الإنسان يحاكي الطبيعة. يخط خطوطًا ملونة على جدران الكهوف، تشبه السماء في وقت الغروب. ينغم بلسانه أصواتًا تقلد الطيور، ويصفّر مثل الريح. يفرد زراعيه على اتساعيهما مثل الطيور المختالة على ضفاف البحيرات، ويجري على هذه الهيئة، أو يدور حول نفسه مثل الفراشات. يخلط التراب بالماء ويشكّل صورًا للحيوانات. ثم تمرُّ آلاف السنين، ويطوّر الإنسان كل ما تعلمه من الطبيعة. ويبلغ مرحلة من التنسيق والتنظيم للخطوط والألوان والحركات والأصوات لا تتوافر كثيرًا في الطبيعة ذاتها. ويعلن «أوسكار وايلد» أن الطبيعة هي من تحاكي الفنان.

الرسم، العمارة، النحت، الموسيقى، الشعر، الرقص. إنها الفنون الستة كما صنّفها الإغريق قديمًا. يمكننا بسهولة أن نجد رابطًا بسيطًا ومباشرًا بين الطبيعة من حولنا وبين هذه الأشكال من التعبير. وربما يمكننا أن نصل إلى الملامح الأولى لكلٍ من هذه الفنون عند الإنسان الأول إن تتبعنا تاريخ نشأتهم. يمكننا كذلك أن نرى هذه الفنون كوسائل للتعبير عن التفاصيل التي تشغل الناس منذ نشأتهم. الشعر، السؤال القديم عن المعنى والطريق إلى الإله. النحت، محاولة خلق أخرى. الفن هو الحياة، أو بالأحرى محاولة خلق أخرى للحياة.

إن كان الإغريق قد صنفوا الفنون على هذه الصورة، وإن كان كل فنٍّ آخر هو عملية تطوير لواحد من هذه الكلمات الستة، وإن كان البشر قد برعوا فيهم إلى نقطةٍ مكنتهم من إبداع ألوان وأصوات لا توجد في الطبيعة، بعد كل هذا، ما الذي ينقص؟ الحركة والامتزاج! أن تتحرك التماثيل والصور. أن تُروى الحكاية من خلال هذه الحركة. وهكذا بالضبط كانت اللقطة السينمائية الأولى التي ظهرت للعالم في سنة 1888. مجموعة من الناس يتحركون في شكل دائري. Roundhay Garden، اللقطة السينمائية الأولى التي صورها لوي إيمى أوجستين في 14 أكتوبر 1888 مُعلِنًا بذلك ميلاد السينما قبل أن يتمم الأخوان «لوميير» الأمر بعد ذلك بسنوات قليلة. ربما تكون المصادفة وحدها هي التي جاءت بالحركة دائرية وليست خطيّة بين نقطتين. وربما يكون الأمر مقصودًا. وفي كلا الحالتين فإن الانطباع الأكيد من هذه اللقطة هي كونها محاولة أولية للبحث عن حركة. الحركة وحدها هي الهدف. وهذا هو دور السينما.

النظر للسينما خلال هذا السياق، يعيد تعريفها. فهي ليست فنًا سابعًا. إنها الوسيلة التي كان ظهورها ضروريًا لمزج الفنون معًا. من خلالها تزيد قدرة بقية الفنون على التعبير. ومن دون تلك الفنون لا توجد سينما.


الرسم

التعريف الأقدم والأشمل للسينما هو «الصور المتحركة». وحسب التعريف، فإن الرسم هو أكثر الفنون ارتباطًا بالسينما. يوجد في أرشيف السينما الكثير من اللوحات التي رسمها مخرجون لأفلامهم قبل التصوير. ولعل أشهر هؤلاء هو السوفييتي «سيرجي أيزنشتين» الذي طابقت لوحاته المرسومة ما تم تصويره لاحقًا بالفعل. وخصوصًا في فيلم «إيفان الرهيب». في هذا الجزء من المقال نقف على ثلاثة أمثلة لهذه الفكرة. كيف يمكن لكادر ثابت واحد في فيلم أن يحمل شعورًا أو فكرة متكاملة للحكاية.

هيتشكوك - الطيور
لقطة من فيلم The Birds للمخرج الإنجليزي ألفريد هيتشكوك
لن نغفر لهيتشكوك أنه قد أرعبنا. وأنه لم يفكر إلا في ذلك.

المخرج الفرنسي «فرانسوا تريفو» على فيلم The Birds

عندما تسير الأمور على غير المألوف، يبدأ خوف الإنسان. لماذا؟ لأن الاحتمالات المنتظرة تكون مجهولة لا نعرف كيفية التعامل معها. لهذا نخشى الظلام. هذه القاعدة يعرفها “هيتشكوك” جيدًا. وعلى أساسها قام ببناء فيلمه. حيث اختار الطيور من بين كل الكائنات لتكون مصدر الخوف. فالمعتاد من هذه الكائنات هو التحليق بعيدًا هاربة من البشر. ماذا لو تم عكس هذه الصفة. وبدأت الطيور بالهجوم؟ في هذه الصورة من الفيلم، اختار هيتشكوك ساحة لعب للأطفال في أحد المدارس لتكون المكان الأول لتجمّع الطيور. ليس تجمعًا عشوائيًا كما هي عادتهم، بل تراصٌّ هندسي غير مألوف يوحي بالتنظيم. الطيور هنا لا تقف على الأشجار أو أسلاك التليغراف، ولا تطير مبتعدة. ولكنها تتراص على هيكل معدني وأرجوحة أطفال ذات زوايا قائمة واضحة. استطاع هيتش في صورة واحدة أن يعطينا كمشاهدين ذلك الشعور بالترقب الذي يتصاعد إلى قلق من التفاصيل غير المعتادة. وهو ما ينقلب إلى خوف لاحقًا عندما تبدأ الطيور في الهجوم.

لقطة من فيلم One Flew Over The Cuckoo’s Nest للمخرج التشيكي ميلوش فورمان

الصورة الثانية التي توضّح لنا قدرة لقطة ثابتة/ لوحة ثابتة واحدة، نراه في افتتاحية فيلم One Flew Over The Cuckoo’s Nest. للمخرج التشيكي «ميلوش فورمان». الفيلم مأخوذ عن رواية أمريكية كُتبت في الستينات عن مجموعة من المرضى في مستشفى للأمراض النفسية. وهو المكان الذي يستخدمه الكاتب «كين كيسي» كرمز لقدرة السلطة على التحكم في أفراد مجتمع ما بحيث تستطيع إقناعهم بأن الحياة لها سيناريو صحيح واحد. وهو بالطبع السيناريو الذي تقدمه السلطة. إلى أن يأتي مريض جديد إلى المكان، ويخبر الآخرين بسردية أخرى للحياة. في افتتاحية الفيلم، يرسم فورمان لوحة بديعة يمكنها أن تحمل هذا المعنى. جبل ضخم يحتل النصف العلوي من الشاشة. ومن خلفه يأتي ضوء الفجر ضعيفًا محجوبًا. وأمام الجبل يتكوّن مستنقع من الماء الراكد. هذه الصورة على بساطة تكوينها إلا أنها كانت قادرة تمامًا على حمل المجاز الرئيسي للفيلم. الفجر، الجبل، بركة الماء الآسن، توصيف شديد الدقة والتأثير لكل مجتمع يقع تحت سلطة قمعية تفسده، وتحجب عنه حريته البسيطة. فلو أزحنا هذا الجبل عن المشهد، لسطع ضوء النهار. وهذا هو تحديدًا ما رسمه المخرج في المشهد الختامي الذي نرى فيه أحد المرضى يجري في مساحة خضراء خالية في اتجاه الصباح بعد أن فرّ من المستشفى.


الموسيقى

ميلوش فورمان - عش الوقواق
ميلوش فورمان – عش الوقواق

بدأ الارتباط بين الموسيقى والأفلام في مرحلة مبكرة جدًا من تاريخ السينما. حيث لعبت الموسيقى دورًا في التوجيه الشعوري للمشاهدين خلال مرحلة الأفلام الصامتة. وهو الدور الذي استمرت في أدائه لاحقًا بعد ظهور الحوار في السينما. يمكننا استيضاح الأمر أكثر إن تخيلنا مشهدًا لشخص يمشي أمام الكاميرا في لقطة متوسطة. ما هو الانطباع الذي يمكن أن يقدمه هذا المشهد؟ ببساطة، لا شيء. هذه صورة متعادلة تمامًا. ولكن الموسيقى يمكنها تغيير هذا الأمر كليًا، فهي فن ب يشيع حالة من الشعور. إن لعبت موسيقى «ميكي ماوس» مثلًا مع هذا المشهد، يمكنها إعطاء ذلك الشعور بالاستخفاف. وإن لعبت موسيقى تصاعدية متسارعة، فالشعور الناتج ربما يكون الترقب. من الممكن كذلك إضفاء حالة من الحزن أو السعادة أو الخوف فقط من خلال اختيار الموسيقى المناسبة لكل مشهد. يمكننا اختصار هذا الوصف في عبارة واحدة: الموسيقى لها دور هام في صقل الشعور الذي تنقله لنا الصورة، بل وخلق الشعور من الأساس في بعض الحالات. وهو التحدي الذي دفع بعض المخرجين إلى تجريب الاستغناء عن الموسيقى في أفلامهم. دفاعًا عن السينما كفن بصري بالأساس. من هؤلاء مثلًا هناك المَجَري «بيلا تار». وكذلك تجربة الأخوين «كووين» في فيلم No Country For Old Men.

يوجد العديد من المقطوعات الموسيقية الخالدة عبر تاريخ السينما. اختلفت هذه المقطوعات في نوعها وفي الحالة التي أضفتها على المشاهد السينمائية. تبدأ أوديسا ستانلي كوبريك مثلًا بمقطوعة «هكذا تكلم زرادشت» لشتراوس، واحدة من المشاهد الخالدة في تاريخ السينما، والتي لم تكن لتصبح بمثل هذه العظمة من دون لحن شتراوس الذي خلق حالة من الجلال والمهابة يبدأ بها الفيلم. ونعرف من خلالها أننا على وشك بداية حكاية ملحمية كبيرة. كذلك موسيقى «فالكيري» التي استخدمها «كوبولا» في فيلمه Apocalypse Now وما تضيفه من أجواء كابوسية على مشهد هجوم الطائرات الشهير. وربما كذلك موسيقى «إينيو موريكوني» في فيلم The Good, the Bad and the Ugly. لكن المثال الأكثر شهرة وخلودًا في عالم السينما هو مقطوعة «جون ويليامز» التي لا يجهلها أحد في فيلم «الفك المفترس».

الحكاية تبدأ عند «ستيفن سبيلبيرج» الذي ذهب إلى جون ويليامز طالبًا منه أن يضع موسيقى فيلمه الجديد. توقع سبيلبيرج حينها أن ويليامز سوف يكتب موسيقى فخمة تليق بالملاحم، موسيقى ملحمية فضائية، لكنها تحدث في البحر. هذا ما انتظره المخرج. بعد عدة أيام، اجتمعا معًا. ليجد أن جون ويليامز لما يكتب إلا نغمتين. «دا دن، دا دن، دا دن،». ظن سبيلبيرج حينها أن صديقه يمازحه. لكن ويليامز أكد أنها الموسيقى المناسبة للفيلم. وبعد أن أعادها على مسامعه عدة مرات، بدت ملائمة لروح الفيلم التي أرادها سبيلبيرج. موسيقى تبدأ بطيئة وناعمة، ثم يتسارع الإيقاع ويرتفع لتشيع حالة من الترقب والانتظار لظهور القرش. وبدلًا من التعبير عنه كوحش مخيف الشكل، يمكن الاكتفاء بظهور زعنفة القرش مع الموسيقى لرسم حالة من التلميح المعتم المخيف. يروي ويليامز بعد ذلك: «في كل مشاهد الفيلم، تستخدم الموسيقى كمعادل سمعي لظهور القرش. ولكن في أحد المشاهد يخرج القرش من الماء فجأة دون أن يسبق ظهوره أي تمهيد موسيقيّ. في هذه اللقطة شهق كل من كانوا في دار العرض، إنه واحد من أفضل مشاهد الفيلم. يبدو فيه هذا الامتزاج والتماهي بين الصورة والمشاعر والموسيقى، أما هذا الشهيق من المشاهدين، فهو الدليل على أن مهمة الموسيقى في إرعابهم قد تمت بنجاح».


هنا ينتهي المقال الأول من ثلاثة مقالات تهتم بتأمل هذه العلاقة بين السينما والفنون الستة. وفي المقال الثاني، نتحدث عن العمارة والنحت والرقص، كما تحدثنا هنا عن الرسم والموسيقى.