ماذا تعرف عن إندونيسيا؟

بلد مسلم، فتيات يلبسن حجابًا مثلث الشكل، وفي الغالب يرتدين نظارة، متزوجات من فتيان ذوي جلباب قصير وطاقية يدرسون في الأزهر ويرتادون شوارع القاهرة، بلد سياحي سهل أن تستخرج لها فيزا وتذهب لتلقط صوراً في مساحات خضراء شاسعة، ربما شلالاً أو اثنين، فيلة وعربات تشبه التكتك تعرف فيما بعد أن اسمها راكشا.

ولكن ماذا عن الأدب الإندونيسي؟

نحن لا نعرف أي شيء عن الثقافة الإندونيسية، لا أدب ولا سينما ولا أي تبادل ثقافي، رغم أنها بلد مسلم مثلنا، ورغم أننا نراهم كثيراً في شوارعنا، رواية إندونيسية تصل لجائزة المان بوكر؟ ذلك هو التجديد الحق، فجأة نتنبه أن هناك أدباً إندونيسياً، وأن هناك كاتباً إندونيسياً يقارنونه بجابرييل جارسيا ماركيز، وتصل روايته لقائمة جائزة المان بوكر. رواية «الجمال جرح»، للكاتب الإندونيسي «إيكا كورنياوان»، هي ما سنتعرض له في هذا المقال.


يحدث في هاليموندا

تدور أحداث الرواية في بلدة خيالية تدعى «هاليموندا»، تخرج أشهر عاهرات المدينة من قبرها بعد واحد وعشرين سنة من دفنها، تجري حتى منزلها القديم ملتحفة كفنها الذي دفنت به، تصل إلى بيتها ظناً منها أنها مدفونة منذ ساعات قليلة وأنهم أخطئوا وظنوها ميتة في حين أنها حية، تعرف الحقيقة دون اندهاش حقيقي وتبدأ الرواية في حكاية حياة ديوي آيو – العاهرة التي خرجت من قبرها – منذ أيام الاحتلال الهولندي، مروراً بالاحتلال الياباني، وصولاً للاستقلال/الديكتاتورية.

الرواية مصنفة كأدب واقعية سحرية، تجد فيها أجزاء من التاريخ ممزوجة بلعنات وتعويذات متضمنة في خطوط درامية حقيقية، تجد فيها حكياً عن الشيوعية والظلم والحروب جنباً إلى جنب مع الخرافات واللامنطق، تجد سرداً دقيقاً لتطور التاريخ الإندونيسي وتجد أيضاً رحلات غرائبية لأبطال خارقين ويحملون صفات يصعب أن توجد في الحقيقة، وفي نفس الوقت يحملون ضعفاً بشرياً تقليدياً يستجلب التعاطف والشفقة.

تشبه الرواية في بنائها وإطارها العام رواية مائة عام من العزلة للأب الروحي للواقعية السحرية «جابرييل جارسيا ماركيز»، فعلى غرار بلدة «ماكوندو» التي خلقها ماركيز، خلق إيكا كورنياوان بلدة ساحلية إندونيسية، جعلها معادلاً موضوعياً ومصغراً لإندونيسيا، فحكي على أرض هاليموندا تاريخ إندونيسيا، وكما استخدم ماركيز عائلة «أورليانو بوينديا» ليحكي حكايته، استخدم كورنياوان عائلة «ديوي آيو» ليحكي حكاية هاليموندا، وقد اشتهرت رواية الجمال جرح في الأوساط الأدبية بأنها تحاكي «مائة عام من العزلة»، بل ولقب كورنياوان بأنه ماركيز إندونيسيا، وقد تطرف البعض فوصفها بأنها فاقت مائة عام من العزلة لماركيز.


المرأة كبطل للأحداث

في رواية الجمال جرح لكاتبها الإندونيسي إيكا كورنياوان، تتجلى المرأة كمحرك أساسي –وربما وحيد– للأحداث. المرأة دائماً تتصدر المشهد، دائماً هي البطل، هي أصل الحكاية ومحورها ومآلها، بغض النظر عن أنها تحكي بالأساس عن حياة ديوي آيو أشهر العاهرات وأجمل الجميلات، إلا أنها تتصدر أيضاً لحكايات مقاتلي الجيش الياباني، وبلطجية هاليموندا، والقادة الشيوعيين، كل هؤلاء ورغم حكاياتهم العميقة الضاربة في أعماق تاريخهم ونفسياتهم إلا أن المرأة لا تتخلى عن صدارة المشهد في كل حكاياتهم.

بنات ديوي آيو الجميلات الثلاث يحكين تاريخ إندونيسيا، واحدة تحكي تاريخ ضباط النظام، وثانية تحكي حركة الشيوعية، والثالثة تحكي حكاية أشقياء المدينة، من المفترض أن لكل حكاية من هذه الحكايات تأصيلاً تاريخياً ونفسياً للشخصيات التي تؤدي دورها في الحكاية. «شودانتشو» الضابط العسكري، والرفيق «كلايوون» الشيوعي، والبلطجي «مامان جيندنج» أقوى من في المدينة، ثلاثة خطوط درامية تحكي كيف تنازعت إندونيسيا القوى المرعبة الثلاث من خلال حكايات هاليموندا الهادئة.

المرأة تحرك كل شيء في الثلاث حكايات، تبدأ الحكايات في القلوب، تستوي وتنضج في الفراش، وتنتهي وتخرج للنور في شوارع هاليموندا، وكأن كل من الرجال الثلاث بإمكانه أن يكون بطلاً حقيقياً لحياته في حين أن البطل الحقيقي هي المرأة، الزوجة، إحدى بنات ديوي آيو، واللاتي يختلفن كلية إحداهن عن الأخرى.


هل الرواية كاملة فعلاً؟

بعد وصول رواية «الجمال جرح» للقائمة القصيرة لجائزة المان بوكر، وبعد ترجمتها إلى أكثر من لغة حول العالم على رأسها الإنجليزية والفرنسية، ثم ترجمتها قريباً للعربية بترجمة الشاعر والمترجم أحمد الشافعي، تداول المهتمون بالشأن الأدبي والوسط الروائي الآراء حول الرواية كما أسلفنا في مقدمة المقال، ولكن هل فعلاً الرواية تستحق كل هذا الاحتفاء؟

كون الرواية أدباً إندونيسياً، هو في حد ذاته إنجاز، فالأدب الإندونيسي ليس رائجاً، بل إذا طلبت من أحدهم أن يعد لك خمس روايات إندونيسية لن يستطيع، فهذا بالطبع يحسب للرواية وكاتبها إيكا كورنياوان، وأيضاً الخطوط الدرامية التي لم يفقدها ولم تلتبس على القارئ طوال أكثر من ستمائة صفحة هي أيضاً نقطة إيجابية في صالح حرفية الكاتب وتمكنه، جرأة الرواية واعتمادها على أسلوب الواقعية السحرية الذي يجازف بقطاع عريض من القراء الذين لا يستسيغون هذا النوع من الأدب أيضاً نقطة إيجابية.

ولكن الرواية ليست كاملة بلا عيوب، حتى لو وصلت لقائمة جائزة المان بوكر، فبلدة هاليموندا التي تدور فيها الرواية وتقارن بماكوندو ليست واضحة أبداً، هي بلدة ساحلية وكفى. لم تبن الرواية جسوراً بصرية بينها وبين القارئ، رغم أن هناك ستمائة صفحة كان بإمكان الكاتب أن يرتع فيهم ويصف لنا فيها البلدة بشيء من التفصيل يجعلنا نتماهى مع الأحداث.

أيضاً ملامح الشخصيات، نحن لا نعرف عن ديوي آيو سوى أنها جميلة جمالاً صارخاً، وبناتها الثلاث الجميلات مثلها، ولكن كيف جمالهن هذا الذي يجعلهن يحركن كل شيء بأطراف أصابعهن، نحن لا نعرف، الوحيدة التي وصفها الكاتب بالتفصيل هي ابنتها الأخيرة، بل أعاد وصفها أكثر من مرة بنفس الأوصاف، لماذا؟ ألم تكن مرة واحدة كافية لتخيلها؟

لن نتحدث بالطبع عن المبررات الدرامية الواهية في بعض الأحداث والخطوط، من ناحية لأن الروايات الخيالية تقبل بوجود الحائط الرابع بين الكاتب والمتلقي وتعتمد على مبدأ دعني أخدعك دعني أخدعك، ومن ناحية أخرى فالتبرير الجاهز لأي انتقاد في هذا الخط هو أن هذه واقعية سحرية حيث كل شيء مباح، ولكن لابد أن نعترف أن هناك بعضاً من الأحداث أقحمت إقحاماً ولم يكن لها مبررات كافية، فلم يكن لزاماً على ابنة ديوي آيو الكبرى أن تتزوج شودانتشو مثلاً وتقايض حياتها القادمة كلها لمجرد أنه اعتدى عليها.

الرواية إجمالاً جيدة جداً ومشوقة للغاية، لولا بعض التطويل لكانت رائعة، وهي فرصة جيدة للتعرف على تاريخ إندونيسيا الذي هو مجهول لمعظمنا رغم أنه متاح على الإنترنت، ولكن ليس هناك شيء يعادل الفن والأدب في تقريب المسافات، وتبادل الثقافات.