في خضم التقلبات والصراعات البينية التي مر بها العالم العربي، أطلت ظاهرة الخصومة الحادة بين سوريا والعراق رغم أنهما محكومان من نفس الحزب، ومتلاصقان جغرافيًا، ومتشابهان ديموغرافيًا، فشعباهما يجمعهما الدين والعرق واللغة، ولكن الخلافات استحكمت في ظل حكم حزب البعث للبلدين.

حزب البعث هو حزب قومي علماني اشتراكي، تأسس على يد عدد من المفكرين السوريين أبرزهم ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وتبنى الحزب برنامجًا يدعو إلى الوحدة العربية لكنه لم يحقق هذا الهدف يومًا ما بالرغم من وصوله إلى السلطة في دولتين عربيتين متجاورتين؛ فقد استولى الفرع العراقي من حزب البعث على السلطة عبر الإطاحة بالرئيس عبد الكريم قاسم في حركة 8 فبراير/ شباط 1963 أو ما عرف بثورة رمضان، وفي 8 مارس/ آذار 1963 استولت اللجنة العسكرية للفرع السوري لحزب البعث على السلطة في دمشق مستلهمة خطة الرفاق العراقيين، الذين فقدوا السلطة بعدما مزقتهم النزاعات بعد بضعة أشهر، خلال حركة 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963 التي قام بها الرئيس عبد السلام عارف للإطاحة بالبعثيين.

وفي سوريا، أعلن ميشيل عفلق أن حزبه هو مدبر الانقـلابيْن في العراق وسوريا، لكن رغم ذلك فإن نفوذه على الحزب بدأ في التراجع لصالح الأعضاء العسكريين الذين سيطروا على الحكم، وعلى القيادة القُطرية (الفرع السوري للحزب) بالتحالف مع قادة مدنيين مثل نور الدين الأتاسي ويوسف زعين، وأصبحت اللجنة العسكرية للحزب أعلى نفوذًا من المفكرين والمدنيين، وتستطيع التحكم في القرار السياسي، بينما ضعف الـشق المـدني للحـزب بـصورة ملحوظـة، فبيـنما كان القادة العسكريون يتبوأون مناصب عليا في قيادة الحزب لم يكن مـن حق المدنيين التدخل في شؤون المؤسسة العسكرية، وعندما شعرت القيادة المدنية بأنها فقدت السيطرة عـلى الأعضاء العسكريين شرع أقطاب البعث في مهاجمة نفوذهم وبيان ضرورة انصياع الضباط للمنظرين، وهو ما لم يحدث فقرر الآباء المؤسسون مغادرة البلاد فذهب عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني إلى بيروت.

 وفي عام 1966، شهدت سوريا انقلابًا عسكريًا أفضى إلى سيطرة الضابطين صلاح جديد وحافظ الأسد على السلطة وكانا من أشد أعضاء اللجنة العسكرية للبعث بُغضًا لعفلق، فتم فصله من الحزب وصدر ضده حكم غيابي بالإعدام، وانقسم الحزب بين القيادة القُطرية في سوريا، والقيادة القومية في المهجر.

وفي 17 تموز/يوليو 1968، عاد البعثيون في العراق إلى الحكم مرة أخرى عبر الإطاحة بالرئيس عبد الرحمن عارف، وتولى البعث الحكم بقيادة أحمد حسن البكر، ونائبه صدام حسين، ومن هنا بدأت الصراع المحموم بين دمشق وبغداد التي احتضنت عفلق، وتمّ انتخابه أمينًا عامًا لحزب البعث في العراق، وظلّ في نفس المنصب حتى وفاته في 23 من حزيران/ يونيو من عام 1989.

تقارب وتباعد

جرت عدة محاولات للوساطة بين حكومتي البعث، ودعم الجيش العراقي نظيره السوري في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، لكن سرعان ما عادت العلاقة إلى مسار التدهور، ومع تقدم المفاوضات المصرية – الإسرائيلية، خشيت سوريا من العزلة فتقارب البلدان من جديد، ووقّع أحمد حسن البكر وحافظ الأسد «ميثاق العمل الوطني» في أكتوبر/ تشرين الأول 1978، تمهيداً لإعلان دولة الاتحاد السوري العراقي في العام التالي، ووقعت لقاءات ومداولات عديدة بين البلدين حول طبيعة هذا الاتحاد، لكن في 16 يوليو/ تموز 1979، أعلن أحمد حسن البكر تنحيه عن الحكم لأسباب صحية وتولى صدام حسين الرئاسة وكان معارضاً لمشروع الاتحاد، وبعد ستة أيام في 22 يوليو/تموز خرج صدام على الملأ ليعلن أسماء قادة من الحزب متهمين بالخيانة والتواصل سرًا مع حافظ الأسد وأمر بإعدامهم فيما عُرف بمجزرة الرفاق أو حادثة قاعة الخلد، وبذلك انهارت مساعي الوحدة مع دمشق التي تم اتهام نظامها بالخيانة والعمالة.

ولما بدأت الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980، وقفت دمشق مع طهران، وردّت بغداد بقطع العلاقات مع سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 1980، وشكلت عداوة العراق محور تعاون إيران مع سوريا، وفي محاولة لخنق نظام صدام اقتصادياً في ظل انغماسه بالحرب على جبهته الشرقية، أقدم الأسد على غلق حدوده مع العراق، وقطع أنبوب النفط العراقي المار إلى البحر المتوسط عام 1982، وتلقى مقابل هذه الخطوة شحنات نفطية إيرانية ضخمة، ويحكي نائب الرئيس السوري السابق، عبد الحليم خدام، في مذكراته تفصيلياً كيف قاد السوريون محاولات للوساطة بين طهران ودول الخليج العربي بهدف وقف دعم هذه الدول للعراق في حربه التي استمرت لثمان سنوات.

واتهم نظام الأسد، العراقيين بدعم جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، التي دارت مواجهات عسكرية بينها وبين النظام أفضت إلى مجازر راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين السوريين، وفي لبنان دعم العراق جهود تعريب الأزمة وعدم ترك الساحة اللبنانية لينفرد بها الأسد، كما اتهمت بغداد سوريا باحتجاز ثلاثة مليارات من مياه الفرات عن أراضيه (سؤدد عبد الحسين، العراق والحرب الأهلية اللبنانية، ص7)، واشتعلت الحملات الإعلامية في دمشق وبغداد ضد بعضهما البعض، وبأوامر من الأسد كُتب على جواز السفر السوري “يسمح لحامله بالسفر إلى جميع الدول عدا إسرائيل والعراق” (زكي جميل حافظ، مذكرات شاهد على ثلاثة عهود من حكم العراق، دار الكتاب الثقافي، ص342).

وبعد غزو صدام للكويت عام 1990، شارك الجيش السوري ضمن التحالف الدولي ضد العراق، وفي منتصف التسعينيات، عاد الطرفان للتقارب مرة أخرى، بسبب تأزم الوضع الاقتصادي الصعب في كلا الدولتين، وخشيتهما من التغييرات السياسية التي تريد الولايات المتحدة إحداثها في المنطقة، ومحاولة كلا الطرفين فك العزلة الإقليمية عن نفسه، لكن وقتها تجاوز الزمن فكرة الوحدة العربية بين الدولتين مع تغير الظروف المحيطة والدولية وصارت الفكرة شيئًا من الماضي.

أسباب الخلاف

وصف ميشيل عفلق حزب البعث في سوريا بأنه يشك بأنه حزبه وأن هذه المبادئ مبادئه، متسائلاً:

كيف يمكن أن يقوم في بلدين متصلين نظامين يقـولان بـالانتماء إلى حركة ثورية واحدة هي حزب البعث العربي الاشتراكي ويستمران في تغليب التناقضات الفرعيــة والثانوية على مواجهة العدو؟ تلك التناقضات التي لا يجـوز أن توضـع في مستوى الأخطاء المهددة لمصير الأمة، فالواضح والأكيد بعـد هـذه التجارب الطويلة المتكررة أن إرادة التفرقة والتجزئة والتناحر هـي الأصل والأساس، وأن التبريـرات العقائدية والسياسية تأتي لتستريح وتغلق هذه الإرادة.
ميشيل عفلق، نقطة البداية، مقال نداء المسؤولية.

يرجع تفسير الصراعات بين فرعي الحزب إلى عدة عوامل أبرزها بذور الانقسام التي حملها البعث في داخله منذ نشأته، إذ تشكل من اندماج عدد من الأحزاب خـلال فترة الأربعينيات، وانضم إليها لاحقًا الحزب الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني في نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٥٢، فضلاً عن الجذور الأيديولوجية لظاهرة الانقسام (بشير زين العابدين، الجيش والسياسة في سورية، دار الجابية، ص٢٥٤) فقد رسخ عفلق لفكرة الاشتراكية الانقلابية التي تعني ضرورة تحقيق التغيير في المجتمع من خـلال إحـداث انقـلاب شامل، قائلاً: «حركتنا عربية انقلابية، وقد بينّا العلاقة بــين الانقلابية والصفة القومية وقلنا إن انقلابيتنا تنبـع مـن صلتنا القوميـة وشـعورنا بفقر الواقع وقساوته وضرورة تبديله والقيام بانقلاب يرجع إلى الأمة حقيقتها ويظهر كفاءتها الحقيقية وروحها وأخلاقها».

ويؤكد أيضًا هذا المعنى بشكل واضح فيقول:

نحن لا نحارب الأوضاع الراهنة لأنها فاسدة فحسب، بل نحاربها لأننا مضطرون إلى أن نحارب، لأنه لا بد لنا من أن نحارب، لا بد للأمة أن تستكشف في نفسها بقايا القوى الـصادقة والاجتماعيـة الزائفة الفاسدة لا لمجرد إزالتها، بل أيضًا لكي تعـود للأمـة وحدتها.. فالانقلاب هـو وحـده الـذي يكون الشخصية العربية من جديد.

وأطاحت هذه الروح الصدامية بالآباء المؤسسين للحزب فيما بعد، إذ لجأ أتباعهم إلى الانقلابية ليس مع المجتمع فحسب، بل كوسيلة لحسم الخلافات الداخلية، وتحولت الخلافات بين أبناء الكيان الواحد، إلى سياسة لتصفية المنافسين داخل الحزب، وساهم إدخال العسكريين في هذه الخلافات الأيديولوجية في خروجها عن نطاقها.

كما أن الجانب الطائفي كان له دور مهم فعندما وصل البعث إلى الـسلطة في سوريا، كـان عدد أعضائه قليلاً جدًا بعد تجربة حله خلال الوحدة مع مصر حتى عام 1961 والانشقاقات التي أفقدتـه عناصره التنظيرية، فلجأ الحزب إلى سياسة التنسيب العشوائي لزيادة عدد كوادره فانضمت له عناصر تنتمي للأقليات الدينية، لا يفقه كثير منهم شيئًا عن حقيقة أفكار الحزب، وخضع في النهاية لتحكم قلة من الضباط العلويين يعتمدون على العصبية الطائفية والعشائرية لتثبيت سلطتهم، وكانت تجربة الوحدة مع العراق ستُغرق الأقلية العلوية في بحر سني كبير يمتد ما بين سواحل الخليج العربي إلى البحر المتوسط.

كما أن العوامل الشخصية تعد من أكبر أسباب العداء بين حافظ الأسد وصدام حسين، فالأخير كان يطمح للهيمنة والزعامة الإقليمية، واستعان بمؤسس حزب البعث ليكون مقر القيادة القومية للحزب في بغداد، والفرع السوري تابع لها وليس العكس، واستضاف كبار القيادات البعثية الهاربة من سوريا مثل الرئيس، أمين الحافظ، وأميني حزب البعث السابقين، منيف الرزاز، وشبلي العيسمي، وغيرهم.

كما أن الوحدة التي كان يخطط لها أحمد حسن البكر مع الأسد كانت ستلقي بصدام إلى موقع الرجل الثالث على أحسن تقدير بعدما كان قاب قوسين أو أدنى لنيل السلطة رسميًا، والرجل الأول فعليًا في العراق، بينما كان كل من صدام والأسد يرى نفسه وريثًا لزعامة جمال عبد الناصر بعد وفاته عام 1970، وبذلك لم تقف طموحات أي منهما عند حدود دولته.