في العشرين من فبراير بدأت الدورة رقم 70 لمهرجان برلين السينمائي الدولي، أحد المهرجانات الثلاثة الكبار، والمهرجان السينمائي السنوي الأعلى جماهيريًا على مستوى العالم، نغطي هذا الحدث من قلب برلين للمرة الأولى، لذا تختلط الانطباعات الشخصية بالنقد الفني.

الانطباعات الشخصية هنا تأتي في الأساس عن هذا العالم الكبير من الفنانين والصحفيين والجماهير، عالم مختلف تمامًا عن عالم السينما في عالمنا العربي عمومًا، والمصري خصوصًا. أنت تجلس هنا في كرسي مقابل لجوني ديب، تسأله كصحفي فيجيب، يبدو إنسانًا منطويًا وهادئًا، وفي الشارع الجانبي عقب المؤتمر الصحفي يصطف المئات في برد برلين القارس، تتعالى الصيحات باسم جوني ديب، على يساري تحديدًا وعقب أن غادرت المؤتمر الصحفي تصرخ فتاة بصوت مرعِب أملاً أن تحصل على توقيع جوني ديب، تصرخ كمن سينتحر لو لم يحصل على لحظة أو نظرة منه، قيمة الممثل هنا، أو شهرته بمعنى أدق، تمنحه قوة فوق بشرية.

نحدثكم من هنا، لا نملك رصيدًا طويلاً من المهرجانات كمعظم الصحفيين العرب الكبار الذين يفتخرون برصيد سنواتهم هنا، كما لا نملك أيضًا مؤسسات صحفية كبيرة حكومية أو خاصة تدعمنا بالمال والعلاقات، أتينا هنا برصيد كتاباتنا في هذا الموقع الشاب، وبجهودنا الشخصية، هل يكفي هذا لطرق أبواب هذا العالم؟

الافتتاح وسحر الكتابة

فيلم الافتتاح هو أحدث أفلام المخرج الكندي «فيليب فالاردو» والمعنون My Salinger year، وتدور أحداثه عن قصة حقيقية سجلتها «جوانا راكوف» وهي خريجة جامعية حديثة، في الفترة التي عملت فيها في إحدى الوكالات الأدبية العتيقة في مدينة نيويورك، حيث كلفت بمهمة الرد على البريد الوارد للكاتب الأمريكي الشهير «جي دي سالينجر».

سالينجر هو صاحب الرواية الشهيرة «الحارس في حقل الشوفان» وهي الرواية التي أصبح بطلها «هولدن كولفيلد» فيما بعد رمزًا للمراهق المتمرد على الحياة، على العزلة، وعلى الاكتئاب، ولكنه أيضًا يملك حسًا من السخرية القاتمة لا يمكن تجاهله.

في الفيلم يدخلنا «فيليب فالاردو» إلى هذا العالم بألوان السيبيا التي نراها بعدسة مديرة التصوير الموهوبة سارة مشارا، وبصوت راوٍ تحدثنا من خلاله بطلة الحكاية «جوانا» كما يخاطبنا فيه كسرًا للحاجز الرابع أيضًا أحد محبي سالينجر، شاب وحيد وحزين وطريف، تمامًا كما هو حال «هولدن كولفيلد».

إجمالاً الفيلم لطيف، تشعر من خلاله بسحر الكتابة وبقوة الخلق لدى الكاتب، كما سيعجبك خصيصًا لو كنت من محبي Amelie و Submarine و The perks of being a wallflower وأكثر من نصف أفلام وودي آلن، لكنه وإذا تخطينا ذلك ربما يكون أقل إبهارًا من كل هؤلاء، نقطة الإبهار الأكبر هنا هي بطلة العمل، مارجريت كوالي، الفتاة التي قامت بدور مساعد في فيلم تارانتينو الأخير once upon a time in Hollywood لكنها هنا تحمل الفيلم كاملاً بحسن طالعها وبحسها الساخر، فيما يساندها المخضرمة «سيجورني ويفر».

كوالي هنا تثبت أنها نجمة جميلة قادمة وبقوة، أما في المؤتمر الصحفي فقد أثبتت دون شك أنها تملك ما تفتقده -كريستين ستيوارت- مثلاً، كوالي تنبض بالحياة، تخجل وتبتسم وتنبهر وتلقي النكات.

يبقى السؤال: هل كان الفيلم يستحق افتتاح المهرجان بطاقمه التمثيلي ومستواه الفني؟

تهتهة جوني ديب

ضمن قسم العروض الخاصة أيضًا تابعنا فيلم Minamata للأمريكي «أندرو ليفاتس» ومن بطولة وإنتاج الأمريكي الشهير «جوني ديب».

الفيلم عن قصة حقيقية لليابانيين المصابين بتسمم الزئبق على ساحل المحيط. ديب يقدم دور المصور الصحفي «جين سميث» الرجل الكهل الذي عاش وحيدًا ومدمنًا على الكحول، حتى أتت رحلته إلى اليابان ليوثق معاناة المصابين بتسمم الزئبق جراء المخلفات التي تلقيها شركات صناعة الكيماويات. الصور التي تم التقاطها غيرت مسار الحكاية، كما أن الرحلة قد عرفت «جين» مرة أخرى على الصداقة والحب.

في الصباح التالي للعرض الصحفي للفيلم اختتم جوني ديب حديثه ضمن المؤتمر الصحفي قائلاً:

لدي مشاكل في حياتي الشخصية، لكن الفن له دور مجتمعي وسياسي، نحن كأفراد ليس في أيدينا الكثير أمام الكيانات الاقتصادية الضخمة والحكومات التي تدمر حياتنا وكوكبنا، لكن الأفكار هي كل ما يملكه البشر، الصغار جدًا أمام عدوهم. (Ideas are the power of us .. the small ones)
الممثل الأمريكي جوني ديب

قبل هذا الختام المثير للتأمل، لم أكن متلهفًا للقاء جوني ديب، ذهبت للمؤتمر الصحفي وجلست في هدوء، وبمجرد دخول أبطال الفيلم، بدأ هتاف المصورين الصحفيين: «جوني .. جوني .. جوني».

جلس جوني ديب هادئًا، يغطي رأسه بقبعة الكاوبوي الشهيرة، ينظر للمصورين تارة وينظر في الأرض تارة أخرى، المكان هنا معد للمؤتمر الصحفي، سبقه بالفعل وقت للمصورين، لكنه بالطبع لا يكفي، صورة جوني ديب للعديد من هؤلاء هي الضامن الوحيد لأنه سوف يتلقى أجرًا عن كل ما صوره خلال اليوم.

طوال المؤتمر الصحفي والجميع يسأل جوني ديب بالطبع، لا يهتم أحد بسؤال زوجة «جين سميث» الحقيقية نفسها والجالسة بجوار ديب على المنصة، كما لا يهتم أحد أيضًا بالمخرج أو بفريق الأبطال اليابانيين الذين يجسدون الأبطال الحقيقيين في هذه الحكاية، من عانوا من تلوث طعامهم ومياههم، ثم قاتلوا وتظاهروا طلبًا للعدالة. حاولت مقدمة الندوة توجيه الدفة قليلاً لهؤلاء، أبرزهم «هيروركي سانادا» الذي يعرفه البعض بأدواره في أفلام «إكس مين» وعالم مارفل لكنه يقدم هنا دورًا مغايرًا تمامًا، عن رجل ياباني قاد المقاومة والتظاهرات في هذه الفترة. 

الملاحظة الأبرز هنا أن ديب يستغرق وقتًا طويلاً في التفكير والإجابة، يتلعثم كثيرًا وسط الحديث، يصرح بكلمتين ثم ينتظر لثوانٍ ليجد الثالثة، لكنه في النهاية استطاع أن يصيغ ما يشعر به، وبشكل لمسني شخصيًا.

جوني ديب يعاني شخصيًا في الوقت الحالي جراء خلافه مع زوجته الثانية «امبر هيرد» والتي اتهمته بالاعتداء عليها بالضرب، قبل أن يتم الكشف مؤخرًا عن تسجيل يثبت أن امبر هيرد هي من كانت تعتدي بالضرب عليه.

هذا رجل له أخطاء بالتأكيد، رجل طبيعي، لكن الطاقة الهائلة للشهرة تحوله لإله بمجرد أن يظهر للعامة، يغادر الجميع المؤتمر الصحفي في سياراتهم ويرحلون سريعًا، لكن جوني ديب لم يكتفِ بالتلويح من نافذة سيارته، تجول ليوقع أوتوغرافات الجماهير، وعلى عكس رغبة حراسه الشخصيين الذين كانوا يحاولون منعه في البداية، استمر جوني ديب في التقاط الصور مع الرجال والنساء، الصبية والصبايا الذين كانوا يصرخون باسمه. حينما غادر ديب أخيرًا شعرت بثقل الشهرة، حمل كبير وقيد على الحرية الشخصية، لكنني تذكرت أيضًا كم كنت أحب جوني ديب. 

المجد الكوري

نستمر مع عروض المهرجان الخاصة، هذه المرة مع فيلم Time to hunt القادم من كوريا الجنوبية، البلد المتوج بأربع جوائز أوسكار حصدها Parasite في حفل الأوسكار مطلع فبراير 2020، هنا نشاهد أحد أبطال «طفيلي» مرة أخرى، «تسو وو شك»، أو كما يعرفه الجميع «ابن العائلة الفقيرة»، إلى جانب اثنين من أصدقائه، في فيلم تشويق ومطاردة يهربون طوال أحداثه تقريبًا من رجل مثير للرعب أكثر من أرنولد شوارزنجر في أسوأ كوابيس التسعينيات يقوم بدوره «بارك هي سو».

الفيلم من إخراج «يون سونج هيون»، الذي صنع فيلمه الأول بعنوان bleak night في عام 2011، لكنه في «وقت الاصطياد» يضعنا في رحلة لاهثة لمدة ساعتين وربع، نهرب خلالها رفقة أبطاله الشباب من خصم لا يمكن الهرب منه.

النقد الاجتماعي والسياسي حاضر هنا أيضًا في Time to hunt، لكنه النوع الفيلمي الذي يمكن تصنيف الفيلم فيه يبدو في المساحة بين التشويق والثريلر، وإذا حاولنا تلخيص أسلوبه البصري والمونتاجي دون حرق الأحداث فهل يمكنك أن تتخيل «ماد ماكس» في كوريا الجنوبية؟

تذكروا هذا الفيلم، وتذكروا أيضًا أن كوريا الجنوبية لديها سينما، ولديها صناع سينما، «بونج جون هو» المتوج بالأوسكار ليس حالة فردية.

انطباعات المسابقة الرسمية

البقرة الأولى

أول الأفلام التي تستحق ذكرًا خاصًا في المسابقة الرسمية لمهرجان هذا العام هو الفيلم الأمريكي First Cow للمخرجة كيلي رايتشارد، ومن بطولة الأمريكي جون ماجارو والبريطاني من أصل صيني أوريون لي، رفقة البريطاني الشهير توبي جونز.

في البقرة الأولى نتتبع صداقة صنعتها الصدفة بين طباخ بريطاني ورحالة صيني، في أرض أمريكا في بداية القرن التاسع عشر، حيث الجميع مهاجرون يحلمون بفرصة جديدة في هذا المجتمع الجديد، المثير للتأمل والاسترخاء في هذا الفيلم بشكل خاص هو أسلوب كيلي رايتشارد الهادئ في سرد حكايتها، تمهل شديد، فرصة لالتقاط الأنفاس، وتفاعل طبيعي يظهر تدريجيًا بين الأبطال يشعرنا في النهاية أننا شهود على هذه الصداقة، في المجتمع الجديد يوجد بقرة أولى، ومعها تظهر حاجة من لا يمتلكونها لبضع نقاط الحليب.

من يملك هذه الأرض وما عليها؟ وما الذي يملك قيمة أكبر: قطعة من الكعك تذكرك بأهلك ووطنك، أم قطعة من الفضة أو الذهب تضمن لك مكانة في عالم جديد؟

الفيلم حظي بعرض صحفي ناجح، وفي المؤتمر الصحفي شكرت كيللي رايتشارد بشكل خاص ستديو الإنتاج A24 الذي لمع اسمه مؤخرًا واشتهر بإتاحته الحرية الإبداعية للمخرجين في أمريكا، بعيدًا عن قيود الإستديوهات الكبرى، رايتشارد ذكرت مازحة أنها لم تكن تظن أن أحدًا سيهتم بإنتاج قصة عن رجلين وبقرة.

مختبئ

الفيلم الثاني الذي يستحق التنويه ضمن المسابقة الرسمية هو الفيلم الإيطالي Hidden away للمخرج جورجيو ديريتي، عن القصة الحقيقية للرسام الإيطالي أنطونيو ليجابوي، الرجل الذي عانى من المرض النفسي طوال حياته، عاش وحيدًا ودون منزل فترة طويلة، تعرض للضرب والركل، نام لسنوات في الشوارع والحقول، وفي النهاية أصبح أحد أهم الرسامين الفطريين في القرن العشرين أو ما يطلق عليهم The Naive Artists.

الفيلم ورغم طول مدته وصعوبة موضوعه إلا أنه ينجح في النهاية أن يخلق حالة فنية ممتعة، من خلال لوحات ليجابوي وموسيقى ماركو بيسكارني وتجسيد مكتمل من بطل الفيلم الممثل الإيطالي «إيليو جيرمانو»، الرجل الذي فاز من قبل في برلين في عام 2008 بجائزة النجم الصاعد، ثم فاز بجائزة أفضل ممثل من مهرجان كان في عام 2010. اليوم وعقب 10 سنوات يعود جيرمانو ليقدم نفسه كمنافس على جائزة أفضل ممثل في برلين 2020.

تنتهي هنا رسالتنا الأولى، على أمل اللقاء في رسائل قادمة، حيث الحلم الألماني يكتمل بما قد يكون أفضل أفلام المهرجان بين الألماني كريسيتان بيتزولد، الكوري هونج سانجسو، الأمريكي أبل فريرا، وأخيرًا الإيراني -الممنوع من السفر- محمد رسولاف.