السفن الإيطالية في عمق المياه الليبية، وجنرال متقاعد في صحراء قاحلة يقود جيشًا من الميليشيات بتسليح متواضع واتته الجرأة بأن يهدد بإغراق السفن الإيطالية؛ بروباجندا هي إذن أم تهديد حقيقي، وكيف يمكن لمن هو كحفتر أن يهدد دولة من دول الاتحاد الأوروبي؟الإجابة باختصار في صراع النفوذ، والصراع بالطبع ليس بين حفتر وإيطاليا، لكنه هذه المرة أوروبي-أوروبي بين فرنسا من جهة وإيطاليا من جهة أخرى، وطفا هذا الصراع على السطح بعد رعاية فرنسا لجلسة مشاورات جمعت «فايز السراج» رئيس حكومة الوفاق الليبية وحفتر قائد ما يسمى بالجيش الوطني الليبي، في خطوة فسرتها روما بأنها محاولة فرنسية لمنافستها على النفوذ التاريخي لها في ليبيا، فكان أن قررت أن تدخل بثقلها إلى المياه الليبية، فما هي أبرز الدول الأجنبية التي تتحرك على الأراضي الليبية وهل تتحول ليبيا إلى رقعة شطرنج أخرى للدول الاستعمارية؟


صراع المال بين «إيني» و«توتال»

في سبتمبر/أيلول من العام 2016 أسست إيطاليا في طرابلس غرفة عمليات أمنية تضم خبراء من أجهزة الاستخبارات ووزارة الأمن العام ووزارة الدفاع الإيطالية، فضلًا عن نشرها نحو 100 جندي من قواتها الخاصة بمدينة مصراتة في إطار دعمها للقوات الموالية للحكومة في معاركها ضد تنظيم داعش والتصدي لعمليات الهجرة غير الشرعية، وفي المقابل فإن فرنسا تدعم حفتر والجيش الوطني الليبي؛ حيث قُتل ثلاثة ضباط صف فرنسيون في الـ 19 من يوليو/تموز 2016 بغرب مدينة بنغازي، وأعلنت فرنسا عقب هذا الحادث وجود فرق من قواتها الخاصة داخل ليبيا.و مؤخرًا حاولت فرنسا العودة إلى المشهد الليبي مرةً أخرى من خلال محاولة للتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة؛ حيث استضافت مدينة «لاسيل سان كلو» الفرنسية، في 25 يوليو/تموز 2017، اجتماعًا جمع رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، بقائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، برعاية الرئيس الفرنسي وبحضور موفد الأمم المتحدة الجديد إلى ليبيا، وأسفر الاجتماع عن توقيعهما على بيان مشترك من عشر نقاط لتسوية الأزمة السياسية بالبلاد.ويرى مراقبون أن تصاعد الدور الفرنسي في إدارة الأزمة الليبية يثير غضب إيطاليا، التي سبق أن تولت قيادة الجهود الرامية إلى إحلال السلام بين القوى الليبية المتصارعة، لتخوفها من تبعات هذا الدور على نفوذها الاقتصادي والسياسي في ليبيا، كما ترى إيطاليا أن التحركات الفرنسية تهدف لمنح حفتر اعترافًا بشرعية تحركاته العسكرية على الأرض دون تقديمه تنازلات حقيقية لدفع التسوية السياسية في ليبيا.هذا ويتركز الصراع الإيطالي الفرنسي في ليبيا حول أمرين؛ الأول وهو حسم ملف اللاجئين الذي تُعد إيطاليا أكثر الدول الأوروبية تضررًا من تبعاته وما يعنيه النجاح في هذا الملف من توليد شرعية نفوذ وهيمنة على الدولة الليبية إن أريد لها أن تُبنى من جديد، والأمر الثاني وهو احتياطات الغاز الطبيعي الضخمة، فقد غنم الإيطاليون خلال السنوات الماضية كثيرًا من المشاريع في القطاع النفطي، ولا يريدون للشركات الفرنسية أن تنافسهم في القطاع وأن تقضم من حصتهم نصيبها. فبالتزامن مع الوساطة الفرنسية والإعلان عن التدخل البحري الإيطالي، بذرائع مقاومة الهجرة غير النظامية، طار إلى ليبيا قادمًا من روما مدير العملاق النفطي الإيطالي (شركة إيني) للقاء السراج ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، وجرى خلال اللقاء بحث المرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل بحر السلام، واحد من أكبر حقول النفط في ليبيا ويعتبر مصدرًا مهمًا من مصادر إمدادات الغاز لخط جرين ستريم، الذي يمد إيطاليا بثمانية مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا. الجدير بالذكر هنا أنه وفي شهر مايو/آيار من العام الماضي قامت قوات موالية لحفتر بقطع خط الغاز (جرين ستريم) الواصل إلى صقلية اعتراضًا على الدعم الإيطالي لحكومة فايز السراج.في الضفة الأخرى حسم الفرنسيون خيارهم منذ قدوم إيمانويل ماكرون في دعم حفتر. بقدوم ماكرون بدت الصورة أوضح، فقد صرح الرجل في 21 من يونيو/حزيران الماضي بأن «فرنسا كانت مخطئة في شن حرب في ليبيا»، وأمعن النظر في تغيير السياسة الخارجية الفرنسية تجاه ليبيا بأن عيّن وزير الدفاع السابق جون إيف لودريان، الداعم بقوة لحفتر، في منصب وزير الخارجية، وكان هو المهندس الحقيقي لاجتماع باريس، الذي يتبنى ضمنيًا وجهة النظر المصرية للحل في ليبيا.ترغب فرنسا في العودة إلى منطقة غرب أفريقيا مرة أخرى ولكن من خلال البوابة الغربية الليبية، كما تريد وبشدة وضع يدها على موارد النفط والغاز في المنطقة، فقد فازت فرنسا عام 2010 من خلال شركة «توتال»، بعقد لاستثمار الغاز بحوض «نالوت» غربي البلاد، والقريب من «مليتا»، قبل أن تعود ليبيا وتلغي العقد مع الشركة الفرنسية بعد جدل قانوني.ويبدو أن إيطاليا وحلفاءها يحولون دون رجوع فرنسا إلى منطقة «نالوت»، التي تتحدث تقارير بأنها تحوى مخزونًا ضخمًا من الغاز الطبيعي. وكانت مصالح شركة «توتال» الفرنسية في الهلال النفطي، ورغبتها في استرجاع حوض «نالوت»، وراء تقديم فرنسا دعمًا عسكريًا لحفتر. هذا الدعم الذي كان معلنًا في معارك بنغازي، وجاء دعمًا خفيًا، عند استيلاء حفتر على منطقة الهلال النفطي.وليس بعيدًا عن الشمال الليبي تنفرد فرنسا بالجنوب الذي تعتبره إرثها التاريخي بليبيا، حيث تمتلك الاستخبارات الفرنسية روابط قوية ببعض الزعامات العسكرية المرتبطة بالنظام السابق أو الزعامات القبلية في المنطقة.


إسرائيل على الرادار

ترى إيطاليا أن التحركات الفرنسية تهدف لمنح حفتر اعترافًا بشرعية تحركاته العسكرية، دون تقديمه تنازلات حقيقية لدفع التسوية السياسية في ليبيا.

لا يدور الصراع في ليبيا في الفلك الأوروبي فقط، بل يلعب المدار الإقليمي دورًا شديد الخطورة فيه، فبجانب الدعم العسكري واللوجيستي الذي يقدمه تحالف مصر-الإمارات لحفتر، اتضح مؤخرًا أن إسرائيل ليست بعيدة عما يحدث، فقد أوضح تقرير نشره موقع «ميدل إيست آي» عن دعم عسكري ولوجيستي متواصل لحفتر، حيث ذكر التقرير نقلًا عن مصادر إسرائيلية وأخرى ليبية مقربة من حفتر عن تدخل عسكري إسرائيلي جرى عام 2014 أثناء عملية الكرامة لمنع هزيمة (الجيش الوطني الليبي).

اقرأ أيضًا:صديق جديد في أفريقيا: حفتر في تعاون سري مع إسرائيل

الإمارات التي تدخل في حلف شبه رسمي مع مصر لمواجهة نفوذ الجماعات الإسلامية في ليبيا قد دعت إسرائيل أيضًا إلى الطاولة.

كما تحدث التقرير عن لقاءات جمعت حفتر بمسئولين أمنيين إسرائيليين عام 2015 و 2016 بالأردن، وجاء في نص التقرير حديث عن تدخل عسكري إسرائيلي في سرت عام 2015، حيث قال الكاتب، وهو صحفي أمريكي: «قالت مصادر مُطَّلعة إنَّ طائراتٍ إسرائيلية قصفت أهدافًا تابعة لتنظيم داعش في سرت قبل يومين. وأضافوا أن الغارة جاءت بناءً على طلبٍ من الجنرال خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي خلال زيارته الأخيرة إلى العاصمة الأردنية عمَّان (حيث التقى مسئولين أمنيين إسرائيليين سرًا). وقالت المصادر إنَّ حفتر وعدهم (في المقابل) بتوقيع صفقاتٍ نفطية وصفقات أسلحة مع إسرائيل».وذكر التقرير أن التواصل بين حفتر وإسرائيل يجري بدعم وتنسيق إماراتي؛ الإمارات التي تدخل في حلف شبه رسمي مع مصر لمواجهة نفوذ الجماعات الإسلامية في ليبيا قد دعت إسرائيل أيضًا إلى الطاولة.يجري هذا الصراع المحموم على الموارد والثروات الليبية، بينما يعاني الناس من أزمات شديدة في توفير الوقود والمستلزمات المعيشية والطبية، وخاصة في درنة، المدينة المحاصرة من قوات حفتر منذ أكثر من عام ومؤخرًا قامت قواته بتشديد الحصار على المدينة وإغلاق جميع المنافذ بوجه السكان، بلا مراعاة للمستضعفين من النساء والأبرياء.وبحسب مصادر أهلية، فإن قوات حفتر «قطعت إمداد الغاز والوقود على المدينة، بالإضافة إلى منعها شاحنات نقل المواد الغذائية والخضروات». وأكدت المصادر نفسها أن شحًّا كبيرًا تعانيه المدينة في مياه الشرب منذ أول من أمس، إضافة إلى انقطاع الكهرباء بسبب نفاد وقود محطة الكهرباء الوحيدة التي تغذيها. ومن المتوقع أن تقوم قوات حفتر في الأيام المقبلة باقتحام المدينة والإجهاز على مجلس شوري المجاهدين، الذي ما يزال إلى الآن شوكة في حلق حفتر وحلفائه، فهل تنضم جهود أخرى عربية أو أجنبية إلى المعركة في درنة أم أن التخوف الإيطالي من تمدد نفوذ حفتر قد يفرض ضغوطًا أخرى تؤجل المعركة؟