يحدث أن نحب أشخاصًا في روايات ولم نرهم، أو نتعلق بأشخاص صنعهم خيالنا، وقد يزداد هوسنا بهم لحد البحث عنهم ومواعدتهم عند البحر. في أول أفلامها الوثائقية الروائية، ذهبت المخرجة الأردنية -فلسطينية الأصل- «ميس دروزة» إلى فلسطين لأول مرة لمقابلة حبيبها «حسن» الذي لم تره من قبل.

يطالعنا في بداية فيلمها «حبيبي بيستناني عند البحر» إهداء إلى «حسن حوراني»، ولا نعرف بالفيلم ما علاقة ميس بحوراني، وبقليل من البحث نعرف أنه فنان تشكيلي فلسطيني له قصة مأساوية وعبثية في الوقت ذاته. كان يحلم بالسفر إلى «يافا»، وعندما استطاع الهرب من الضفة الغربية إلى يافا بعيدًا عن أعين السلطات، لقي حتفه غرقًا، وكما يقول «إدوارد سعيد»؛ فالفلسطيني معرّض دائمًا للموت المفاجئ والاختفاء الذي لا يمكن تفسيره، وكان ذلك في عام 2003. قبل وفاته بأسبوعين صدر كتابه «حسن في كل مكان» شعر ورسومات للأطفال.


حسن في كل مكان

الاحتلال خلق أجيالاً يمكنها أن تحب حبيبًا مجهولاً، نائيًا عسيرًا، محاطًا بالحراس، والأسوار، والرؤوس النووية، والشعر الأملس.
مريد البرغوثي، رأيت رام الله

تقول ميس، في ندوة أعقبت الفيلم بسينما زاوية بالقاهرة عن علاقتها بحسن، أنها منذ سمعت عن حسن حوراني أغرمت به وبتحديه للاحتلال بخياله ورسوماته. عندما عثرت على كتاب «حسن في كل مكان»، وهو كتاب للأطفال، عرفت حينها أنها ستنفذ فيلمًا عنه، ولكنها لم تعرف كيف؛ فهي لم تذهب لفلسطين من قبل، وجهزت خطة بديلة برأسها في حال تعثّر الذهاب.

عبرَت ميس نهر الأردن لتصل إلى فلسطين ولم تكن تعرف ماذا ينتظرها، ذهبت لتقتفي أثر حسن؛ لتقابل وجهه في بيارات البرتقال في يافا؛ لكي تلمس فلسطين. يختلف تكنيك الفيلم كثيرًا عن إكليشيهات الأفلام الفلسطينية المعتادة؛ المقاومة والاتفاقيات والإسقاطات، يتحدث بنغمة هادئة وشجية عن مأساة الفلسطينيين المزمنة وحلمهم الذي لا شفاء منه.

بألوان خشبية ترسم ميس طيورًا وأسماكًا وبحارًا، دراجات تطير فوق المدينة، تشبه رسومات حسن الطفولية، إلحاح الرغبة بداخل ميس لزيارة فلسطين، غذته أحلام حسن، البلد التي لا تعرف عنها سوى صورة بهتت ألوانها لشاطئ البحر ورثتها عن أبيها. بالبحث في رسومات حسن، سنعرف أنه كان مهمومًا بفكرة الترحال، مغرمًا بالبحر، والسمكة التي تحب طيرًا، وفلسطين الحلم. تقول ميس إنها كانت تحلم بأن تلتقي حبيبها المتخيل عند البحر، واستبدلته بحسن فور أن وقع في يدها كتابه.

يعدّ الفيلم تجربة ذاتية جدًا، وعلى حد قول المخرجة لم تتكسب منه ولا دولارًا واحدًا، في كل أفلامها السابقة بدت مهمومة بقصة الهوية؛ أين تبدأ وتنتهي فلسطين. يلامس الفيلم الأفكار التي طرحتها في فيلمها (العشاء 2009) وفيه تظهر ميس بشخصيتها تحاول عمل وجبة فلسطينية من زيت وزعتر وحكايات لا تعرفها سوى من كلام أمها، تمامًا مثلما تتخيل البلد التي لم ترها، بدت ميس أيضًا مهمومة بفكرة المكان، وذاكرته، والأجيال التي ولدت بعمّان من أصول فلسطينية، لا يعرفون شيئًا عن فلسطين الحقيقية سوى من حكايات آبائهم.

بالرغم من شاعرية الاسم والفكرة، فالفيلم سياسي بامتياز، ذهبت ميس للقدس بعد استخراج آلاف التصاريح؛ لتقابل ثلاثة شباب؛ ليحكوا لها عن الحياة المزدوجة التي يحياها الفلسطينيون هناك، جنبًا إلى جنب مع الإسرائيليين. تمنت ميس الذهاب لغزة ولكنها لم تستطع بالطبع؛ فغزة محاصرة، فذهبت إلى الضفة الغربية وقابلت فلسطينيين لتبحث فيهم عن وجه «حسن».


يافا عروس البحر

قابلت «نائل» الذي نهر زوجته التي تحمل الجنسية الكندية؛ لأنها قالت للجندي الإسرائيلي على المعبر «أرجوك» اسمح لنا بالعبور، أخبرها بألا تتوسل إليه فهي أرضهم. تخبرها الزوجة بأن المشروع الصهيوني ليس له مستقبل، بينما يرفض نائل الخروج من البيت كي لا يقابل جنودًا إسرائيليين. التقت أيضًا بصاحب مطعم يصنع الفلافل الفلسطينية، لم ترتجل المخرجة هذه اللقاءات ولكن استغرقت كتابتها ثلاث سنوات، قبل أن تصل ليافا عروس البحر كما كانت تسميها.

لم تعنى «ميس» بالبلد قدر ما عنيت بالناس أنفسهم، قابلت «سامر» الذي أخبرها بأنه تعدى مراحل الإحباط بزمن، سامر الذي يقبع في السجن الآن، قابلت من يخاف تحقيق حلمه مثلما كان يخاف الزير سالم من الوصول للهند. أجمعت شخصيات الفيلم على اختلاف مآسيهم بأن ما يبقيهم أحياء هو الحلم، الحلم بأن يعيشوا حياة طبيعية، بأن يذهبوا لشاطئ البحر بدون توقيف السلطات. وانتهت رحلة «ميس» عند بحر يافا، في نفس المكان الذي غرق فيه حسن، وهو يحقق حلمه بالسباحة عند شاطئ يافا.


«ميس دروزة» ورحلة البحث عن الهوية

بالبحث في رسومات حسن، سنعرف أنه كان مهمومًا بفكرة الترحال، مغرمًا بالبحر، والسمكة التي تحب طيرًا، وفلسطين الحلم

المخرجة «ميس دروزة» من مواليد عمان 1975م، درست الهندسة المعمارية، عملت في تصميم الجرافيك والتوثيق التلفزيوني، وتعيش حاليًا بمصر، تخرجت من جامعة «كينغستون» البريطانية في 1997م، وحصلت على منحة دراسية من المجلس الثقافي البريطاني لتكمل الماجستير في إخراج الأفلام الوثائقية من كلية «أدنبرة» للفنون عام 2007م.

نفذت ميس عددًا من الأفلام التجريبية القصيرة، وكان أول أفلامها «لم تكن حكاية زيتون» في عام 2001م، ثم فيلم «الدمى البشرية» عام 2005م، وفيلم «بعدني أنتظر» في 2007م، والفيلم الوثائقي الطويل «خذني إلى أرضي» عام 2008م، وفيلم «العشاء» 2009م وهو وثائقي عن عائلتها كجزء من عمل مشترك بعنوان «موسم حصاد» تناول هموم أربعة مخرجين حول قضية الهوية.

وقد شارك فيلمها «حبيبي بيستناني عند البحر» في مهرجان دبي السينمائي في دورته العاشرة، كما فاز بعدة جوائز منها؛ جائزة «الجولدن لينكس» في مهرجان (مخرجون جدد/أفلام جديدة) في البرتغال، وجائزة أفضل وثائقي بمهرجان «ميد فيلم» بإيطاليا، والجائزة الكبرى لأفضل فيلم بمهرجان «فيمينا» لسينما المرأة، كما تم منحها جائزة لجنة التحكيم بمهرجان الإسماعيلية الماضي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.