في أعقاب الحرب العالمية الثانية خرج صناع السينما الإيطاليون إلى الشوارع، فمن جهة لم يعد بالإمكان أن يصوروا أفلامهم في أستوديوهات «شينشيتا» -أستوديو الأفلام الأكبر في أوروبا والذي أنشأة الديكتاتور الفاشي الإيطالي «بينيتو موسوليني» – ومن ناحية أخرى رأى كثير منهم أن الأوان قد آن أخيرًا للتحدث عن هموم وأحلام شعبهم، ومعاناتهم من آثار الحرب، ومن آثار حقبة طويلة من الحكم الفاشي.

الفقر في كل مكان، لم يعد بالإمكان تصوير إيطاليا فقط كبلد سياحي، من خلال أفلام رومانسية أو تشويقية تدور أحداثها في مواقع تصوير معدة مسبقًا، ويقوم ببطولتها نجوم ونجمات بوجوه لامعة وأزياء براقة.

نقلة فنية تحمل دلالات ثقافية واجتماعية، هذا ما مثلته هذه الحركة السينمائية التي أطلق عليها اسم «الواقعية الإيطالية الجديدة Italian Neorealism» والتي ازدهرت في أربعينيات وأوئل خمسينيات القرن الماضي، وبرزت من خلالها أعمال صناع سينما إيطاليين على شاكلة «لوتشينو فيسكونتي»، و«روبرتو روسيلليني»، و«جيوسيبي دي سانتس»، وبالطبع «فيتوريو دي سيكا».

من وسط أعمال هؤلاء الفنانين الكبار، اخترنا أن نتحدث عن فيلم مليء بكل خصائص ودلالات الواقعية الجديدة، كما أنه يعبر عن قضية إنسانية يمكننا أن نشعر بصلتها بنا كشعوب عربية عمومًا ومصرية خصوصًا في هذا التوقيت. الفقر وما يصنعه بنفوس البشر. الفقر حينما يحكم أسرًا ومجتمعات ودولًا. نتحدث اليوم عن الفيلم الإيطالي «Bicycle Thieves» من إنتاج عام 1948، ومن إخراج فيتوريو دي سيكا.


دراجة مساوية للإيمان

تدور أحداث الفيلم حول أسرة إيطالية فقيرة تعيش في روما عقب الحرب العاليمة الثانية، رب الأسرة رجل بلا عمل يُدعى أنطونيو. تبدأ الأحداث وهو وسط مجموعة من الرجال المتزاحمين حول مكتب عمل، يجلس أنطونيو بعيدًا كما لو أنه قد فقد الأمل بالفعل، للصدفة ينادي أحد العاملين بمكتب العمل على اسمه، يخبره الرجال الواقفون بأنه تم اختياره للعمل في لصق مجموعة من البوسترات الدعائية في الشوارع، ولكن العمل يحتاج لدراجة.

يعود أنطونيو لمنزله، يخبر زوجته ماريا وابنه برونو بما حدث، ويخبرهم ألا أمل لأنه رهن دراجته من قبل لسد بعض ديونهم. مرة أخرى يفقد رب الأسرة الأمل. ترفض زوجته ذلك وتحاول حل المعضلة من خلال رهن بعض من أثاث المنزل، تحصل على بعض المال وتستعيد الدراجة.

يبدأ الرجل عمله، يبدو وكأن الحظ سيتبسم أخيرًا لأسرته، ولكنه يترك دراجته للحظات، يتعرض خلالها للسرقة. تختفي الدراجة، ويبدو أنطونيو وكأنه سيستسلم للهزيمة، ولكن زوجته وابنته برونو – الذي يتذكر ببراعة الرقم التسجيلي الخاص بالدراجة – يدفعانه للبدء في رحلة استعادة الدراجة.

لسنا أمام حادث سرقة دراجة وفقط، هذه الدراجة تمثل أكبر من قيمتها بكثير، هذه الدراجة هي مصدر دخل أسرة، هي أمانها الوحيد. يستخدم المخرج فيتوريو دي سيكا دراجة من نوعية «فيديز»، وتشير الناقدة السينمائية الإنجليزية مارلين فاب في كتابها «أفلام مشاهدة بدقة»، إلى تشابه اسم الدراجة مع كلمة «Fede» وهي تعني بالإيطالية «الإيمان».

يبدو الأمر جليًا بالنسبة لأنطونيو، فهذا الرجل الذي تصبغ أفعاله السلبية، إن دققنا النظر فيه قليلًا، سنجد أن حياته في مجتمع فقير وتحت سلطة غير عادلة هما ما جعلانه كذلك، هذا عدم إيمان أكثر من كونه سلبية، ما الفائدة من عمل أي شيء إن كل شيء سينتهي بكارثة أو أزمة في نهاية الأمر. يصيح أنطونيو في ابنه في أحد المشاهد قائلًا: «أمك وصلواتها لن تساعدنا في شيء».


شخوص وأماكن حقيقية ورحلة لمطاردة الأمل

اختار دي سيكا أبطالًا حقيقين، وهذا ملمح هام من ملامح مدرسة الواقعية الجديدة. لامبرتو ماجيوراني الذي قام بدور أنطونيو هو عامل حقيقي بأحد المصانع، أتى برفقة ابنه ليقدمه لفرصة عمل في الفيلم، فاختاره المخرج لدور البطل. أما الأم ماريا فهي صحفية تُسمى ليانيلا كاريل أتت لإجراء مقابلة مع دي سيكا فجعلها بطلته النسائية. الابن برونو -والذي يحظى بدور كبير في أحداث الفيلم – هو طفل يُسمى إنزو، تم اختياره من بين الجماهير التي كانت تتابع تصوير الفيلم في شوارع روما. صرح دي سيكا عقب ذلك بأن ما دفعه إلى اختيار الطفل هو ملاحظته لخطواته الصغيرة اللاهثة مقارنة بخطوات الأب الواسعة.

تدور أحداث الفيلم بالكامل في مواقع حقيقية في شوارع روما، ملمح آخر للواقعية الإيطالية الجديدة، يصل الأمر لذروته حينما يذكر مانويل نجل المخرج في إحدى المقابلات، أن «روبرتو موريتي» سكرتير الإنتاج قد تظاهر بأنه شرطي مرور ليجبر مجموعة من الترامات التي كانت تتجول وسط شوارع روما بالتوقف بناء على تعليمات فيتوريو دي سيكا، وذلك لتصوير أحد مشاهد الفيلم. يتم اكتشاف ذلك عقب التصوير ويتم إلقاء القبض على موريتي جراء ذلك. يبدو إذًا أن التصوير في شوارع روما كان يعني مواجهة السلطة بالإضافة للجمهور.

نتابع مطاردات الأب والابن لأمل استعادة الدراجة طوال الفيلم. يستخدم دي سيكا حيلة تشويقية فيجعلنا نشعر بقرب لحظة إمساك الحل، ثم ما نلبث أن نمسك الهواء فلا نجد شيئًا، يطارد الأب رجل يقود دراجة شبيهة حتى يُمسكه ثم نكتشف أنها ليست دراجته، يصل الأب للفتى الذي رآه يختطف دراجته بالفعل، ثم يفتش برفقة رجل شرطة منزله فلا يجد شيئًا، بل بالعكس، يجد فقرًا أشد من فقر أسرته.


حينما يسود الفقر لا تحدثني عن الأخلاق

حينما يأتي ذكر الواقعية الإيطالية الجديدة دائمًا ما يأتي ذكر «سارق الدراجة»، مضت عشرات السنين، ولا يزال الفيلم يحقق نجاحًا مع مشاهدين جدد من أجيال جديدة، مشاهدات على قنوات سينمائية، عروض لنوادي أفلام ينشئها محبو السينما، ومشاهدات فردية لشباب يحاول اكتشاف عالم الأفلام بعيدًا عن هوليوود. ربما لا يعرف غالبية هؤلاء خلفية الأحداث الاجتماعية والسياسية الذي خرج من رحمها الفيلم، ولكن الأكيد أن جميعهم تأثروا بحكايته.

أب وابن في مواجهة الفقر، وحينما يفنى الأمل تختفي الحدود بين الصواب والخطأ، ويصبح الحديث عن الأخلاق بلا معنى. هذه هي الحكاية وهذا ما نشعر به قبل أن نترجمه لأفكار واضحة حينما نشاهد الدقائق الأخيرة في هذا الفيلم.

تتكسر كافة آمال الأب أنطونيو، وابنه برونو، في استعادة الدراجة. يفكر الرجل في أنه لا يمكنه العودة لبيته ولزوجته بهذا الحال، وحينما يسيطر اليأس على عقله يرى عشرات من الدراجات التي تنتظر ملاكها أمام أحد استادات كرة القدم في روما، يستمر الأب في السير، ثم يرى دراجة وحيدة موضوعة بجوار أحد الحوائط، يبدو وكأنها تناديه لكي يسرقها ويحل كافة مشاكله، يستمر المشاهد لما يقرب من ثماني دقائق دون حوار، يسير الأب ذهابًا وإيابًا وهو يفكر ماذا سيفعل، وابنه يجلس على الرصيف بجواره غير مدرك لما يجري، وفي لحظة يقرر أنه سيقوم بسرقة الدراجة، ويخبر ابنه أن يستقل الترام للعودة للمنزل وأنه سيقابله هناك.

لا يدرك الطفل ما يحدث، ولكن أباه يصرخ فيه كي يرحل، يذهب الطفل ولكنه لا يلحق بالترام فيعود، يظن الأب أن ابنه رحل فيذهب لخطف الدراجة والهرب بها بعيدًا. أجد نفسي مشتتًا كلما شاهدت هذا المشهد، فمن ناحية أشعر بالتعاطف مع هذا الأب المطحون والمظلوم، أنطونيو الذي يبدو وكأن الكون قد تآمر ضده، أشعر في لحظة ما أنني أتمنى له النجاح في سرقة هذه الدراجة، ومن ناحية أخرى أشعر بتوتر شديد لأني لا أرغب لهذا الطفل أن يرى والده وهو سارق.

ينجح دي سيكا في التعبير عن كل شيء دون كلمات تقريبا في هذا المشهد. السرقة ليست مسئولية هذا الرجل، السرقة ليست مسئولية الفتى الذي سرق هذا الرجل في بداية الفيلم، السرقة ليست مسئولية أي من هؤلاء الرجال، السرقة فعل مبرر جدًا لمن لا يجد قوت يومه، احذروا الفقر وما يصنعه بالبشر، احذروا الفقر وما يصنعه بالدول، وكما يقول كاتبنا الكبير الراحل أحمد خالد توفيق في روايته يوتوبيا «الأخلاق تتآكل فى الفقر كما يتآكل المعدن الذى يقطر فوقه الماء».