أخيرًا يخرج لنا «طلال فيصل» بروايته الثالثة، التي أعلن عنها منذ فترة وعرف متابعوه أنه يكتبها وانتظروها منه منذ منتصف أغسطس/آب الماضي تقريبًا، عرف الكثيرون أنه يكتب عن الموسيقار «بليغ حمدي»، والأمر مختلفٌ هذه المرة عن روايته السابقة التي لاقت نجاحًا جماهيريًا ونقديًا كبيرًا، رواية «سرور» التي تناول فيها قصة حياة الشاعر المغمور «نجيب سرور» والتي حاز عنها على جائزة «ساويرس» عام 2015.

في هذه الرواية يغزل «طلال فيصل» باقتدار بين ثلاثة خيوط متوازية يذكرها للقارئ منذ أول الرواية بوضوح، فهو -كما نعلم -ـ يتحدث عن الموسيقار الموهوب «بليغ حمدي» في طرفٍ منها، ثم «حدوتة» ثانية عن فتى غادر بلاده هربًا أو عشقًا فانتهى به المطاف في مصحة نفسية بباريس، والثالث موسيقار مغربي غير معروف ولكنه يفهم في الموسيقى ويصادف أنه يلتقي الاثنين.

والذين قرأوا لطلال فيصل من قبل رواية «سرور» يعرفون تلك التقنية التي يبدو أنه اعتمدها لتصبح سمة مميزة لرواياته، وهي أنه يضمن في الرواية بطلًا يحمل اسمه «طلال فيصل» ويتماس في حكايته مع سيرته الخاصة الذاتية، وإن كان يجعله أصغر سنًا منه في هذه الرواية (مواليد 1990) ويجعله خريج كلية الحقوق، ويتقاطع معه في كونه كاتبًا روائيًا ومترجمًا كتب في عدد من الصحف المصرية، بالإضافة إلى كونه من بيئة وتربية خاصة ينتمي أفرادها إلى «الإخوان المسلمين»، وإن كان هو وبطل روايته يعلنان تمردهما التام عن تلك البيئة وانخراطه في بيئة مثقفي «وسط البلد» بكل تفاصيله. يتزامن كل ذلك مع أحداث الثورة المصرية 2011 ووصول الإخوان المسلمين للحكم، ثم خروجهم منه وما تبع ذلك من هزائم وخيبات.

يمزج طلال في الجزء الأول من الرواية والمعنون باسم «طلال فيصل»، في حكاية ذلك «الفتى» بين سرده لحكاية بليغ حمدي منذ بداياته المبكرة حينما طرد مع «شلة الفاقدين» من مدرسة التوفيقية الثانوية وبداية اكتشافه لولعه بالموسيقى، ثم التحاقه بكلية الحقوق عام 1950 للحصول على شهادة جامعية، مع التحاقه في الوقت نفسه بمعهد فؤاد للموسيقى ودراسته للبيانو على يد الفرنسية «جوليو» في شارع الشيخ ريحان، وتكوين فرقة صغيرة تغني وتلقي المونولوجات في الأفراح وتكون أولى تجاربه الغنائية بصوته أغنية «ساعة لقلبك» التي تنضح بالبهجة واللامبالاة وكأنها «فلسفته في الحياة».

لو أنك تأملت يا سليمان يا صاحبي، لوجدت أن سيرة الفتى وموسيقاه يمكن تلخيصهما في ثلاث كلمات: الصدفة والبهجة والسبوبة. أولًا الصدفة وهي الموهبة الموسيقية القادمة من المجهول، النغمة الساحرة التي لا تعرف لها مصدرًا، شيءٌ غير خاضعٍ للعلم ولا للتخطيط المسبق، غير قابلٍ للتفسير . ننتقل من الصدفة إلى البهجة، كل أغانيه وخصوصًا البدايات كانت أشبه بما يعزف في الملاهي والبارات للأجانب «jingle» بسيط لطيف. هنا نصل للكلمة الأخيرة، السبوبة هذه يا سليمان دماغ شخصٍ «سبوبجي»، «نحتجي» لا يلقي كبير بالٍ لفكرة أنه ملحن كبير أو موسيقار بالمعنى الرسمي، إنه نقيض التام لما يفعله عبد الوهاب مثلًا في الموسيقى.

يمزج طلال فيصل في الرواية بين شخصياته، فلا يكون «بليغ حمدي» غريبًا عن البطل الشاب الذي وجد نفسه تائهًا حائرًا في شوارع فرنسا ويحلم بأن يكتب رواية فارقة عنه، ويبدو رغم اختلاف قصته عن حياة «بليغ حمدي» ومغامراته ومشواره الطويل، أنه يتقاطع معه في محاولته البحث عن الحب والبهجة، وأخذ الحياة بلا مبالاة، ولا شك أن قصة حبه المتعثرة ولقاءه بالفرنسية «مارييل» تكاد تتقاطع مع سيرة حب «بليغ» وعلاقته بالمطربة الجزائرية «وردة» وقصة حبه وزواجه بها التي أصبحت حديث الناس، وإن اختلفت النهايات.

بعيدًا عن الشخصيات الثلاث يقسّم طلال فيصل روايته إلى خمسة أجزاء مختلفة، تبدأ بحكاية «الطبيب النفسي» الذي ننتقل منها إلى قصة «طلال فيصل» الشاب وهو الجزء الأكبر من الرواية، يأتي فيه تفاصيل حكاية ذلك الشاب بالتقاطع مع حكاية بليغ، ثم الفصل الثالث المعنون «القاضي»، ثم فصل رابع بعنوان «بليغ» يجمع بين السرد والتوثيق يحوي عددًا مما يفترض أنه أوراق ويوميات ومذكرات خاصة «ببليغ حمدي» نجد فيها تقاطعًا لبعض الحكايات التي أوردها «طلال فيصل» أثناء حكايته، ولكنها تحمل في كثيرٍ منها روح راويها وطبيعة شخصيات تلك المرحلة بشكل مباشر، وفي النهاية يأتي الفصل الختامي بصوت «سليمان العطار» تلك الشخصية الاستثنائية التي يصادف أنها تجمع بين مقابلة «بليغ حمدي» في وقت سابق وبين «طلال فيصل» الآن، والتي نكتشف أيضًا في آخر الرواية أنه يحمل قصة حبٍ متعثرٌة هو الآخر.

لم تكن لديَّ جرأة طلال ولا اندفاعه، ولعل هذا أنقذني من تلك التداعيات المفزعة، غير أن الألم الذاهل ومحاولات التجاوز البائسة تتشابه بشكل مثير للرثاء، أستعيد عبارته الحكيمة: إن ما حدث لي ولك مجرد عرض لمشكلة أصيلة كامنة فينا، ربما نكون قد أحببنا بطريقة ليس في وسع امرأة احتمالها، ربما تم استغلالنا بقصدٍ أو بغير قصد، غير أن العلة كانت موجودة فينا قبل أي شيء . ذلك لأننا فنانون يا سليمان، هل تفهم؟!

يواجه «طلال» الكاتب والبطل في آنٍ معًا، قارئه بالحقيقة مباشرةً، بعد أن عرضها طوال صفحات الرواية موزعة ومقسمة كما لو بشكل موسيقي بين حكايات بليغ وطلال الآخر، ليأتي بها إليك في النهاية كما ستقرأها «حتى بليغ حمدي لم تنفعه موهبته ولا خبرته في الحياة من الإفلات مما تعانيه». هذه هي صورة النجم الكبير كما رآها «طلال فيصل»، وكما قرأ تفاصيلها في حكاية «بليغ حمدي» وكما أراد أن يوضحها ويرسمها للناس.

ليس الأمر كله مجرد قصة حبٍ فاشلة بالطبع، وليست تلك القصص حتى هي ما يمكن أن يعتبر محور تلك التجربة السردية الفريدة، بل هي الحياة كلها، والجميل في سرد طلال وحكايته أنها تأتي منسابة تمامًا، يحكيها كل طرف ببساطة، في مقاطع صغيرة موجزة، تصوّر مواقف وأحداث كبيرة وصغيرة مؤثرة وعابرة، على اختلاف مستوياتها ومستويات أبطالها ومعرفة الناس بهم، إذ نجد أنه يمر مرورًا كريمًا على سلاطين الغناء العربي، «فأم كلثوم» حاضرة بقوة جنبًا إلى جنب مع حضور «وردة»، والإخوان المسلمون حاضرون بقوة مع حضور أحداث الثورة والجيش والعسكر.

هي حكاية كل ذلك معًا، حكاية الأحلام المجهضة والآمال العريضة، مع الهزائم المتكررة والاكتشافات التي يدور العالم كله حولها، ليست مصر بعيدة عن فرنسا كما نعتقد، وليست باريس مختلفة تمامًا عن القاهرة، وبليغ حمدي بكل صيته وعبقريته الموسيقية الاستثنائية لم يكن قادرًا على تحقيق أبسط أحلام حياته، ولكنه في النهاية -وهذا هو الفرق الهام – استطاع أن يعيش حياته «بالطول والعرض» ـ كما نقول، بحث في كل مرة عن البهجة، ولم يتقيّد بصورة الفنان كما يُراد له أن يكون بل سعى إلى ما يحب حتى لو أعرضت الدنيا كلها عنه.

هذا هو مكمن جمال هذه الرواية الأساسي، وهو ما نجح «طلال فيصل» في التعبير عنه باقتدار، وفي الانتقال في الرواية بين أجزائها المتخيلة والواقعية، وبين السرد المتخيل والسرد المشفوع بالوثائق والمستندات، حتى جاءت «بليغ» في النهاية كلوحة جديدة متكاملة لا تحمل رصانة السيرة الذاتية الجامدة، وإنما تحمل رهافة الأدب والرواية والتعبير الإنساني عن الحياة بكل معانيها.

من جهة أخرى، غير بعيدة عن هذا السياق، يعد «طلال فيصل» قراءه برواية أخرى، فيما يعرف بالسيرة الأدبية تلك، ولكن عن شخصية أخرى مختلفة تمامًا بعيدة عن عالم الموسيقى قريبة من عالم السياسة والدين والأدب، يعد بكتابة روايته القادمة عن «سيد قطب» وإنا لمنتظرون.