في إحدى ليالي رمضان منذ عامين أفطرت وذهبت أفتش في مكتبة خال أمي «جدي» بحثًا عن كتب نادرة أستعيرها أو أسرقها بمعنى أدق، وقتها وقعت أمامي مجموعة قصصية اسمها «بالأمس حلمت بك» لبهاء طاهر، وأيضًا جزء من الأعمال الكاملة لتولستوي بترجمة «غائب طعمة فرمان»، ما زلت أحتفظ بها في مكتبي حتى الآن، أي أن عملية الاستعارة تحولت إلى عملية سرقة، لكن لا يهم. 

وقتها قرأت هذه المجموعة مدفوعًا بحديث الكثير عن كتابة بهاء طاهر، لكن لم أحب هذه اللغة الهامسة أكثر من اللازم، التي تقترب من الشعر لكنها لا تعد شعرًا، وربما هذا نابع من تفضيلي الشعر عن أنواع الكتابة الأخرى، وهذا تقف حائلًا بيني وبين بعض الكتب الأدبية التي كتبها أشخاص ينتمون إلى جيل الستينيات.

 وهناك سبب آخر وهو أني أكره فكرة تقديس كاتب بعينه على حساب كُتَّاب آخرين، وهذا أكثر ما سبَّب لي نفورًا تجاه الآراء التي ما زلنا نتداولها حتى الآن تجاه جيل الستينيات، الآراء التي تكون مغالاة إما في المحبة وإما الكره، ويفتقد أغلبها إلى الموضوعية.  فنحن نبحث عن أسباب علاقتهم بعبد الناصر، ونندهش، وبسبب هذا نذمهم أو نغالي في مدح كتاباتهم. نكتب أنهم بنوا كتابتهم وعوالمهم بسبب أزمة القومية والنكسة. 

الأزمة هي ما تصنع الكاتب، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو حتى قومية، أو حتى ذاتية، هي ما تصنع الكاتب وتجعله كاتبًا، كما أرى أن أكثر الأجيال التي تحتاج إلى غربلة، كي يصبح الأدب خاليًا من الميديكور، هو جيل الستينيات، وقتها ربما نتحرر من فكرة تقديس كاتب بعينه على حساب كاتب آخر؛ فقط لأن له موقفًا سياسيًّا/اجتماعيًّا متوافقًا مع أفكارنا، وننسى أن ما يتبقى من الكاتب كتابته، وأن تلك المواقف صنيعة سياق زمني آخر يهمنا فقط في تكوين رأي صحيح حول شخصية الكاتب لا كتابته. 

تعارف حقيقي

بدأ صاحب «خالتي صفية والدير» حياته مترجمًا في الهيئة العامة للاستعلامات بين عامي 56/57، ثم مخرجًا للدراما، ثم مذيعًا في إذاعة البرنامج الثاني الذي كان من مؤسسيه، حتى عام 1975، في منتصف السبعينيات نتيجة لسياسات السادات القمعية وقتها، أصدر وزير الثقافة «يوسف السباعي» آنذاك قرارًا بتطهير مؤسسات الدولة من الشيوعيين، ورغم أن بهاء تفاجأ يكونه شيوعيًّا لأنه ناصري، فإن لعنة الهجرة أو الغربة صحبته حتى قبل ميلاده، كتب بهاء في مذكراته «السيرة في المنفى» الصادرة عن داري نشر (بردية ومصر العربية) تعليقًا على هذا القرار:

أُبلغت أني الوحيد الذي أهدر دمه في الإذاعة، توقفت طويلًا، تأملت هذا الاستنفار العدائي تجاهي بدهشة، لم أكن أعرف أنني شيوعي إلا عن طريق هذا القرار.. كان يمكن أن يصبح الأمر مجرد قرار عليَّ تقبله لو أنني شيوعي بالفعل، ولكني بعدما سألت نفسي: هل أنا شيوعي؟ ثم قلت لنفسي: لعلهم يعرفونني أكثر مما أعرف نفسي!

ربما رد بهاء تجاه ما حدث معه يقودنا إلى فهم وتكوين وجهة نظر ثنائية، تجعلنا نتخلى عن نظرتنا الأحادية تجاه الأمور. 

وبالعودة إلى «نقطة النور» التي صدرت لأول مرة عام 1999، سنجد أن بهاء يصور أبطاله يعانون من السلطوية، وأيضًا يعانون من الحب، لكن السلطة الأبوية في روايته تمثل «السادات»، يظهر ملامح السوء لتلك السلطة، في الجد الذي يتحكم في حياة الجميع، وحياة الجميع مرتبطة به، وفي الفصل الثاني من الرواية «لبنى» تجد هذه الشخصية تعاني من غياب الأب، فالأب الذي كان مناضلًا سابقًا، أجبر ابنته على السفر بعد القبض عليه، كي يمنعها من التعبير عن نفسها، ويرى أصدقاءه القدامى مجرد مجانين يدفعون عمرهم نظير اللاشيء. 

يحطم بهاء  تلك السلطة وسلطتها خلال الفصول الثلاثة لإيمانه بأن النور عند زعيمه الخالد مع بعض اللوم عليه من حين لآخر، لكن بالرغم من ذلك فالكتابة تتجاوز هذه الفكرة وتصبح رواية بها عالم متكامل، وهذا العالم ليس مقتصرًا على ما يؤمن به سياسيًّا كونه ناصريًّا. هذا العالم يشتبك مع المجتمع عبر تحليل سياسة الانفتاح عقب تولي السادات أمور الحكم، وأيضًا به جانب من تحليل للأفكار الصوفية التي يؤمن بها الجد بسبب صديقه “أبو خطوة”. أيضًا هناك ملمح مهم في هذه الرواية وهو تأثر بهاء طاهر بلغة يحيى حقي، في هذه الرواية تصبح لغة بهاء أكثر تركيبًا من لغته في مجموعاته القصصية، في مجموعاته القصصية تصبح اللغة هامسة وتقف على حواف الشعر لكنها لا تصل إليه، ولكن انتماء بهاء إلى جيل الستينيات يوضح لنا أن التيمة المسيطرة عليهم كانت كتابة القصص بهذا الشكل، أي أن تصبح اللغة هامسة أكثر من كونها مركبة، لكن بهاء تخلى عنها هنا. 

تقييم الكاتب عبر كتابته لا عبر عالمه 

في كتابه الكاتب وعالمه يكتب الكاتب الإنجليزي تشارلس مورجان (1894-1958) بترجمة شكرى محمد عياد (1921-1999): فشغلنا – فنانين ونقادًا – هو أن نميز بين الفنانين لا أن نضطهد رجالًا يخالفوننا في الدين أو السياسة.  

تابعت ما كتبت الأستاذة صافيناز كاظم (١٩٣٧) عن بهاء طاهر، ولم أرَ معنى له سوى أنه ضغينة شخصية تجاه كاتب راحل، وهذا ليس دفاعًا أخلاقيًّا لأن الكاتب مات، بل لأن هذا ليس نقدًا، بل ضغينة، ضغينة لأن الكاتب لم يتوافق مع ما تؤمن به الكاتبة سياسيًّا،

ورغم هذا لا ينقص شيئًا من كاتبة لها تاريخ طويل، حتى لو لم يعجبني بعض ما تكتب، فهذا حقها تمامًا، لكن الغريب أننا ندفع الكتابة نحو هذا الصراع الواهي، ونضعها أسفل تقييم سياسي ليس له علاقة بالكتابة، أو حتى علاقة شخصية بين الكاتب والناقدة. والأغرب عدم تقبل الأستاذة لأي نقد موجه لرأيها، لذا تناست وظيفتها كناقدة في أكثر لحظة كان يجب أن تلتزمها وتؤديها على أكمل وجه.  

حتى لو أن هناك مواقف تراها مخزية بالنسبة إليها، في النهاية تبقى وسيلة تقييم الكاتب هي الكتابة، لا مواقفه السياسية ولا شره ولا حتى كونه فاشيًّا، فجورج أورويل الذي كتب “١٩٨٤” ومزرعة الحيوان تدور شبهة حول كونه جاسوسًا تبعًا لما نشرته جريدة النيويورك تايمز. وربما هذا ما يجب أن تخلفه قراءة الأدب عند البشر، سواء كانوا نقادًا أو حتى كتابًا أو قراءً عاديين. فنحن علاقتنا بالكاتب تتشكل عبر كتابته لا عبر عالمه الشخصي.

  في الرواية يكتب بهاء:

رفع سالم إلى جده عينين ملهوفتين، فقال الجد بلهجة قاطعة: لا أحد يفسر حلمك غيرك يا سالم، أنا أعرف الآن أن الأفضل ألا أنطق بما لا أعلم، لكني أعرف أيضًا أنك تستحق النور الذي رأيته في حلمك، المهم يا سالم ألا تخطئ النور عندما يجيء. لا أفهم يا جدي. ربما نفهم معًا يا ولدي، ربما لا يكون الوقت قد فات، اليوم أنا أيضًا أريد أن أفهم.

 وربما هذه النصيحة أكثر ما كان يجب أن يردده بهاء على نفسه، وربما هو حاول أن يفهم لكنه فشل في ذلك، فالرجل الذي انتقد سلطة السادات لم يرَ أي شيء في سلطة عبد الناصر. أكثر ما يجب أن نفهمه من روايته وحياته أن الحياة أكبر مما نؤمن به ونعتقده صحيحًا، وأن الكتابة أي الكتابة الأدبية تقيم عبر ما كتب الكاتب من مسرحيات أو روايات أو قصص، لا عبر تحليل مواقفه السياسية، حتى لو أن هذه المواقف لم تتوافق معنا. وأن من الوارد دائمًا أن يخدعنا النور أو نراه ونضل الطريق. أو لا نراه من الأساس. وهذا ليس دفاعًا عن الكاتب، بل محاولة لتحليل ظاهرة تقييم الأدب والفنون عبر الانتماء السياسي، وإذا سرنا وراء هذا فسنفقد الموضوعية في تقييم الأدب والفنون، وستصبح وسيلة التقييم بعيدة عن تقييم جودة ما قدم الكاتب/ أو الفنان، وسنمجد ما لا يستحق لأنه فقط ينتمي إلى ما نؤمن به ونعتقده، وسنظلم ما يستحق لأنه لا يؤمن بما نؤمن به، وهنا كلمة “الاستحقاق” نابعة من أن تكون وسيلة التقييم هي ما قدَّم الكاتب فقط من كتابة.