في اليوم الرابع من المهرجان، بدأت حالة الطقس في التدهور والإمطار، لكن في المقابل كنا سعداء بجودة الأفلام التي بدأت في الظهور.

ذلك الصباح اتجهت إلى مسرح القصر لأشاهد جديد كريستيان بيتزولد أوندينه – Undine. بيتزولد واحد من المخرجين المفضلين لديَّ منذ شاهدت فيلمه «ترانزيت – Transit» منذ عامين أو أكثر في مهرجان القاهرة، أعجبني وقتها استخدامه لتداخل زمن قديم مع مكان حديث، وفي أوندينه يعيد استخدام ألعابه الغريبة، لرواية ثلاث قصص عن الحب، ربما تحمل بعضًا من الميثولوجيا داخلها، لكن الإحساس العام بالفيلم هو روح الجمال التي يبثها في فيلمه. 

فكرت وأنا أكتب رسالتي الثانية، أن أركز أكثر على الأفلام، خاصة أن مستوى الأفلام قد تحسن بشكل ملحوظ. لذا رأيت أن أكتب عن بعض من الأفلام التي شاهدتها منذ اليوم الرابع وحتى آخر أيام وجودي في برلين والتي وصل عددها إلى 28 فيلمًا طويلًا بين روائي ووثائقي. في القائمة التالية أحاول أن أقدم أكثر تلك الأفلام التي أثارت اهتمامي، إلى حين العودة إلى مصر وإفراد مقالات مطولة عن بعض الأفلام المميزة التي عُرضت في برلينالي – 70. 

أفلام المسابقة الرسمية

1. كل الموتى «All The Dead Ones»

حال مشاهدتي للمشاهد الأولى للفيلم البرازيلي لمخرجيه كيتانو جتاردو وماركو دوترا، تذكرت «باكوراو – Bacurau» على الفور، وهو الفيلم البرازيلي الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم مناصفة في مهرجان كان السينمائي العام الماضي.

الفيلم به من روح الفيلم الآخر من حيث الغرائبية، لكن «كل الموتى – All The Dead Ones» يقدم نظرة متفحصة للتاريخ البرازيلي، وكأن شخصياته قد حملت التاريخ داخلها. نهايته تظل مذهلة من تداخل الحكاية الزمني، والتي تمنح كل ما حدث في الفيلم بعدًا آخر منتقدًا ما يحدث اليوم من صعود اليمين في البرازيل، ويُذكر ذلك البلد الذي تم استعماره لقرون بأن المستعمر\ الحاكم الظالم بائد في مقابل الأصل الراسخ المحب للرقص والموسيقى والحياة. 

2. امح التاريخ «Delete History»

ربما يكون هذا الفيلم هو أول فيلم كوميدي مصنوع بحرفة وذكاء ضمن جميع أفلام المهرجان. سيناريو ممتع لمخرجيه وكاتبيه بينوا ديلبين وجوستاف كيرفين، يتتبع ثلاث شخصيات فرنسية تعيش في قلق دائم بسبب التكنولوجيا وما تحدثه في حياتهم.

هؤلاء الأشخاص في منتصف عمرهم، فهم بذلك ليسوا من مواليد عصور الديجيتال (Digital Natives)، ولكنهم غارقون في محاولة مجاراة العصر مع نسبة لا بأس بها من الجهل، ما يجعلهم عرضة دائمة للاحتيال والنصب والديون. في كل موقف يكشف الفيلم جانبًا معينًا من أشياء اعتدناها في السنوات الأخيرة فقط، مثل التسريبات الجنسية وانتهاك خصوصيات الأفراد، اللجان الإلكترونية التي تساعدك في جمع اللايكات لشركتك أو صفحتك، إضافة إلى الذكاء الاصطناعي والمساعدين الشخصيين مثل تطبيق سيري على هواتف الآيفون.

الفيلم يغوص من خلال مواقف كوميدية تنتهج سلسلة من الصدف السيئة لشخصياته الثلاثة، في قلب تلك المسائل الكبيرة. ضحك كثير في البداية، لكنك مع الوقت قد تكتشف أنك تضحك على أشياء تتحكم بك، وكأن المخرج قد نجح في تحويل الإنسان المعاصر لنكتة ساخرة.  

3. أبدًا، نادرًا، أحيانًا، دائمًا «Never Rarely Sometimes Always»

من منا لا يتذكر رائعة كريستيان مونجيو 4 شهور، 3 أسابيع ويومان – 4 Months, 3 Weeks and 2 Days التي تناولت قصة فتاة مراهقة تقوم بالإجهاض – الذي كان محظورًا قانونًا في رومانيا آنذاك – وكيف كان فيلمًا قاسيًا من حيث أسلوبه الخشن وكاميراه المهتزة. حسنًا ربما يُعد الفيلم الأمريكي (أبدًا، نادرًا، أحيانًا، دائمًا – Never Rarely Sometimes Always) نسخة مغايرة من ذلك الفيلم.

تدور أحداث الفيلم حول مراهقة تبحث عن طريقة للإجهاض وهي في النصف الثاني من الحمل، وبينما يركز الفيلم الروماني على عملية الإجهاض يمنح الفيلم الآخر مساحة أكبر لتأمل شخصية المراهقة ووضعها بغض النظر عن العملية، حيث يتجاهل كل التفاصيل اللوجيستية في الوقت الذي يركز فيه على مشاعر البطلة من خلال استخدام لقطات مقربة لوجهها أو يديها. بينما ينبع اسم الفيلم من تلك الأسئلة التي تسألها الطبيبة للبطلة قبل يوم من الإجهاض وتطلب منها أن تجيب بأحد الكلمات الأربعة في مشهد كاشف لتاريخ تلك المراهقة النفسي.  

4. برلين ألكسندر بلاتز «Berlin Alexanderplatz»

أنا أقود سيارة ألمانية، أعيش في ألمانيا، لديَّ زوجة ألمانية. من منكم لا يريد مثل هذه الحياة؟! أنا الحلم الألماني!

هكذا يقول بطل فيلم برهان قرباني الجديد، فرانسيس، وهو يقنع مجموعة من أقرانه من المهاجرين الأفارقة بالاتجار في المخدرات في ألمانيا. الفيلم مستوحى من رواية ألمانية شهيرة كتبت في عام 1929 لألفريد دوبلين، وتحولت مرتين للسينما قبل ذلك، ولكن النسخة الجديدة للمخرج الأفغاني الأصل تصور الرواية كملحمة جديدة، هذا البطل اللاجئ الذي يبدأ الفيلم بوجوده في موقع عمل تحت الأرض، والذي يشبه الجحيم بصريًّا، هو المسيح الجديد، الذي يصلب أكثر من مرة؛ أولًا عندما يولد في بلد يضطره لأن يكون عنيفًا، وثانيًا حين يضطهد لأنه لا يملك أوراق عمل، وثالثًا حين تتطور الأمور في عالم الجريمة ليُحرم من أحبابه. يحمل برلين ألكساندر بلاتز رؤية بصرية حداثية، مُقسمًا على أجزاء ذات بداية وفصول ونهاية، مصورًا المدينة كموقع أبوكاليبس جديد.

كل هذا يجعلنا نتساءل عن تلك المدينة التي تحتوي جميع الأطياف وترحب بجميع البشر وتحمل طابعًا كوزموبولتانيًّا، وهل ترحب بهم فعلًا أم أن للأمر معطيات أخرى غير موضوعة في الحسبان. 

أفلام مسابقة لقاءات «Encounters»

1. خدم «Servants»

على غرار أفلام مثل «حرب باردة – Cold War» و«نوفا ليتوانيا – Nova Lithuania» و«إيدا – Ida»، يقدم (خدم) لمخرجه إيفان أوستروشوفسكي صورة في إطار 4:3 بالأبيض والأسود، تروي حكاية ذلك الصراعذ بين الإيمان الحقيقي والمُستخدم.

يدور الفيلم داخل كنيسة لتحضير الرهبان في تشيكوسلوفاكيا، وكيفية سيطرة النظام الشيوعي المستبد آنذاك على الرهبان والكنيسة في مقابل رفض البعض؛ ذلك الرفض الذي يحمل عواقبه الوخيمة. من هذه النقطة يحمل عنوان الفيلم نوعًا من المعنى المزدوج، فقد تكون خادمًا للكنيسة أو لنظام مستبد! على مستوى آخر يحمل الفيلم نوعًا من إيقاع مختلف وقطعات سريعة حادة، وصورة تمتلئ بالظلال تذكرنا بأجواء الفيلم نوار (Film Noir).  تنم سرعة وحدة القطع إضافة إلى دراما الفيلم الأخلاقية المعقدة، تولد لدى المشاهد حالة من الغضب والصدمة وليست حالة من العبثية أو العدم كما في حالة إيدا أو نوفا ليتوانيا. 

2. مشكلة أن تولد «The Trouble With Being Born»

هذه المرة أيضًا مع الذكاء الاصطناعي، لكن في أجواء سوداوية قاتمة. ديستوبيا في المستقبل القريب، تقدمها المخرجة ساندرا ولنر، عن امتلاك شخص لروبوت يتشكل على حسب ما يتلقاه من مستخدمه. نبدأ الحكاية بينما هذا الروبوت فتاة صغيرة تعيش مع والدها في مكان ريفي معزول، في أحد الأيام، يخرج الأب في الغابات، ثم تلاحقه الفتاة حتى تتوه بالكامل. يعثر عليها أحدهم، يطفئها، ثم يأخذها إلى بيته محولًا إياها إلى شخص آخر. حكاية مثيرة للتأمل حول عملية الخلق ذاتها، وعلاقة المخلوق (الروبوت) بالخالق (الإنسان). فيلم مميز وغريب، يخلق بداخلك تأملًا عما يمكن أن يسببه تطور الذكاء الاصطناعي، الذي يخلق الـسوبرمان الخاص بنيتشه بدلًا عن الإنسان الذي سيطر على العالم دون غيره من الكائنات لفترة طويلة.