-1-

في الماضي كان رمضان .. «كان» كفعلٍ يرفعُ فاعلًا، و«رمضان» كفاعلِِ مستكفٍ بنفسه، بغير أن يكون في حاجةٍ إلى مفعولٍ أو حالٍ. رمضان شهر يسكُن في الماضي، وكل الفرح الذي يأتي به هو مسُوح من حنين لا غير، لم يعد هناك جديد يضاف، إلاَّ ربما أن نُشاهد الماضي وهو يذوي، يفقد ثِقلا كان له، ويخلِّف وراءه خفَّة غير مستحبَّة. الماضي الذي رحل، أو كي لا نكون متعجِّلين، يجمع عباءته، يتحرك متململاً، يرفع نظره كل حين ثم يخفضه، ينتظر أن نأتي بحركة، أن نلتفت له بعيونٍ تحمل شيئًا غير الضَجر، منَّا، لا مِنه.

وقول نويت.. بكرة إن حييت.. الشَّهر صايم..
-2-

أول ذكرى منه، هي هذه اللَّحظة الأولى، ساعة السَّحَر، حين تتعلَّم كلمات إعلان النيَّة، غدًا سأصوم معكم لا تكفي، يجب أن تحفظ الكلمات المعيَّنة، التميمة، التي ستحمل نيَّتك إلى اللَّه، وعليها سيصعد صومُك ويجلب لك الخير، كلَّ الخير، بغيرها لن يكون لك شيء، لا صك ضمانٍ لك.طفل يُردِّد الكلمات وهو مبهورٌ، يحاول الاحتفاظ بها للغدِّ، يريد أن يفاجئهم بأنَّه يعرفها وحده، وأنه مثلهم، لن تثبط عزيمته لمجرَّد أنه لم يستطع إكمال اليوم وأفطر قبل الميعاد، غدًا رمضان جديد، والسُّحور سيأتي وهو يُقسِم أنَّه سيصوم، سيُكمل اليوم، ويُشهِد الكلمات المقدَّسة، تميمته التي صارت حبيبةٌ، على نفسه.

اصحى يانايم.. يانايم اصحى.. وحِّد الرَّزاق..
-3-

هذا الرجل، لم يعُد منه صوتٌ سوى صوت الطبلة، ربما ضاعت منه أيام سعادته، أيام كان يمضي مترنِّما، مغنِّيا، سعيدًا، مُرَحِّبا، يا اللَّه، يا كريم، جاء رمضان، أبواب كرمك يارب، يا نايم اذكر اللَّه .. يا نايم وحِّد اللَّه، السُّحور يا عِباد اللَّه، قوموا لترفعوا اسم اللَّه في السَّحر، لتأكلوا ممَّا رزقكم ولتشكروه على نعمتِه ثم لأجله تتركوا هذه النعمة وهي أماكم وتبدأوا رحلة اليوم الذي سيترككم قبل المغرب بلحظات وأنتم كالملائكة بلا ذنوب، ولا تنسوا الدعاء.

– لماذا يأتي المسحَّراتي قبل ميعاد السُّحور بكثير يا ماما؟ هكذا لا يوقظنا في الميعاد! – لأنَّه هو أيضًا في حاجة لأن يعود لبيته ويتسحَّر! – لماذا يأتي المسحَّراتي يوم العيد يا ماما؟ – ليأخذ ثمن إيقاظه لنا خلال رمضان.. – هل يعطيه كل الناس؟ – لا، لم يعودوا جميعهم يعطونه، فلم يعودوا في حاجة إليه، توقظنا المنبهات الآن.
-4-

هذا الرَّجل، الذي لم يعُد منه سوى صوت الطبلة، يحمل ماضيًا طويلاً، من «بلال بن رباح» أول مؤذن وموقظ للسحور في الإسلام، و«عنبسة بن إسحاق» أول موقظ للسُّحور في مصر الذي كان يمشي بنفسه من مدينة العسكر بالفسطاط حتى جامع عمرو ليوقظ النَّاس، ثم الدَّولة الفاطميَّة التي أحضرت معها الاسم، وطبلته. كانت في البداية صوتًا بشريًا فقط، ثم يدًا يخبِّط بها، نبابيتًا أحيانًا، مزامير وأغاني شاميَّة أحيانا أخرى، حتى أنَّه ذات مرة كانت امرأة، تغنِّي وتصدَح في الحيِّ بصوت جميل كي توقظ أهله من خلف مشربيَّتها، قالوا أن ذلك كان في الدولة الطولونية، كان صوت السعادة مختلفًا حينها.الآن، لم تبق سوى طبلة، أحيانًا، بل كثيًرا، تضِنُّ بوجودها القليل ولا تجيء.بعدها لا يعود المسحَّراتي مجرد طبلة، بل رجلاً بائسًا، يخرج باكرًا قبل ميعاد السُّحور، يُوقظ الناس قبل أن يكونوا في حاجة للاستيقاظ، ثم يُسرع ليعود إلى بيته ليتبلَّغ بأيَّة لُقمة قبل الأذان، ويوم العيد يدور على البيوت كالمتسوِّلين جامعًا الخيبة وبعض المال. ربما لهذا فقد صوته ولم تبق إلاَّ الطبلة.

المشي طاب لي.. والدَّق على طبلي.. ناس كانوا قبلي.. قالوا فى الأمثال.. الرِّجل تدب مطرح ماتحب.. وأنا صنعتي مسحراتي.. فى البلد جوَّال.. حبِّيت ودبِّيت كما العاشق ليالي طوال..
-5-

لكن الماضي لا يضيع تمامًا ما دامت هناك ذاكرة تحفظه، وقلوب تحنُّ إليه، والحنين ليس سيئًا دائمًا كمصدرٍ للوجع، الحنينُ كالكبسولة التي تحمل نسخةَ حياةٍ مصغَّرة، متجمِّدة، تنتظر من يُعطيها بعض الدِّفء فتعود، بعض الأمل.الحنين هنا كلمات تَمكَّن صاحبها من جعلها غير قابلة للموت، ألبس المسحراتي بها، جعلها شاهدًا عليه، صفةً له لن يفقدها أبدًا، حتى ولو لم يعُد هذا الرَّجل يُطلقها في الشوارع، ستخرج من الرَّاديو إذن أو التلفاز، معها دقَّات الطبلة التي لن تكون وحيدة، جاء بها رجل آخر وأعار للكلمات صوته الشجيِّ، وارتدَت الكلماتُ موسيقى لم تكن لها في الماضي،لكنها تماهت معها، ربَّما لأنها تنبُع من قلب قُدِّر له أن يسمع المسحَّراتي حقًا، صوتًا وطبلةً، فأثارا بداخله موسيقى انتظرت كي تخرج هي الأخرى لتعانق دائرة الزَّمن، في هذا الشَّهر الذي لا يُنسى عامًا فلا يجيء، دائرًا،يحمل الماضي، والحنين، وصوتًا، وطبلة، وموسيقى، وألوانًا .. يدور بكل الحواس، مؤكدًا على الإحساس بالزمن، بالحياة، ثم في نهايته يبقى كلمعةٍ في عينٍ تنتظره، تعرف أنَّ الماضي الذي خايلها بخطر رحيله يستطيع أن يعود، ولو في صورةٍ غير صورته، كجوابٍ ورقيِّ قديمٍ يحمل رسالةً معطَّرة من حبيبٍ، ويحمل معه كل شيء، كل ما كُنَّاه يومًا، وربما، ينتظرنا حتى نعود للحياة حقًا فنُفسِح له مكانًا أرحب تُزيِّنه ألوان جديدة عليه..

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.