في سنة 814 قبل الميلاد هربت الأميرة الفينيقية «عليسة»من لبنان إلى سواحل إفريقيا لتستقر في مدينة ما وتسميها «قرطاج»والتي تحمل معنى «المدينة الحديثة»، وتوالت الحضارات والملاحم على تلك المدينة الصغيرة فحكمها الرومان والبيزنطيون والمسيحيون حتى أتى الفتح الإسلامي على يد «عقبة بن نافع»، وما إن تم إعلان استقلال الجمهورية التونسية حتى اتخذ الرئيس «حبيب بو رقيبة»الضاحية الصغيرة مركزا للرئاسة، فضمت القصر الرئاسي الجمهوري، وعددا من المؤسسات الحكومية الرسمية.

في عام 1985 وُضعت مدينة «قرطاج»ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة «اليونيسكو» العالمية، حيث تُشكل المساحة الأثرية في المدينة حوالي 64% ويزورها ما يقرب من المليون سائحا سنويا.

في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد أنشئ المسرح الروماني حيث امتاز القرطاجيين بحبهم للفن والمسرح والفلسفة واستمر هذا الحب بالرغم من مرورهم بعدة حروب وملاحم شهدت احتراق المدينة وتدمير المسرح، فقررت الجمهورية التونسية إقامة مهرجان قرطاج الدولي عام 1964 وترميم المسرح بشكل تدريجي لتقام عليه الحفلات والمسرحيات والفعاليات، وصار يشهد كل عام العديد من النجوم الذين يقفون عليه مستمدين شيئا من تاريخه وصموده ليضيفوه على تاريخهم وسيرتهم.

ومع بدء فعاليات المهرجان هذه الأيام نتذكر أن نجوم الزمن الجميل هم من افتتح المهرجان في سنواته الأولى، على اختلاف أساليبهم واتجاهاتهم واختلاف جماهيرهم التوّاقة للفن وتذوقه، فاحتفظت الذاكرة التونسية بلياليهم وأيامهم، وشهدت الشوارع احتفاءا شديدا بهم، ولم تكف الصحف عن الحديث عنهم.


أم كلثوم سفيرة سلام أم سفيرة إلهاء

في عام 1968 تلقت «أم كلثوم»دعوة خاصة من زوجة الرئيس التونسي السيدة «وسيلة بنت عمار»لزيارة العاصمة التونسية ضمن جولتها في إطار دعم المجهود الحربي للجيش المصري بعد نكسة 1967.

في تلك الفترة كانت العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتونس مهزوزة خاصة بعد زيارة الرئيس «الحبيب بورقيبة»لفلسطين وخطابه في «أريحا» عام 1965 ودعوته للقبول بالتقسيم، مما دفع مجموعة من المصريين للانضمام إلى مسيرات غاضبة إلى السفارة التونسية بالقاهرة للتنديد بهذا الموقف، فلم تكن زيارة «أم كلثوم»إلا محاولة لإعادة العلاقات خصوصا لما تمثله من مكانة في قلوب الشعب التونسي واحتفائهم بها واستقبال السيدة «وسيلة»لها في مطار قرطاج الدولي.

أول حفل غنائي لها حضره الرئيس التونسي وحرمه، وأحيط المسرح بمئة ألف وردة احتفالا بكوكب الشرق وغنائها، وقامت بأداء أغنية «فكروني»، ثم أغنية «الأطلال».ولم تتوقف كوكب الشرق عند هذه الحفلة فلقد اعتلت المسرح للمرة الثانية وغنت «انت عمري»، وغنت أيضا «بعيد عنك».

كان لا بد للجمهور أن يخرج عن صوابه وهي تتمايل صادحة «ومن الشوق رسول بيننا»وكأنها تدعو الشعب التونسي للتآلف مرة ثانية مع الشعب المصري، فكانت زيارة «الست»وإكرامها بهذا الشكل وتمجيدها رسالة متبادلة بين «بورقيبة»و«ناصر»مفادها «عفا الله عما سلف»، وربما كانت الرسالة الأكثر خفاءا متمثلة في محاولة محو آثار الحرب والهزيمة من ذاكرة الشعوب.

استقبلها الرئيس التونسي في قصر الرئاسة وأقام لها مأدبة عشاء على شرفها، وأزاحت الستار عن الشارع الذي سُمي باسمها، كما أنها أدت صلاة الجمعة بجامع «الزيتونة» برفقة حرم الرئيس، و تم إهداءها وسام الجمهورية بقصر قرطاج.

لا زالت الإذاعة التونسية حتى الآن تخصص مساء الخميس لإذاعة حفلات «أم كلثوم»، ولا زالت الذاكرة التونسية تحتفظ بـ«الأطلال»و«فكروني» وبـالمئة ألف وردة، والأسلوب «الكلثومي»في إعادة العلاقات المصرية التونسية.


فيروز .. تدندن للقدس من تونس

وفي نفس العام أطلت «فيروز» علي المسرح الروماني وقد توسطت مجلسها بين الرحبانية و«نصري شمس الدين»، تُعبر بطريقة متوترة جدا عن الخوف الذي تشعر به عندما تواجه جمهورا لأول مرة، ومن العجيب أن هذا الخوف جعلها تتألق في أغنية «زهرة المدائن»و «غنيتُ مكة»، وأغاني متنوعة أدتها مع «نصري».

كانت تلك هي المرة الأولى التي تؤدي فيها فيروز أغنية «زهرة المدائن»و«سنرجع يوما»، فتناقلتها معظم الإذاعات العربية من قرطاج وطبعت كاسطوانات وشرائط كاسيت.

وتوهج صوتها المليء بالمحبة والشقاوة في الأغنية التي أشعلت لهيب المشاعر التونسية «إليك قرطاج».

زارت «فيروز» قرطاج مرة أخرى عام 1998 وقد حضر حفلتها أكثر من 11 ألف شخص، كما منحها الرئيس «زين العابدين بن علي»وسام الجمهورية.


«العندليب» يبدع لمدة 16 يوما

صحيفة العمل التونسية

قضى «عبد الحليم حافظ» 16 يوما في تونس قدم خلالهم سبع حفلات، حضرها ما يقارب أو يزيد عن 80 ألف من الجمهور، ارتدى في إحدى الحفلات «الجُبّة»التونسية فتلقاه الجمهور سعيدا، وحيّوه بزهور الياسمين.

غنى العديد من الأغنيات مثل «على حسب وداد قلبي»، و«كامل الأوصاف»، وفاجأهم بأغنية «الويل الويل»والتي أعاد غناء مطلعها ثماني مرات بناء على إصرار الجمهور.


هؤلاء أيضا مرّوا بقرطاج

إن زيارة «عبد الحليم حافظ» لتونس كانت مفاجأة كبيرة من الفنان العربي الكبير الذي يزور تونس لأول مرة وهي بحق أهم حدث فني هذا العام يجري في ربوع تونس الخضراء

في أواخر السيتينيات أنارت «نجاة الصغيرة»تونس وغنت «متى ستعرف كم أهواك»، «ساعة ما بشوفك جنبي»، «ساكن قصادي»، و«لا تكذبي»، ثم عادت مرة أخرى في 2001 بمنتهى التألق على مسرح قرطاج.

وفي عام 1976 طربت الجماهير التونسية بصوت «محمد عبد المطلب»، الذي اعتلى المسرح الروماني ليؤدي لأول مرة أغنية «الناس المغرمين ميعملوش كدة»، ثم تهلل الجماهير مرة أخرى وهو يغني «ساكن في حي السيدة»، ثم وصلوا لأقصى درجات السعادة الغنائية بـ «السبت فات». ويُحيِّي «عبد المطلب»الجمهور بحركة «ولاد البلد»التي يرفع يده فيها إلى جبينه بطريقة تعبر عن الشكر والامتنان ليختم ليلته المميزة بأغنيةـ «يا حاسدين الناس».

في الثمانينات أضاء «سيد مكاوي»بنظارته السوداء وعوده الحي فضاء قرطاج وصدح بأغاني «الأرض بتتكلم عربي»و«أوقاتي بتحلو»وغيرها، ثم عاد مرة أخرة عام 1985 ليطربنا بـ «حلوين من يومنا والله»، و«بقى هي دي المحبة»، و«أنا هنا يا ابن الحلال»وغيرها من ابداعاته المنبعثة من صوته الدافئ.

وبصوتها وأداءها المميز تألقت «وردة الجزائرية» في قرطاج عام 1976 ثم عادت إليها مرة أخرى عام 1991.

لم يكتفِ التونسيون بهذا القدر، فلقد مر بهم العديد من النجوم، ربما لا بد لكل نجم أن يسجل إثبات حضور في تونس الخضراء مهما كان لون غنائه وأسلوبه، فكما احتضن المهرجان «لطفي بوشناق»هذا العام فهو أيضا يمد ذراعيه على مصرعيها لـ «الشاب خالد».

خمسون عاما وأكثر يستمر المسرح الأثري في الضاحية التابعة للعاصمة «تونس»في تقديم الفن للجميع، المدينة الحديثة كما يدل اسمها احتفظت بآثارها وتاريخها ووقفت شامخة أمام كل عوامل الدمار وفي نفس الوقت لحقت بركب الحداثة، ليكون مهرجان «قرطاج» هو الحدث الفني الأهم كل عام.