منذ يومين شعرت ببعض الملل من روتين العمل فقررت أن أستعين بموقع يوتيوب، صديقي المعتاد في تلك اللحظات. وبعد العديد من التنقلات والبحث والتردد، اقترح عليَّ صديقي سماع أغنية «تنسى واحدة» لعمرو دياب. شعرت بالحنين لتلك الأغنية خاصة أنني لم أسمعها منذ أشهر عديدة، فقررت سماعها.

وبمجرد أن بدأ عمرو دياب في الغناء بالمطلع الشهير: «ليه يا قلبي كل يوم بتحب واحدة؟» قلت بداخل نفسي: بالتأكيد تلك كلمات بهاء الدين محمد. ذهبت للبحث عن مؤلف الأغنية وتأكدت من صحة تكهني بالفعل. شعرت بنشوة صغيرة كتلك التي تشعر بها عندما تقذف زجاجة بلاستيكية من مسافة بعيدة فتسقط في الصندوق الذي صوبت تجاهه بالفعل، تلك التي يطلقون عليها الانتصارات الصغيرة.

وبعد الانتهاء من نشوتي تلك التي لم تتخذ أكثر من بضع ثوانٍ، سألت نفسي: لماذا اخترت بهاء الدين محمد تحديدًا ولم أشعر بحيرة الاختيار بينه وبين أي مؤلف آخر؟ فوجدت أن عقلي قد ربط بين تلك الأغنية والنمط المميز الذي يستقر منذ سنوات في ذاكرتي عن كل أغاني بهاء الدين محمد.

كلمات بهاء الدين محمد عميقة للغاية، والتعاون معه ليس سهلًا لأنه يريد أن يكون هو بطل الأغنية بكلماته.

لعل هذا النمط المميز هو الذي جعل الملحن المصري «عمرو مصطفى» يصف بهاء الدين بهذه الكلمات. «عمرو مصطفى» لم يخطئ إطلاقًا، فبهاء الدين محمد هو بطل جميع الكلمات التي ألفها بالفعل.

دعنا نستعرض من خلال بعض أعمال بهاء الدين طبيعة هذا النمط. في الحقيقة هي أنماط عديدة، ولكن يمكن تصنيفها جميعًا تحت عنوان واحد كبير وهو: «الأغنية غير المباشرة». أغانٍ ذكية دائمًا لدرجة جعلتني أشك أنه خريج كلية الهندسة وليس فنون جميلة كما وجدت. أغانٍ كل ما علق في ذهنك عنها هي كلماتها، وليست ألحانها أو توزيعها أو صوت من أداها.


الحوار

«قالت لي قول» إحدى أشهر أغنيات الألفية الجديدة، أغنية طغى عليها نمط حواري يتقنه بهاء الدين محمد بشكل مبهر. الحوار بين الإنسان وقلبه، أو الإنسان ومحبوبته. هو بارع في تلك المنطقة، ودائمًا ما يجيدها؛ لأنه يصل فيها إلى تفاصيل تشعرك أنه لم يهدف فقط إلى إبهارك بمطلع الأغنية، ولكنه سيكمل معك بنفس الاهتمام والتفاصيل حتى نهايتها.

قالت لي: عارفة ده ماضي فات من كام سنة، ومصدقاك إن أنت عايش ليا أنا. قلت لها: طيب، ليه زعلتي؟ قالت لي: لا، أنا كنت فاكرة إن أول حب أنا.

تشعر أنه قام بكتابة حوار مجرد تمامًا بين شخصين في البداية لمشهد مسرحي، ثم قرر تحويل هذا الحوار بكل بساطة إلى أغنية. الأمر ذاته تكرر في حواره بينه وبين قلبه في «تنسى واحدة»، وبينه وبين محبوبته في أغنية «قال فاكرينك» التي حققت انتشارًا كبيرًا للغاية بالرغم من أنها لم تنزل في ألبوم حتى الآن.

أما في أغنية «أديني رجعت لك» التي وجه فيها حديثه لحبيبته ثم قرر توسعة الدائرة ليشمل الحوار صديقاتها، ثم يتسع أكثر ليشمل قلبها. هو يتعامل مع الحوار كالعجينة التي يشكلها كما يشاء في أغنيات عديدة، وفي كل مرة يبهرك وكأنها أول مرة يفعلها!

أديني رجعت لك أدينى بين إيديكي، كفاية دموع بقى مش عارف أشوف عنيكي. وقولي لهم مش ندهاني، هو اللى وحشته جاني. وقولي لقلبك يسمعني، مش دمعه اللى مرجعني.

القصة

نمط آخر يتميز به يهاء الدين عن غيره، وهو النمط القصصي. قصة تبدأ بها الأغنية وتنتهي معها، وأحيانًا تنتهي الأغنية ولا تنتهي القصة. يستطيع الولوج إلى تفكيرك بقدرة غريبة ولا يرضى أبدًا أن تسمع أغنية من كلماته وتكتفي بالدندنة مع اللحن فحسب، تذكر دائمًا مقولة عمرو مصطفى: «هو يريد أن تكون كلماته هي البطل». سيجعلك تفكر في كلماته وبداية القصة وأحداثها الدقيقة ونهايتها إن وجدت.

هل تتذكر أغنية «أكلمها» للنجم تامر حسني؟ مشهد لطيف يمر به معظمنا في حياتنا، لكن بهاء قرر أن يعكسه على أغنية بكل بساطة. يتصل بحبيبته، فلا ترد، فيتوعدها، فترد في النهاية. يبدأ السؤال والجواب، ثم يغلق الهاتف ويبدأ يحكي عنها مرة أخرى ثم تعاود الاتصال به، فيحكي كيف أنه يستطيع إثارة غيرتها وجنونها، ثم يبدأ في تطبيق ذلك بالفعل. كل ذلك في أغنية واحدة. تركيبة قصصية غريبة.

الأمر ليس مجرد صدفة ولا وليد الإلهام الذي لا يتكرر، بل هي ملكة غريبة تظهر في أغنيات عديدة أخرى لبهاء مثل: «أنتي إللي عملتي» لتامر حسني، و«يدق الباب»، و«معقول هأقولك روح»، و«ضحكت» لعمرو دياب.

هل تتذكر أغنية «آه من الفراق» التي دُهش الجميع من عمق كلماتها حينها، والقصة التي تم سردها في الأغنية؟ أعتقد أنك يمكنك تخمين مؤلفها بسهولة الآن.

لتلك الأغنية قصة طريفة حكاها الشاعر المصري لإذاعة مونت كارلو منذ 6 سنوات. تلك الأغنية قد سُجلت بالفعل عام 1996 بصوت الفنان المصري محمد محيي، لكن المنتج نصر محروس قد رفضها بعد تسجيلها لأنه رأى أنها غريبة ولن تعجب الجمهور، فأخبره بهاء الدين محمد أن تلك الأغنية تحتاج 30 سنة قادمة حتى يفهمها الناس، لكن التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي قد قللت هذه المدة إلى 15 عامًا فقط وفقًا لتصريحه.


لا تتحدث، إنني أعلم ما يناسبك

مساحة أخرى يتميز بها المؤلف المصري الكبير، وهو إجادته لاختيار نوعية الأغاني المناسبة لكل مطرب. وحتى نكون أكثر دقة ووضوحًا في الوصف دعنا نسرد ما فعله بهاء الدين محمد مع الفنان محمد منير. الأمر بدا وكأن بهاء الدين قد دخل على منير وقال له: «أنت محمد منير الذي يصفونك بالعمق؟ حسنًا، هيا بنا».

كتب بهاء الدين محمد لمنير عدة أغانٍ بنفس الطريقة التي تميز بيها طيلة مسيرته. إنسان يخاطب الجميع في «حد عايز قلب فاضي؟» نقاش حاد بينه وبين حبيبته في «بتبعديني»،حوار في «خايف أوعدك مأوفيش»، عبقرية في انتقاء الصور والكلمات في «لما النسيم بيعدي» مما جعل منير يشعر بالخضة والمنتج نصر محروس يشعر بالخوف من تسجيلها ونزولها في الألبوم وفقًا لتصريح بهاء الدين نفسه.

وحينما قرر الكتابة لنانسي عجرم علم أنه لن يناسبها سوى أغنية إطارها الرئيسي الخفة والدلع، فكتب لها «معجبة مغرمة». وحين قرر التعاون مع شيرين عبد الوهاب بصوتها الحزين للغاية كتب «قال صعبان عليه»، و«كتير بنعشق»، وحين كتب لخالد عجاج بعنفوانه وصرخاته «في ناس»، و«أصعب حب»، أما إليسا فقد كتب لها «وساعات»، أغنية حزينة بها ضوء أمل خفيف للغاية، تمامًا كصوت إليسا.

يكتب بهاء الدين الأغنية وهو يتخيل من سيغنيها بالفعل حين ينتهي من كتابتها كما قال خالد عجاج عنه في لقائه مع إسعاد يونس في صاحبة السعادة. هو لا يكتب مجموعة أغنيات كمخزون استراتيجي، ثم يبدأ في عرضها على المطربين، لأنه يرى نفسه أهم من ذلك. وبالفعل، هو أهم من ذلك.


الصدام

إذا قررت بعد هذا المقال البحث بشكل أكبر في مسيرة الشاعر المصري، فستجد شيئًا في غاية الغرابة. هو أنه باستثناء عمرو دياب وسميرة سعيد وأنغام، فإن مسيرته مع بقية الفنانين تقتصر على عدد محدود من الأغاني تُعد على أصابع اليد الواحدة. الأمر حتى الآن ليس غريبًا، لكن الغريب أن تلك الأغاني وبالرغم من قلتها فإنها حققت نجاحًا كبيرًا للغاية، فما الذي يجعل مطربًا يتعامل مع شاعر مميز يصلان معًا لأقصى درجات النجاح ثم تنتهي الرحلة مبكرًا للغاية؟!

ما الذي يجعل مطربة مثل جنات تتعاون معه في أغنيتيها الأمثل «حبيبي على نياته»، و«في خيط ضعيف» إحداهما كانت السبب الأكبر في شهرتها، ثم لا شيء بعد ذلك. شيرين عبدالوهاب أيضًا بعد نجاح «قال صعبان عليه»، و«كتير بنعشق» لم يحدث تعاون بينهما.

يقول بهاء الدين محمد ردًا على هذا الرأي أن لكل مطرب حالة خاصة، فجنات تعاملت مع روتانا التي تمنع مطربيها في مصر التعامل معه بتعليمات من مدير الشركة في مصر. أما شيرين فيحيط بها مرضى نفسيون -يقصد مديرو أعمالها- يريدون الشعور بأهمية مكانتهم، وعند سؤاله عن تكرار الأمر مع منير قال: «يُسأل عن ذلك منير نفسه». و أتبع حديثه قائلًا إن هناك شيئًا آخر يجب أن ننتبه له، وهو أن 90% من مطربي الوسط الفني الحالي مهتزين نفسيًا!

قد تكون تلك الردود الصادمة أو القاسية نوعًا ما سببًا في خوف بعض المطربين من التعامل مع بهاء الدين، وظلمه نوعًا ما. وقد يكون فقدان الشعراء لحقوقهم المعنوية سببًا آخر لهذا الظلم، وقد يكون الاهتمام الإعلامي المُسلط بشكل مبالغ فيه على أيمن بهجت قمر وأمير طعيمة دون غيرهما سببًا ثالثًا لهذا الظلم.

جميعها احتمالات واردة تقبل التأكيد والنفي، أما حالة الظلم التي تعرض لها بهاء الدين محمد ولا تقبل الشك هي ما حدث له مع عمرو دياب في ألبومه الأخير!


كفى ظلمًا

في أبريل/نيسان عام 2018 أعلن عمرو دياب عن نزول أغنية «قال فاكرينك» من كلمات بهاء الدين محمد، والتي كانت سببًا للخلاف بينهما، خلاف امتد لسنوات على أغنية حققت انتشارًا هائلًا على منصات التواصل الاجتماعي بدون نزولها في ألبوم حتى الآن.

لكن بهاء فوجئ بعدم نزول الأغنية في الألبوم بجانب أغنيتين أخريين له استبعدهما عمرو دياب قبل ذلك، لصالح أغانٍ أخرى بدت كلماتها للجميع ضعيفة للغاية. استمرت حالة الجدل تلك خصوصًا بعد مطالبات الجمهور المتكررة لسماع الأغنية في حفلات الهضبة، الأمر الذي جعله يخرج عن شعوره مع أحد الجماهير في حفل جامعة مصر الدولية قائلًا:

والله ما هقولها. أنت لو قعدت 100 سنة تطلبها مش هقولها، لو كنت عاوزها كنت نزلتها في الألبوم، إنما أنا مش عاوزها. مزاجي مش عاجبك متسمعنيش، ده أنت غريب أوي!

ليرد بهاء الدين بعدها معترضًا على طريقة عمرو تلك التي رد بها على الجمهور. وبغض النظر عن الخلاف الشخصي بين دياب وبهاء الدين وتفاصيله، فإن بهاء يشعر بكل تأكيد بالظلم الكبير الذي يتعرض له بعد تاريخه الحافل مع عمرو دياب وهو يراه الآن يغني كلمات مثل: «والله لاحبك موت وأحب برج الحوت»، و«اسحري كل العيون يالي كلك كبرياء وهيبة بسم الله وعز» على حساب كلماته التي أفنى أيامًا في إبداعها. بهاء الدين محمد يستحق أكثر من ذلك بكثير بكل تأكيد.