على مدار خمسة أيام (1-5 مارس 2021) ومن خلال شاشة التلفاز تابعت عروض سوق الفيلم الأوروبي الذي تضمن أفلام مسابقات وبرامج الدورة الـ71 لمهرجان برلين السينمائي. ربما لا تكون كلمة المهرجان هي الأنسب للوصف، إذ تغير الوضع بسبب وباء كوفيد-19 بالنسبة للعديد من المهرجانات لتصبح افتراضية، تشاهدها من خلال شاشة صغيرة دون نقاش مع الزملاء أو أكواب القهوة الصباحية في المركز الصحفي أو حتى طوابير الانتظار المزدحمة المصطفة تحت الأمطار القاسية. بناءً على ذلك قررت أن أعتبر ما حدث هو مجرد مشاهدة لعروض برامج المهرجان العريق في ظروف إنسانية مختلفة للغاية.

هل تغير الجائحة من نمط المهرجانات السينمائية؟

المثير للتأمل وأنا جالس على أريكة بيتي المريحة أشاهد من 4-6 أفلام يوميًا هو أن ذلك النمط ربما يكون أكثر فاعلية وتوفيرًا للمصاريف، اشتراك صحافة بـ60 يورو يوفر لك كل الأفلام دون الاضطرار إلى الإنفاق على الإقامة والمصاريف اليومية بالعملة الصعبة ودون حزم الحقائب والاتجاه إلى المطار وأخذ رحلة قوامها 5 ساعات والهرولة كل يوم بين قاعة وأخرى دون فرصة لالتقاط الأنفاس أو تناول وجبة، رغم كل ذلك فقد شعرت بحزن شديد كون التجربة منتقصة للغاية على المستوى الإنساني، فكم من فرصة لقاء وتعارف بالصناع والنقاد من كل الأرجاء طارت وكم من تفاعل إنساني مختلف فُقِد، بل وحتى المواقف غير المريحة التي تبقى في ذاكرتك وتشكل جزءًا من تجربتك ككل، فضلًا عن غياب تجربة السفر الفعلي ومشاهدة المدينة الواسعة الضخمة وهي تتحول لاحتفالية سينمائية كبرى تُشعر أي محب للسينما أن برلين هي بيته الأول والأخير.

هذا النوع من الفعالية في المشاهدة قد يسبب فيما بعد تغيرًا في أسلوب المهرجانات وشركات الإنتاج التي ربما قد تحب إنجاز الأعمال بهذا الشكل، لكن لحسن الحظ أن برلين تحاول الحفاظ على المهرجان الفعلي من خلال قسم المهرجان إلى قسمين: عروض تحدث في الشتاء في المواعيد المعتادة، ومهرجان فعلي لجماهير المهرجان العريضة في الصيف (في حال تحسن الأحوال بالطبع)، خالقًا نموذجًا هجينًا يحاول التأقلم مع المعطيات الجديدة. على أي حال، فالبرنامج هذا العام تضمن العديد من العروض الجيدة، رغم تقلص بعض برامج المهرجان عن العام الماضي، ونحاول من خلال هذه المساحة التركيز على المسابقة الرسمية وسمات الأفلام المشاركة بها.

دب ذهبي مستحق لـ «مضاجعة سيئة الحظ أو جنس جنوني»

أول ما يمكن ملاحظته هذا العام هو وجود مخرجين مشتركين بين الدورتين الـ70 والـ71 هما الروماني رادو جود والكوري هونج سانج سو، إذ شارك الأول بفيلمين في العام الماضي خارج المسابقة هما «طباعة بالأحرف العلوية» و«خروج القطارات» بينما شارك الثاني بفيلمه «المرأة التي فرت» في المسابقة الرسمية حيث فاز بجائزة الدب الفضي – أفضل مخرج.

هذا العام، شارك المخرجان بفيلمين في المسابقة الرسمية للدورة الـ71، إذ شارك جود بفيلمه «مضاجعة سيئة الحظ أو جنس جنوني» وسانج سو بـ«تقديم»، كان الدب الذهبي من نصيب الأول بينما فاز الثاني بجائزة الدب الفضي – أفضل سيناريو. جائزة جود مستحقة للغاية إذ يستطيع المخرج التجديد على مستوى الشكل والمضمون في أفلامه وأن يعطي لكل فيلم منطقه البصري والدرامي الخاص.

فيديو جنسي مسرب لمعلمة شابة مع زوجها يقود أحداث فيلم جود، مع أسلوب مميز من خلال الكاميرا التي تراقب الواقع الروماني المرير بينما تتجول البطلة في المدينة محاولة الوصول إلى حل لمشكلتها في الفصل الأول، بينما في الفصل الثاني يعيد المخرج تعريف مصطلحات معروفة بصور حادة وبكلمات تصف المصطلح وفقًا لرؤيته، بينما يذهب الفصل الثالث إلى محاكمة هزلية تقيمها إدارة المدرسة بحضور كل المدرسين للمعلمة الشابة، لينتهي الفيلم بثلاث نهايات تختلف في حدتها وواقعيتها. 

جرأة جود الأسلوبية هي ما تجعل الفيلم مستحقًا للجائزة، بدءًا من عرضه للمقطع الجنسي في بداية الفيلم -يبدو كمقطع جنسي مصور بواسطة هواة بكل تلقائية- وصولًا إلى جرأته على مستوى الشكل والتعبير عن القصة بأسلوب هزلي يستخدم عناصر الوثائقي -الأمر المشترك بينه وبين «طباعة بالأحرف العلوية»- ليخلق عالمه الخاص، الأمر الذي جعل لجنة تحكيم برلين (المكونة من 6 فائزين بالدب الذهبي سابقًا) تمنحه جائزتها الأهم. إضافة إلى ذلك، يمكن أيضًا ملاحظة استخدام جود الذكي لأقنعة الوجه الناتجة عن وجود الوباء وتوظيفها داخل الدراما بشكل ذكي، الأمر الذي ينقلنا إلى الملاحظات المتعلقة بالإنتاج الناتجة عن تأثير الجائحة على صناعة السينما.

كيف تؤثر الجائحة على الأفلام المصنوعة؟

يمكننا ملاحظة بعض السمات المميزة للبرنامج هذا العام ومنها المتأثر بظروف الإنتاج المتعلقة بالوباء، فكثير من الأفلام تدور بعدد محدود من الممثلين ومواقع تصوير داخلية محدودة ومعتمدة على الحوار والسيناريو أكثر من اعتمادها البصري مثل فيلم سيلين سياما الأحدث «أمي الصغيرة» وفيلم الممثل والمخرج الألماني دانيل برونيل «الباب المجاور» وفيلم الممثلة والمخرجة الألمانية (مخرجة مسلسل «غير ملتزمة» لمنصة نتفليكس) ماريا شرادير «أنا رجلك».

تعود سياما مخرجة «لوحة امرأة تحترق» -الفائز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان عام 2019- بفيلمها الأحدث «أمي الصغيرة» الذي يعتبر فيلمًا أصغر على مستوى الإنتاج وأبسط بكثير لكنه يمتلك عذوبة خاصة، فتاة صغيرة تذهب مع أمها إلى بيت جدتها بعد رحيل الأخيرة، لتدخل في مغامرة زمنية تقابل فيها الأم في صغرها والجدة في شبابها. رغم أن الفيلم غير منطقي على مستوى الانتقال إلى الزمن ولا يؤسس لذلك، إلا أنك تستطيع بسهولة ملاحظة أن هذا الفيلم مبني على خيال طفلة بعمر البطلة (8 سنوات) وكل تفاصيله تحكى من هذا الجانب وهو ما يمنح الفيلم، إضافة إلى البيت ذي الديكور القديم والغابة وطغيان اللون الأخضر الدافئ، سحره الخاص على المشاهد.

في «الباب المجاور» ممثل شهير في انتظار كاستينج مهم في لندن، يخرج من شقته الفاخرة في برلين ليمر ببار يحظى فيه بقهوته الصباحية قبل أن يتجه للمطار. في ذلك البار يقابل جاره الذي لا يعرف عنه شيئًا بينما يعرف الجار عنه كل شيء، لتبدأ دراما الفيلم في التصاعد باستخدام الحوار الذكي المتصاعد الذي يعطي تعليقًا على بعض من القضايا الألمانية على هامش الحوار المسرحي المتصاعد والمغير لأحداث الفيلم. الفيلم أيضًا مكون من عدد محدود من الممثلين وتصوير أغلبه في موقع واحد هو البار، الأمر الذي يؤكد تأثير الجائحة على شكل الأفلام المنتجة.

كما يمكن ملاحظة ذلك في «أنا رجلك» وهو فيلم خيال علمي مشابه لكثير من الأفلام التي تتحدث عن الأندرويدز (روبوتات بهيئة البشر وبذكاء اصطناعي) إذ تختبر ألما الباحثة الخبيرة في علم اللغويات أندرويد مصممًا بناءً على تفضيلاتها لمدة ثلاثة أسابيع، نرى من خلالها مواقف تغير من وجهة نظرها تجاهه، بل وتطرح سؤالًا غاية في الأهمية: إذا كان هدف الحب السعادة، فهل يشترط أن يكون حبك الأفضل بشريًا؟ الفيلم مصنوع بشكل بسيط ومرتكز على الحوار والأداء الجذاب من كلا الممثلين دان ستيفنز ومارين إيجرت التي فازت بجائزة أفضل تمثيل في دور رئيسي.

أفلام داخل الأفلام

يمكننا أيضًا ملاحظة وجود الأفلام المبنية على القصص المجمعة المرتبطة داخل الفيلم بإطار واحد لكنها منفصلة على مستوى السرد.

أول تلك الأفلام هو الفيلم الياباني «عجلة الحظ والخيال» للمخرج الياباني ريوسوكي هاماجوتشي، الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى، والمكون من ثلاث قصص مختلفة ترتبط كلها من خلال عنصر الصدفة كمحفز للدراما، أولها حول مثلث حب مأساوي يُخلق بواسطة محادثة عادية بين صديقتين، وثانيها فخ تحاول طالبة نصبه لمعلم جامعي من خلال قراءتها لروايته، وثالثها يمتلك عنصر الخيال العلمي الذي يحدد العالم والصدفة بين امرأتين في وسط طوكيو، ويمكننا ملاحظة خلو الأماكن الخارجية في مدينة طوكيو كتأثر بالجائحة أيضًا.

فيلم آخر يستخدم نفس المنطق لحكي مواقف مختلفة تمتلك كل منها الدراما الخاصة بها، هو الفيلم المجري «غابة – أراك في كل مكان» للمخرج بينس فليجوف، والذي يعتمد في كل قصة محكية على دراما الموقع الواحد والحوار المتصاعد بين عدد قليل من الشخصيات. يقترب الفيلم من أسلوب مايكل هانيكه و«دوجما 95» من حيث الإضاءة والمواقع الخانقة واستخدام اللقطات القريبة لكاميرا مهتزة تنتقل بعنف بين الشخصيات بل وتركز على أيديهم أثناء الحوار، الأمر الذي يجعل الفيلم من أفلام الرعب النفسي بشكل أو بآخر.

الفيلم الأخير الذي يستحق الإشارة إليه هو «فيلم بوليسي» للمخرج المكسيكي المميز ألونزو رويز بالاس، الفائز بجائزة أفضل مونتاج. يخلق المخرج تجربته الخاصة من خلال جعل اثنين من الممثلين يندمجان في أكاديمية الشرطة لمدة معينة، ثم يستخدمهما في دمج ذكي للوثائقي والروائي ليروي قصة شرطيين في المكسيك، فيلم ممتع ومختلف، والخبر الأفضل أنه من إنتاج نتفليكس لذا من المتوقع أن يتاح للجمهور قريبًا.

نهاية، يمكننا أن نرى تأثير الجائحة على صناعة السينما والمشاهدين أنفسهم بعد مرور عام من ظهور الوباء، ورغم أن برنامج المسابقة الرسمية هذا العام يتفوق على العام الماضي بشكل ما، فإنني أفتقد الأمطار!