هل تتغيّر الأفكار والمواضيع من جيل إلى جيل؟! كيف يتعامل الكتّاب والأدباء مع متغيرات العصر؟ هل صحيح أن كل عصرٍ يفرض طريقة خاصة في الكتابة؟ ولماذا يثور البعض على هذا الأسلوب المحدد، ويسعى للتغيير والتجديد؟

 تبدو هذه الأسئلة، وما تطرحه من إجابات، وكأنها أسئلة خاصة بنا، بهذا العصر الحالي الذي تسارعت فيه وتغيّرت الكثير من الظروف والطقوس والأحوال، ولكن المفاجأة الثابتة والمستقرة التي نعرفها من كتب التراث والأدب القديمة أنها كلها أفكار تدور في أذهان الأدباء والكتّاب منذ بدأت علاقتهم بالكتابة والشعر، بعد أن توقفوا أمام الأطلال وعبروا عن أنفسهم ومشكلاتهم، لذا فلا عجب أن يقول زهير بن أبي سلمى في الجاهلية:

ما أرانا نقول إلا معارًا … أو معادًا من قولنا مكرورًا

وبعده بنحو عقدين من الزمان، يؤكد الجاحظ في حديثه المطوّل عن العلاقة بين الكتابة والأفكار ما نصه:

إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ.

 وإذا كان الجاحظ يتحدث في الشعر عن إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، فإن النقاد القدماء والمحدثين من بعده أفاضوا وتحدثوا طويلاً عن أدبية الأدب، ودور الكاتب والأديب في صياغة أفكاره ومعانيه على أي نحوٍ من الأدب يشاء، بل ودارت معارك أدبية ونقدية يعرفها المطلع على الشعر في عصوره الأولى بين القدماء والمحدثين، وبين مدرسة الطبع والصنعة. ثم جاء النقد الجديد بأفكارٍ تخص القارئ المتلقي وتعلي من قدره وقيمته، وتفسح له المجال أكثر في التأويل وتعدد مستويات القراءة. من هنا يمكننا الانتقال بشكلٍ تطبيقي إلى ما قدمه عميد الأدب العربي طه حسين، في روايته القصيرة «ما وراء النهر» والتي ربما لم تلفت الأنظار إليها كثيرًا، والتي كان قد كتبها عام 1975 وتناول فيها حكاية تبدو تقليدية وعادية، ولكنه قصد منها أن يثير لدى القراء الكثير من الأفكار، ويدفعه للمزيد من التأمل، ويتمرد على طريقة السرد الكلاسيكية المعتادة، فكيف فعل ذلك؟

البداية: كسر الإيهام

فكتابنا قد عودوا القراء أن يهيئوا لهم الأدب كما يهيأ لهم الطعام، فليس على القراء إلا أن يقرءوا ويسيغوا، كما أن بعضهم ليس عليه إلا أن يجلس إلى مائدة الطعام في مواعيد موقوتة ليمضغ ويسيغ. أما أنا فلا أحب هذا اللون من الطهي الأدبي، لأنى أكبر نفسي وأكره أن أكون خادماً للقراء من جهة، ولأني أكبر القراء وأكره أن تكون آذانهم أفواهاً وعقولهم بطوناً يلقى إليها الكلام فيسمعون ثم يسيغون، لا أحب شيئاً من هذا. وإنما أحب أن أنشئ بيني وبين القراء نوعاً من الزمالة، بحيث نبدأ القصة معاً، ونمضي فيها معاً، وننتهي منها معاً، نتفق أحياناً ونختلف أحياناً أخرى، ويشجر بيننا الخصام من حين إلى حين.
ما وراء النهر – طه حسين

بهذا الطريق وعلى هذا المنهج منذ البداية يأخذ طه حسين قارئه إلى عالمه، وليس هذا المقطع تمهيدًا في مقدمة القصة/الرواية مثلاً فحسب، وإنما هي طريقة مستحدثة يأخذها استلهامًا من مسرح بريخت وطريقته في (كسر الإيهام) التي يحوّل فيها الكاتب القارئ/ المتلقي إلى شريك في العمل، يخاطبه ويعرض عليه وجهة نظره، ولا يجعل النص ملكًا لمؤلفه فحسب، بل حصيلة تفاعل القارئ مع ما يطرحه الكاتب من أفكار وقضايا ومشكلات.

وليست هذه المرة الوحيدة التي ينتقل فيها طه حسين إلى القارئ أو القراء لافتًا انتباههم ومحرضًا إياهم على إعمال الخيال في تفاصيل الأحداث، وإنما يتكرر هذا الأمر في الرواية على امتدادها، ويجعل منها أساسًا يبني عليه العديد من تفاصيل الحكاية اعتمادًا على خيال القارئ، وما قد يفترضه من تفاصيل يجملها أو يختزلها أو يكتفي بالإشارة إليها بشكلٍ عابر. وليس هذا فحسب بل يشير كذلك إلى عدد من أفكار الكتابة، وطرق اختيار مكان الحدث الذي ستدور الرواية حوله، الذي حرص على الإشارة أنها خارج مصر، واختيار أسماء الأبطال، وغير ذلك من تقنيات داخلية مستخدمة في الرواية.

ولست أخفي على القارئ أني حائر أشد الحيرة في أمر هذا الفتى، كما أني حائر أشد الحيرة في أمر أهل الربوة جميعًا؛ فكلهم يلح عليَّ في أن أجد له اسمًا يتسمى به ويميزه بين غيره من الناس. وكلهم يلحُّ عليَّ في أن الأشخاص لا يستكملون وجودهم إلا إذا عُرِفت أسماؤهم التي تحقق التمايز فيما بينهم وتخرجهم من هذا الوجود الوهمي الذي يشبه العدم إلى وجود، إلّا يكن واقعًا كل الوقوع، فهو شيء بَيْنَ بَيْنَ، أقرب إلى الواقع منه إلى الوهم، وأدنى إلى الحقيقة منه إلى الخيال.
ما وراء النهر _طه حسين

الإيقاع: طريقة التناول

يعوّل الكثير من النقاد والقرّاء على السواء على طريقة الكتابة، وأسلوب السرد الذي يجذب القارئ، لا سيما قارئ اليوم إلى عالمه بشكلٍ أكبر، ولعل الملاحظ على «ما وراء النهر» وعالمها وتفاصيل أحداثها، رغم كلاسيكية اللغة المكتوبة بها أن طه حسين قصد منها أن يسرد أكبر قدرٍ من الأحداث والتفاصيل في عدد محدود من الصفحات، ونجح في ذلك بشكلٍ كبير، ليس هذا فحسب وإنما تثير الرواية بين هذا وذاك في نفس القارئ الكثير من الأسئلة المتعلقة بالكتابة والتلقي كما أشرنا آنفًا.

في الرواية رغبة إذًا لتكسير الأنماط والمثل والتقاليد، سواء كانت اجتماعية راسخة في أذهان الناس والجماعات، أو حتى فنية أسلوبية تبدو أكثر رسوخًا واستقرارًا لدى القراء والكتاب على السواءـ ولعل الرواية وكاتبها قد نجحت إلى حدٍ كبير في زلزلة هذه الأنماط الثابتة، سواء في قصة الحب المكلومة التي يعرضها، وإن بشكلٍ موجز، وذلك الصراع الهادئ المكتوم بين الأغنياء والفقراء، أو السادة والعبيد، أو في طريقة العرض والكتابة التي تفتح للقارئ آفاقًا أخرى للقراءة والرؤية والخيال.

اقرأ أيضًا: مجموعة «الحب الضائع»: المرأة الغربية في مرآة طه حسين

هكذا استطاع طه حسين، في أواخر سبعينيات القرن الماضي أن يقدَم للقارئ والناقد في الوقت نفسه درسًا جديدًا في بناء الرواية، وأن يخرج على الأنماط الكلاسيكية المعتادة، حتى لو كان ذلك من خلال قصةٍ عادية عابرة، وأن يسبق النقد الجديد في التركيز على القارئ ودفعه إلى القراءة والتأويل وملء فراغات الحكاية بما يشاء من خيال.

تجدر الإشارة في النهاية أنها ليست المرة الأولى ولا الوحيدة التي يثير فيها طه حسين من خلال كتابته الكثير من الأسئلة، ويسعى للثورة على المعتاد والسائد والمتوارث في الأدب والكتابة بشكلٍ عام، بل هو ما سعى إليه دومًا في الكثير من كتاباته الأدبية المميزة، التي ربما لم يعرف الكثيرون منها إلا معركته الشهيرة في كتاب (في الأدب الجاهلي)، ولا شك أن لنا معه ومع كتاباته القيمة وقفات أخرى أكثر ثراءً وفائدة.