إن التقييم الذي تقدرونه لنا لا قيمة له عندنا. المهم عندنا بالدرجة الأولى هو تقييم شعبنا لنا. الشغل الشاغل للوكالات هو وضع تركيا في مأزق لمنح الفرصة لمن يرغب في الاستفادة من هذا الوضع!

هكذا رد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تقارير الوكالات الدولية الاقتصادية المهتمة بالشأن التركي، إذينتظر العالم التغير الدرامي الذي سيحدث في تركيا عندما يُرفع منصب رئيس الوزراء ويصبح الرئيس بصلاحيات تنفيذية كاملة، وتتزايد سخونة الانتخابات المقبلة على وقع التراجع القياسي لعملة البلاد أمام الدولار واليورو.فما خلفيات هذا الانهيار المدوي؟ وما سر التهويل حول ما ينتظر تركيا من مستقبل؟ هل لهذا علاقة بتدخلات خارجية ترغب في إسقاط العدالة والتنمية من سُلم الحكم؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في السطور القادمة.


الإرهاب الاقتصادي

الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» (يسار)، والرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»

زادت مؤخرًا حدة التقارير التي تنشرها الوكالات العالمية المختصة بالشأن الاقتصادي، وهي موديز وفيتش وستاندرد أند بورز، لدرجة جعلت رئيس الوزراء بن علي يلدريم يتعامل معها كما لو كانت تسعى لتشوية سمعة تركيا، حيث تحذر المستثمرين بتهديدات كبيرة ستواجههم في حالة استمرارهم هناك. منحت الوكالات تركيا تصنيفًا منخفضًا مع نظرة سلبية غير مستقرة.وبدأت المؤشرات في التعرض لأزمات الاقتصاد الهيكلية. تزامن هذا الأمر مع تزايد حدة الخلاف التركي – الأمريكي، لاسيما بعد سيطرة قوات غصن الزيتون التابعة لأنقرة على عفرين، وتصريحات أردوغان بالتوجه نحو منبج واحتمالات حدوث مواجهة أمريكية – تركية على أرض الشام. اضطر أردوغان للتراجع عن فكرة رفضه لتبكير الانتخابات، ودعا لعقد انتخابات عاجلة في يونيو/ حزيران 2018 بدلًا من نوفمبر/ تشرين الأول 2019، مع تزايد الضبابية حول المشهد الاقتصادي.

اقرأ أيضًا: التحالفات الانتخابية تعيد تشكيل المشهد السياسي التركي

استفادت الوكالات الاقتصادية من الخلاف بين أردوغان والبنك المركزي لزيادة تأجيج الوضع. قامت وكالة فيتش باستغلال تصريح أردوغان الذي وعد فيه بالتدخل في السياسة الاقتصادية في حالة نجاحه في الانتخابات المقبلة، لتؤكد الوضع السيئ الذي سيشهده اقتصاد البلاد، لممارسة المزيد من الضغوط على المستمثر الغربي خارجيًا، واللعب على قناعات الناخبين داخليًا، خاصة أن الاقتصاد أصبح الورقة الأهم في جدران السياسة في أنقرة.

الغرب والتدخل عن بعد

تسعى واشنطن جاهدة للتأثير على المشهد السياسي في تركيا، ظهر هذا جليًا عام 2013 في احتجاجات ميدان تقسيم الذي أدانته الإدارة الأمريكية بقسوة؛ ما دفع العدالة والتنمية للتعجب عند مقارنة موقف واشنطن معهم بأدائها فيما تعرضت له حكومة الإخوان المسلمين في مصر في العام نفسه.وتمتلك واشنطن أدوات عدة للضغط على صانع القرار التركي، كحاجة الأخير للتكنولوجيا الأمريكية وصيانتها، لاسيما أن كثيرًا من شركات التسليح والطيران التركية تعتمد على نظم تقنية أمريكية. اتهمت تركيا بعض المسئولين الأمريكيين بالتورط المباشر في المحاولة الانقلابية واعتقلت عددًا منهم، مثل احتجاز القس أندرو برانسون واعتقال اثنين من مسئولي القنصلية الأمريكية. قوبل هذا الإجراء باحتجاج من أعضاء في مجلس الشيوخ ووزارة الخارجية الأمريكية، التي أصرت على رفض تسليم فتح الله كولن.تتلاعب واشنطن بقضية رضا ضراب، رجل الأعمال الإيراني الأصل التركي الجنسية، وكذلك حقان أتيلا، نائب المدير العام لبنك خلق التركي؛ إذ تتهمهما بالاحتيال البنكي وخداع السلطات وعرقلة تطبيق العقوبات، وتضم قائمة المتهمين أيضًا الوزير التركي السابق ظافر جاجلايان. رد أردوغان على هذا الأمر بأن وراءه دوافع سياسية.

اقرأ أيضًا: رضا ضراب: هل يكون حصان طراودة لاستهداف تركيا؟

ربما تكون قضية ضراب بداية لسلسلة عقوبات اقتصادية ستنال الاقتصاد التركي. قام البنك المركزي التركي بسحب كامل احتياطياته من الذهب، التي كان يودعها في واشنطن، لتجنب آثار عقوبات أمريكية محتملة.تأثرت تركيا كثيرًا بعد سقوط ليبيا وانهيار سوريا والعراق؛ إذ خسرت أهم أسواقها في الشرق الأوسط بعد إسرائيل التي توترت العلاقة بينهما بعد حادثة مرمرة. وكان لواقعة المحاولة الانقلابية أثر مضاعف على الاقتصاد. كذلك جاء التوتر مع الاتحاد الأوروبي ثم الولايات المتحدة ليزيد من التهديدات الاقتصادية. بحثت تركيا عن أسواق جديدة لها فتوجهت نحو دول الخليج العربي وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي. أثرت الأزمة الخليجية وحصار قطر على الاقتصاد التركي مجددًا، وجدت تركيا نفسها خارج الخليج، وبالطبع لن يعوضها السوق القطري عن السوق السعودي. على الجانب الآخر، لم يكن الداخل التركي أكثر رأفة بالعدالة والتنمية. زادت العمليات الإرهابية والتوترات الداخلية التي يقودها عناصر حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش الإرهابيين. محصلة الأوضاع الداخلية والخارجية كانت ارتفاع عجز الحساب الجاري إلى 47 مليار دولار.

الإمارات واللعب في الخفاء

دونالد ترامب، رجب طيب أردوغان
دونالد ترامب، رجب طيب أردوغان
توجهت الأنظار نحو الإمارات عندما أعلن أردوغان معرفته بالدول التي أسعدتها المحاولة الانقلابية، ثم تأكدت التخمينات بعد خروج بعض الأخبار عن تمويل مادي قدمته حكومة أبو ظبي لجماعة الخدمة.تقود الإمارات سياسة تسعى لتقويض النفوذ التركي، فقامت بمواجهتها في القرن الأفريقي لمنازعتها النفوذ هناك. عززت الإمارات وجودها العسكري في الصومال، ثم انتقلت إلى الاقتصاد والتجارة. تدير شركة البيرق التركية ميناء مقديشو، وترأس شركة إس كيه إيه الإماراتية للطيران والخدمات اللوجستية مطار مقديشو. دخلت الإمارات المنافسة مع أنقرة للحصول على عقود تطوير الميناء والمطار في كيسمايو، ناهيك عن إدارة مواني دبي بالفعل لكل من ميناء بربرة وميناء بوصاصو بعقود طويلة الأجل. قامت الأردن بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة التي وقعتها مع تركيا عشية وصول وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي عبدالله بن زايد.ولم تكتفِ الإمارات بالخارج، قامت بالسيطرة على بنك «دنيز» التركي بصفقة وصلت قيمتها إلى 3.2 مليار دولار أمريكي. لم تبالِ الإمارات كثيرًا بالتقارير الاقتصادية، وعدم استقرار النظام المصرفي، وانضمت إلى اللوبي المالي في البلاد المعارض لحزب الرئيس التركي، في محاولة لإضعاف حكومته والتمكن مستقبلًا. دخلت الإمارات تركيا من ثغرة مجموعة «توسياد» الرأسمالية المتمسكة بالقيم العلمانية. يبذل أردوغان جهودًا كبيرة لخلق فئة من الرأسماليين الإسلاميين المقربين، إلّا أن الجزء الأكبر من ثروة البلاد لا يزال مكرّسًا لدعم «جمعية رجال الأعمال والصناعيين التركية – توسياد».

اقرأ أيضًا: أردوغان وغول: الصراع المؤجل بين السلطان والدكتور؟

تسعى السياسات السابقة التي تقودها بعض الدول من جهة، واستغلال بعض الأحداث الداخلية والخارجية من جهة أخرى لإفشال المشروع الذي يقوده العدالة والتنمية، لاسيما أن الانتخابات المقبلة ستحدد مستقبل تركيا، لذا ستسعى لمزيد من الضغط الاقتصادي لإفقاد ثقة الشارع في أردوغان وأصحابه.

وختامًا،تضرر الاقتصاد التركي بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي نتيجة ارتفاع أسعار النفط. تمكن البنك المركزي من السيطرة على نزيف الليرة بعد رفع أسعار الفائدة. ستتمكن تركيا غالبًا من التحكم في الوضع الاقتصادي على الأقل حتى تنتهي الانتخابات المقبلة، إلا أن هناك تحديات كبرى مازالت تواجه التجربة.يمتلك العدالة والتنمية قوة إعلامية تساعده في فرض توجهاته لتشكيل قناعات المواطنين. تؤمن نسبة كبيرة من الأتراك أن ما تتعرض له العملة التركية يعود لعوامل خارجية بالأساس ترغب في إسقاط زعيمهم. غالبًا سترتد هذه العوامل بصورة عكسية. مازال هناك قرابة الـ 20% من الناخبين مترددين في موقفهم، غالبًا ما تسعى الضغوط الخارجية للتأثير عليهم. ومازال أردوغان أقوى وإيمان الشعب التركي به أعلى، وهو قادر على الفوز بالـ 51 في المائة اللازمة لإعادة انتخابه رئيسًا. لكن بعد ذلك، سيكون على رجل تركيا القوي أن يتعامل مع الفوضى في سوريا، والعلاقات المتوترة مع الغرب، وانهيار اقتصادي محتمل.