في يوم الثامن عشر من فبراير/ شباط 2020، وصلت إلى مدينة برلين لأول مرة من أجل حضور الدورة الـ70 من المهرجان العريق. فضلت الوصول مبكرًا إلى المدينة من أجل تأجيل انبهار زيارة مدينة كبرى لأول مرة في أول أيام المهرجان. بعيون مفتوحة مبكرًا يبدأ اليوم دون ظهور آشعة الشمس إلا في أوقات قليلة. الأمطار تجعلك تهرب إلى محطة الأنفاق أو مول أركادن الذي أغلق معظم محاله، وبقي مهجورًا إلا من الجماهير التي تستخدمه كمكان للاستراحة أو شراء البقالة من السوبرماركتس المتبقية

حائط برلين للملصقات

في منتصف المول أيضًا يستخدم المهرجان مساحة واسعة من أجل وضع حائط لذكريات الجمهور وتعليقاته. هناك ستيكي نوتس وأقلام للكتابة. تكتب تعليقك أو حتى مجرد اسمك وتلصقها على الحائط. جاءت معظم التعليقات مطالبة برجوع تطبيق المهرجان المميز، الذي بدأ كارلو شاتريان، القادم من إدارة لوكارنو إلى برلين، دورته الأولى متخليًا عنه. تلك التفاصيل الصغيرة تؤثر تمامًا على تجربة المشاهد، لأن المهرجان بالطبع ليس مجرد أفلام، بل تجربة كاملة تحيط بك. وعلى الجانب الآخر من قصر المهرجان، تجد المركز الصحفي الذي يوفر جزءًا طيبًا من تلك التجربة، بقهوته المجانية وسلال التفاح الموضوعة في كل الأركان وأماكن الكتابة المكتظة بالصحفيين. هذه الأجواء تشكل المهرجان قدر ما تشكله أفلامه. 

حائط الذكريات في برلين
حائط الذكريات في برلين
محمد طارق

في خلال الأيام الأولى من المهرجان، جاء مستوى الأفلام محبطًا إلى حد ما. هذا أول برليناله لي بعد مشاهدة عدد لا يحصى من الأفلام العظيمة التي نالت الجوائز هنا، ومستوى الأفلام لا يتخطى الجيد. هذه صدمة بالطبع، بدأتها مع فيلم جيا جانكي الجديد «السباحة في الخارج إلى أن يصبح البحر أزرق – Swimming Out Till The Sea Turns Blue»، وهو الوثائقي الذي عُرض حتى قبل فيلم الافتتاح في قسم عروض البرليناله المميزة – Berlinale Special. الفيلم يتناول ثلاثة مؤلفين صينيين من ثلاثة أجيال مختلفة، بينما يروون عن تأثير نشأتهم في سياقات سياسية مختلفة على مسيرتهم وإبداعهم. رغم شهرة جيا جانكي كاسم سينمائي لامع قدم العديد من الأفلام الممتازة مثل لمسة الخطيئة – A Touch Of Sin إلا أن الفيلم يقدم سردًا تسجيليًا تقليديًا للغاية مستخدمًا أسلوب الرؤوس المتكلمة (Talking Heads) معظم الوقت؛ الأمر الذي يحول الفيلم لريبورتاج تلفزيوني ممل. 

في اليوم الأول من المهرجان أيضًا اسم آخر لمع في جدول العروض هو الروماني كريستي بويو، واحد من مؤسسي الموجة الرومانية الجديدة. أخرج بيو سابقًا موت السيد لازارسو- The Death of Mr. Lazarescu وحاز عنه جائزة “نظرة ما” في مهرجان كان عام 2005. هذه المرة يعود بويو في فيلمه مالمكروج – Malmkrog، المعروض في قسم لقاءات للقطاته الطويلة للغاية المبنية على نص للفيلسوف الروسي فلاديمير سولوفيف، الذي تخيل فيه الأخير خمس شخصيات يُعبر كل منها عن توجه سياسي بينما يتناقشون في قصر كبير. ورغم أن الفكرة في حد ذاتها قد تبدو جذابة، إلا أن تصورها السينمائي لم يكن الأكثر توفيقًا، فالحديث الدائر بسرعة مذهلة بين الشخصيات باللغة الفرنسية، يجعل متابعة الصورة وتعابير الممثلين صعبة للغاية مع وجود الترجمة لنص معقد بالأساس. ظللت في الفيلم حتى نهاية المشهد الثاني الذي استمر 55 دقيقة، لكني شعرت بأني أحتاج لتعلم الفرنسية وقراءة النص الأصلي ثم العودة له مجددًا، ربما يكون ساعتها أكثر سينمائية بالنسبة لي.    

جماهير خلية النحل

 في اليوم الثاني من المهرجان حضرت أول عرض لي في قصر البرليناله، الذي يستخدم في غير أيام المهرجان كمسرح ويشبه كثيرًا القاعة الكبرى في دار الأوبرا المصرية. كان الفيلم هو المتطفل- The Intruder لمخرجته الأرجنتينية ناتاليا ميتا، والتي قدمت سابقًا الموت في بوينوس آيرس – Death in Buenos Aires. الفيلم مشارك في المسابقة الرسمية ويبني منطقه على الأحلام، مازجًا ما بين أنواع سينمائية مختلفة مثل الرعب والكوميديا والفانتازيا، محولًا قصة بطلته التقليدية التي تحاول التخلص من أمها المتسلطة وحبيبها المؤذي، إلى قصة مثيرة ومختلفة.    

الصحفيين على سلالم قصر البرلينالي - تصوير محمد طارق
الصحفيين على سلالم قصر البرلينالي
محمد طارق

بعد الفيلم ولأني تأخرت قليلًا (دقيقة أو اثنتين) عن ميعاد الفيلم، فقد جلست في الأدوار العلوية للسينما، ورغم ذلك فقد منحني ذلك أفضلية تأمل وتصوير الجماهير بينما تغادر المبنى الكبير في حركة أوتوماتيكية من زاوية علوية. لطالما تأملت فعل الدخول إلى السينما والخروج منها.

أدخن سيجارة بعد الفيلم، وتبدو هذه السيجارة أغرب من أي سيجارة أخرى. تخرج بأفكار جديدة إلى العالم، سواء كانت أفكارًا مشرقة بعد فيلم جميل أو غاضبة بعد إضاعة ساعتين في فيلم لا طائل من مشاهدته، لكن في الحقيقة أيضًا مشاهدة الأفلام الرديئة تجعلنا ندرك الأفلام الجيدة، ومشاهدة جماهير الصحفيين والصناع بينما تنزل السلالم الملتفة، يجعلهم أقرب لخلية النحل التي تتحرك آليًا رغم أن كلاً منهم يتحرك لهدف معين سواء كانت التغطية أو البرمجة أو من أجل حوار صحفي، الأمر الذي يجعل الفردانية والجماعية تجتمعان في وقت واحد. 

المهرجان يشارك أفلامه في مساءلة التاريخ

هذه الفكرة تذكرني أيضًا بعنوان كتاب ألبير كامو الوحدة والتضامن – Solitude and Solidarity، فدخول السينما فيه اتحاد للفردانية والجماعية. الأمر مثير للتأمل بالفعل، تدخل إلى القاعة مشتت الذهن بحياتك ومشاغلك الخاصة، تجلس وسط الجماهير، ثم تنطفئ الأنوار لتشعر بأن كل شيء وراء ظهرك الآن، وأن كل من في القاعة هم مؤيدون لنفس قضيتك المتخيلة. 

افتتحت يومي الثالث بفيلم دروس فارسية- Persian Lessons لفاديم بيرليمان والمعروض في قسم الجالا الخاص. أعاد لي الفيلم المبني على سيناريو ذكي ولطيف بعض الأمل بعد ندرة الأفلام الجيدة في أول يومين. الفيلم يحكي حكاية شاب يهودي يدعي أنه فارسي لكي يتجنب القتل، حيث يطلب منه الضابط النازي أن يعلمه الفارسية، ولكي يستطيع الشاب أن ينجو من القتل يبدأ في اختراع الكلمات وتذكرها يومًا تلو الآخر، وكأنه شهرزاد التي تؤلف الحكايات لتتجنب القتل.

الشيء المميز أن بطل هذا الفيلم هو الأرجنتيني ناهويل بيريز بيسكيارت الذي شارك في فيلم المتطفل- The intruder في اليوم السابق. شاب مذهل يتقن العديد من اللغات لدرجة أني تخيلته فرنسيًا وقت أن كان في 120 خفقة في الدقيقة – BPM واكتشفت وأنا أقرأ عنه بعد الفيلم أنه أرجنتيني يعيش في باريس. 

في منتصف اليوم، وبعد تناول وجبة خفيفة، دخلت لأشاهد فيلم رادو جود الجديد أحرف كبيرة – Uppercase Print  المعروض في قسم المنتدى أو الفورم. جود مخرج نشط، يصنع أفلامًا مختلفة بإيقاع سريع. فمنذ شهرته بعفارم – Aferim الذي فاز عنه بجائزة أفضل مخرج في مهرجان برلين عام 2015، صنع 7 أفلام في الفترة ما بين 2016 و2020 ما بين روائي ووثائقي. جود في فيلمه الأخير يخلط بين الروائي والوثائقي ليعيد مساءلة التاريخ الروماني في عصر شاوشسكو. 

هذه ليست المرة الأولى التي يسائل فيها جود التاريخ باستخدام أشكال فنية تجمع ما بين التسجيلي والروائي، ففيلمه (لا أهتم إذا انحدرنا تاريخيًا إلى البربرية – I Do Not Care If We Go Down in History as Barbarians) وهو الذي يستمد عنوانه من مقولة تاريخية، يعيد مساءلة لحظات تاريخية من خلال تتبع قصة مخرج يحول الحدث التاريخي إلى مسرحية شارع. بينما في فيلمه الجديد يخلط ما بين لقطات ساخرة مستمدة من ملفات حقيقية من البوليس السياسي الروماني تحكي قضية شاب كتب بالطباشير كلمات ثورية على الحائط، ولقطات أخرى وثائقية لما كان يعرضه التلفزيون في عهد شاوشيسكو من إعلانات تظهر البلد الذي قبع تحت الاستبداد لفترة طويلة كأسعد وطن ممكن للإنسان.  

تبدو هذه التوجهات قريبة من مساءلة المهرجان العجوز في دورته الـ70 للجائزة التي تحمل اسم أول مدير للمهرجان، ألفريد باور، والذي تناولته الصحافة قريبًا بأنه كان متعاونًا مع النازية، والذي نراه هنا في صورة خاصة مع صوفيا لورن. من أجل مزيد من الشفافية أرسل المهرجان لكل الصحفيين المشاركين بيانًا يوضح فيه أنه سيتم تشكيل لجنة أكاديمية خارجية من المؤرخين للبت في هذا الأمر، وتعليق الجائزة حتى إشعار آخر.  

في الثلاثة أيام الأولى أيضًا كان الأكل مصدرًا للسعادة أكثر من الأفلام، فسندوتشات الدونر التركية ومكرونة فابيانو الشهيرة وبيتزا مطعم زولا خففت من وطأة ندرة الأفلام الجيدة، ولكني آمل أن لا يكون أول برلين لي مجرد مساحة لتجربة طعام مختلف، خاليًا من الأفلام المذهلة التي تعودت أن أشاهدها في المهرجانات المصرية أو حتى عند إتاحتها على مواقع التورنت.. هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.