إنه الخيال والسحر مرة أخرى، إنه حضور الواقعي والمعاش بطريقةٍ استثنائية مختلفة، لا يمكنها أن تأتي إلا بين الكلمات، ولا يمكن للقارئ أن يصدقها ويتفاعل معها إلا بين صفحات رواية متقنة، يسعى كاتبها طوال الوقت لبناء عالمه الخاص الذي يغيِّر في أدواته وتفاصيله وشخصياته كل مرة، ولكن يبقى له خصوصيته وفرادته، وطريقته التي يوهم القارئ بها ويجعله قادرًا على الغوص فيها مستمتعًا في كل مرةٍ بعالم مغاير يلتمس من الواقع مفرداته وأسئلته المحيِّرة ويبني عليها عوالم الخيال المحلقة غير المنتهية.

في روايته الجديدة «بيَّاصة الشوام» الصادرة مؤخرًا عن دار العين يخوض أحمد الفخراني مرة أخرى مع قارئه عالمًا جديدًا ينطلق من الواقع ومعطياته بل أماكنه، وينطلق كما اعتدنا معه إلى آفاق الخيال والفانتازيا الأكثر ثراءً ورحابة. من مكان معروف في الإسكندرية في (حي العطارين) حيث تقع (بياصة الشوام) التي تشير المعلومات التاريخية عنها إلى أنها منطقة عُرفت بهذا الاسم وهي كلمة محرفة من (لابياتزا) الإيطالية التي تعني الساحة أو الميدان، وعرفت ببياصة الشوام لوجود مطعم شهير فيها هو (ملك السمان) لصاحبه اللبناني الأصل إلياس.

ولكننا ندخل البياصة مع الفخراني من خلال سعيد الذي يعمل في ورشة لصناعة الفخار (هل ثَم تقارب بين الكاتب وصنعة بطل الرواية) والذي يبدو منذ أول سطر في الرواية مهمومًا بأسئلة وجودية تفوق عمره وتجربته في الحياة، يأخذنا معه في رحلةٍ تتجاور فيها الأحداث الواقعية بالغرائبية، والحقيقة بالخيال.

يطرح الكاتب عددًا من الأسئلة الإنسانية المربكة والمحيرة، والتي تبدو شغلًا شاغلًا للكاتب نفسه وهي بلا شك ستطرق أذهان القراء ويدورون حولها طويلًا، منذ البداية نحن أمام أكثر من سؤال وعنصر يربط الخيالي بالواقعي.

لقد ضللت وما اهتديت واهتديت وضللت، لكن شيئًا واحدًا أثق به: أنتم معشر المثقفين خونة كبار، تعيدون صياغة كل شيء كي تمرروا عذاباتكم وقلقكم الشخصي، لكن نحن أقنعة لزهوكم وضعفكم ونرجسيتكم المكبوتة، كيف لفقيرٍ جاهلٍ مثلي أن يقول أشياء كبيرة إلا على لسانٍ بليغ، واللسان البليغ ليس لساني، فأنا لم أعرف من الكلم إلا ابتذاله، ومن الحكمة إلا التحايل للبقاء حيًا، لكن أنت كراوٍ تتصرف كرب، تجري البيان على لساني وتزلزل به روحي فتنفيها، أنت أجهل من دابة، لذا يُغلق عليكم دائمًا ملكوت السماء وقلوب البسطاء. لن تعبر قلبي أبدًا إلا لو دخل الجمل من سم الخياط. كما أنك تأفل وأنا لا أحب الآفلين.
بياصة الشوام _ أحمد الفخراني

ثم حوارٌ خفي وأسئلة خاملة تظهر بين ثنايا فصول الرواية، يطرح فيها الراوي وجهة نظره ويترك السارد له الفرصة في أن يعدل كلمة أو جملة، ولكن دون أن يكون ذلك أساسًا تقوم عليه الرواية، وربما لكي لا يشتت الكاتب ذهن القارئ، هي إشارات عابرة ربما يلتقطها أحدهم، وربما يتجاهلها الآخرون. ولكنها حاضرة وموجودة وتسهم بقدرٍ كبير في بناء الرواية ومحاولة فهمها على النحو الأكمل.

بين عالم (ثريا) الذي يمثل المتعة الحسية الكاملة، والدنيا كما تترآى لسعيد بلا نهاية، وبين عالم (البامبو) ذلك الملك المتوّج على عرش البياصة وصاحب الأمر والنهي، يدور “سعيد” ويسعى للبحث عن الوجود الحقيقي، وبين تمثال (ثريا) الذي استطاع أن ينجزه، وتلك التماثيل التي فوجئ أن معلمه (إدريس) قد صنعها من قبل ولم ترضِ غرور (البامبو) تكمن حيرته ويدور العالم به دورات مختلفة.

لا تبدو حيرة البطل هنا حيرة خاصة، بل إن الكاتب يسعى في كل فصل، وعبر كل مرحلة من مراحل السد والحكاية إلى جعل حيرته إنسانية أكثر، ما الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان؟ وهل يملك لحظة تحقق واحدة فعلًا؟! متى تكون تلك اللحظة؟ وكيف تتكون؟ ومتى يرضى عنها بشكلٍ كامل؟!

توغلت بعيدًا جدًا في الصحرا، هل ضل الفؤاد وما رأى؟ أي مسافةٍ أقطعها الآن؟! هل هي الخطوة الفاصلة بين العقل والجنون؟ هل أتبع إلهي الحق، أم جعلت إلهي هواي؟ أكلني الجوع، فأمسكت حجرًا على بطني، تمنيت لو ربطته على قلبي الذي يغريني بالعودة، لكن إلى أين؟ إلى جحيم البامبو؟ وقلت لو أنجاني منها فسأربط حجرًا على قلبي طيلة عمري فلا يسعني إلا الله، وعلى عقلي فلا أتفكر إلا فيه، وعلى سمعي فلا أسمع إلا صوته، وعلى بصري فلا أبصر إلا وجوده، فالله في كل مكان، والفتنة لم تهجرني، بل عبرت معي إلى الصحراء، لكني عدت فاستغفرته وواصلت المسير.
بياصة الشوام _ أحمد الفخراني

بين رحلةٍ صوفية يسعى البطل إليها فلا تتحقق، ورحلة دنيوية بحتة يغرق فيها في الملذات برفقة ثريا، وبين رحلته الشخصية والأصلية التي يبحث فيها عن أصل الوجود وأسراره يدور عالم سعيد وأبطال روايته، ويدور القارئ معه، بين عوالم واقعية بحتة، وفانتازيا صرفة، ينتقل فيها الفخراني بقارئه بكل سلاسة حتى تنتهي الرواية وقد أشبعته من الحكاية الغريبة المدهشة بشكل كبير.

اقرأ أيضًا «سيرة سيد الباشا»: مهارات اللعب بالخيال والفانتازيا

يبدو الفخراني  في كل روايةٍ من رواياته حريصًا على بناء ذلك العالم الخاص الذي لا يشبه أحدًا، فهو منذ بدأ أولى رواياته (مندورلا) منذ ست سنوات وهو يشكّل ذلك العالم الذي يمزج الواقعي بالمتخيّل ببراعة، وهو ما نسجه ببراعةٍ أيضًا في رواية (سيرة سيد الباشا) وما امتد معه أكثر ليصنع منه أسطورة (عائلة جادو) التي صدرت منذ عامين. والقارئ لأحمد الفخراني والمتأمل لعوالمه يجد ذلك الحرص دومًا على تفكيك الأساطير الكبرى، وصنع أساطير مغايرة ومختلفة من الهامشي والواقعي والبسيط، وهو ما نجد صداه الأكبر هنا في حكاية سعيد وعالمه.

في النهاية تبدو الرواية، وعلى عادة الأعمال الجادة المهمة، ليس من السهل تقديمها للقارئ ولا التعبير عنها، إذ تمنح الرواية نفسها لعددٍ غير محدود من التأويلات، في كل فصلٍ من فصولها، وتحمل كل شخصيةٍ يجيد الكاتب رسمها أيضًا عددًا من التأويلات والتفسيرات، لكل معوقات الوصول إلى الوجود، ورغبة الفنان في الحياة بشكلٍ سوي، وهو ما نجده في تلك الرحلة على امتدادها ورغم ما تزخر به من غرابة.  

في حوارٍ له مع دلير يوسف في مجلة فن، يتحدث الفخراني عن الكتابة فيقول:

أكتب كي أتحرّر من الذنب. أعتقد بأنّنا كمصريين، نعيش تحت وطأة مسخ مخيف يدعى الذنب، إنّه مدخل أيّ سلطة، وأي ّمؤسسة، بما فيها الرواية كمؤسسة، أصبح لها كهّان وأساتذة يحملون عصا العقاب. حتى إنّ الجوائز الأدبية أو رضا بعض الكتاب أصبح معادلًا لشهادتهم الجامعية. لقد صارت الكتابة أشبه بحفلة كنسيّة، يرغب الجميع في نسخ نصوصهم في نصوص الآخرين، كنص واحد طويل مقدس، كي لا يتجاوز محدوديتهم أحد، أو لبلوغ خلود غير مستحق. لا أرى فارقًا بين السلطة السياسيّة والسلطة الأدبيّة لجماعة أو لكاتب، كلّهم كهنة، يملكون تصورًا واحدًا عن الكتابة، عن المواطنة، عن الفن، عن الحياة، المؤسف أنّ بعضهم كتابٌ كبار. أعتقد أنّ تلك الألقاب في مصر توزع كرتبة، وتنال بالأقدميّة.

أحمد الفخراني روائي وصحفي مصري، من مواليد الإسكندرية، عمل رئيسًا لتحرير عدد من المواقع الثقافية الهامة، كما أنشأ أول موقع خاص لمقالات الرأي (قل)، صدر له ديوان بعنوان (ديكورات بسيطة) عام 2007، وبورتريهات (في كل قلب حكاية) عام 2009، بدأ مشروعه السردي الخاص بمجموعة (مملكة من عصير التفاح) الصادرة عام 2011، وتلاها “ماندورلا” 2013 التي حاز بها على جائزة ساويرس للرواية فرع شباب الأدباء عام 2016.