان، دون أي تطبيق عملي لما يقال، ثم أخيرًا حدثت المعجزة.

كان تصريح رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا عن بروتوكول التعاون بين الأكاديمية ومؤسسة الأزهر الشريف مبهمًا، كيف ستتعاون مؤسسة تهتم بالتطوير والتكنولوجيا مع أعرق مؤسسة دينية في العالم الإسلامي؟


من قصص الأنبياء

بدأت مسيرة المسلسلات الكارتونية الدينية في مصر بمسلسل «من قصص الأنبياء» الذي تم تنفيذه بالصلصال، وقد أبهر المشاهدين وقتها واعتبروه قمة التكنولوجيا التي تجعل عرائس الصلصال تتحرك وتتحدث، ورغم أن المسلسل الكارتوني أصبح علامة في الخريطة الرمضانية إلا أن مسلسلات الكارتون الدينية لم تكن تنتج بشكل سنوي حتى مع وجود أكثر من مسلسل كارتوني خفيف كل رمضان، ففي الأعوام الماضية لم ينتج سوى مسلسلات كارتون دينية معدودة، وكلها تقص قصصًا من القرآن أو السلف الصالح، أو تقص قصص الأنبياء بشكل أكثر احترافية من مسلسل قصص الأنبياء القديم.

أما هذا العام فقد كان مسلسل الأزهر طفرة في عالم المسلسلات الكارتونية الدينية، فهو يقص حكاية بناء الجامع الأزهر بعد دخول «جوهر الصقلي» لمصر، فهو إذن لا يقص حكايات دينية محددة ولكنه يقص التاريخ الذي لا يعرفه أحد تقريبًا، وهو نتاج التعاون بين أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا ومؤسسة الأزهر الشريف، ولذلك فهو مسلسل «متكلف» سواءً على صعيد الإنتاج الذي تتكفل به الأكاديمية، أو على صعيد المادة المقدمة والتي راجعها الأزهر الشريف وزود مؤلفو العمل «محمد كمال حسن» و«مصطفى زايد» بما غاب عنهم من تفاصيل.


البحث عن الهوية في المكان الصحيح

مسلسل الأزهر يعتبر إنجازًا، فهو «ملحمة تاريخية دينية» كما كتب على التتر، ملحمة تحكي الظروف التي بُني فيها الجامع الأزهر ثم الجامعة من بعده، ويؤصل لدور القاهرة كمنارة للعالم الإسلامي، المسلسل يرسخ للهوية المصرية والإسلامية، ويعرض التاريخ بشكل شيق واحترافي، لم يهتم أحد من قبل أن ينتج مسلسلًا كارتونيًا يبحث عن الهوية، وقد كان توقيت إنتاج مسلسل الأزهر مناسبًا جدًا وسط كل التغيرات التي تحدث الآن، أن يهتم أحد ما بأن يبحث عن الأصول، ويعرضها، ويثبتها في أذهان صغار لم يعرفوا في أعمارهم القصيرة سوى تاريخًا مخزيًا.

الإنجاز الحقيقي لمسلسل الأزهر وصُنّاعه هو أنهم خرجوا عن المألوف، ولم يلعبوا في المنطقة الآمنة التي تحكي قصصًا وحكايات تستهوي الصغار والكبار، حتى وإن كانت تلك القصص مهمة ويجب أن يعرفها الجميع ويتعلم منها، إلا إنها في النهاية منطقة آمنة لا يمكن ألا يحبها أحد، أما أن تقدم تاريخًا في مسلسل كارتون، فإن هذا كان بحق تحديًا، استطاع المسلسل أن يجتازه وينجح فيه.


عندما يكبر الصغار

ظروف إنتاج مسلسل الأزهر مختلفة كما كان موضوعه مختلفًا، فبعد توقيع بروتوكول التعاون بين أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا ومؤسسة الأزهر الشريف، أعلنت الأكاديمية عن منحة لإنتاج مسلسل كارتوني يستخدم أحدث التقنيات والبرامج، ويخدم فكرة التسويق للقيم الدينية والعلمية، وقد فاز مسلسل الأزهر بالمنحة، والمختلف أيضًا في هذا العمل أنه أول عمل لمخرجه في مجال الإخراج، رغم أنه عمل في مجال برامج الأطفال ومسلسلات الكارتون كثيرًا، «معوض إسماعيل» الذي لم يتخيل الجمهور أنه كبر للدرجة التي تجعل اسمه يوضع على التترات كمخرج للعمل، وبدا لمتابعي المسلسل فجأة أن الزمن قفز قفزة فجائية جعلت الطفل الصغير الذي كان يحاور «بوجي وطمطم» منذ أعوام بدت قليلة، يتحول إلى مخرج يستطيع أن يتحمل مسئولية عمل ضخم كمسلسل الأزهر.

وجود معوض إسماعيل كمخرج للعمل هو إنجاز آخر للمسلسل، فرغم أن منحة إنتاجه مقدمة من جهة حكومية، مناصفة مع أعرق مؤسسة دينية في العالم الإسلامي، فإن هذا لحسن الحظ لم يجعل صناعه تقليديين يبحثون عن النجاح المضمون، ولكنهم أصروا على البحث عن الإبداع حيث كان، ولم يتقيدوا بأسماء براقة تساعد المسلسل على الانتشار بل أصروا على أن ينجح المسلسل لقيمته الحقيقية وليس لأن أسماءً بعينها موجودة على تتراته.


تجديد الخطاب الديني

مسلسل الأزهر كما يقول صناعه، يرصد تاريخ بناء الأزهر الجامع والجامعة، وقد كان رمضان 2016 هو أول أجزاء المسلسل والذي يرصد أول مائتي عام في عمر المؤسسة العريقة، ويأمل صناعه في أن يستطيعوا أن ينجزوا السبعة أجزاء المقرر إنتاجهم، فهو ليس مسلسلًا صنع ليعرض ثم ينسى ولكنه إذا استخدم بالطريقة الصحيحة وكان أرشيفًا يستخدمه الأزهر لتغيير مفاهيم الناس من حوله، وإذا استخدم كمشروع لدعم التاريخ المشرف وتعريف الأجيال الجديدة التي لا تعرف سوى لغط يدور حول كل شيء من حولهم، يمكنه أن يكون دليلًا على تطور المؤسسة واهتمامها بالوصول إلى الناس بالطرق التي يفهمونها ويحبونها.

مسلسل «الأزهر» طريق للتجديد والتطوير الذي لن يتحقق بالخطب العصماء ولا بالبرامج التليفزيونية، ولن يتحقق بالزي الأزهري التقليدي، ولا الفتاوى، التجديد لا يكمن في تخصيص خط ساخن لتلقي الأسئلة الفقهية فقط، ولكنه أيضًا يتحقق بمجاراة العصر ومحاولة اللحاق بالركب اللاهث للعالم من حولنا.

مسلسل «الأزهر» يمكن أن يفتح طريقًا جديدًا لكل التاريخ القديم الذي ينتظر أحدًا يفخر به، ربما يكرره يومًا ما، وتصبح القاهرة مدينة تقهر العالم كما ورد في المسلسل.