في قائمة نقابة الكتاب الأمريكية لأفضل السيناريوهات السينمائية في التاريخ حلت ثلاثة أفلام لبيلي وايلدر في المراكز العشرين الأولى، وعند الحديث عن أفضل المخرجين في تاريخ هوليوود دائمًا ما يأتي اسم «بيلي وايلدر» ضمن الأهم والأعظم والأكثر تأثيرًا على الإطلاق. 

برع وايلدر في اختراق معظم الأصناف السينمائية، قدَّم الرومانسية والحروب والنوار وأفلام المحاكم والسيرة الذاتية والأفلام الهجائية والكوميديا، إلا أن همه السينمائي كان واحدًا، أن يعري نواقص وعيوب الجنس البشري للمشاهد.

ولد «بيلي وايلدر» في النمسا عام 1906، في طفولته عُرف بعدم التزامه وتمرده الدائم ضد الانضباط القاسي في مدارس فيينا، كان يهرب من المدرسة لمشاهدة الأفلام الأمريكية في السينما، وكان نجمه المفضل آنذاك هو «تشارلي شابلن»، هاجر إلى برلين وعمل مراسلًا صحفيًّا للجرائم وناقدًا فنيًّا، قبل أن يرحل إلى فرنسا ومنها إلى هوليوود بعد صعود هتلر إلى القمة. وبعد انتقاله إلى هوليوود سنحت له الفرصة ليبدأ مشواره بعدما سمحت بعض الاستوديوهات لكتاب السيناريو بإخراج نصوصهم، الأمر الذي صعد بالعديد من المخرجين، مثل: جون هيوستن وبريستون ستورجز.

 شارك وايلدر في كتابة بعض الكلاسيكيات مثل Ball of Fire لهوارد هوكس و Ninotchka لمهاجر آخر أصبح من الكبار اسمه «إرنست لوبيتش»، في أثناء عمله على فيلمه Bluebeard’s Eighth Wife أراد إرنست لوبيتش أن يقوم «تشارلز براكت» بكتابة السيناريو، ورفض وجود بيلي وايلدر حتى لا يترك انطباعًا بأنه كمهاجر ألماني يساعد مهاجرًا ألمانيًّا آخر في هوليوود، لكنه استسلم حين علم بأن تشارلز وبيلي يعملان معًا كفريق.

في اللقاء الأول بينهم أخبرهم (لوبيتش) أن لقاء البطل والبطلة يجب أن يكون غير متوقع حتى يثير اهتمام الجمهور، وسألهم عن تخيلهم لهذا اللقاء، اقترح (وايلدر) أن يكون اللقاء بينهما في مكان لبيع الملابس، حيث (جاري كوبر) المليونير الثري يقضي إجازته ويرغب في شراء سراويل فقط دون الجزء العلوي من الملابس لأنه لا يحتاجها، لكن البائع يرفض، تأتي (كلوديت كولبيرت) وتطلب شراء الجزء العلوي فقط لأنها لا تحتاج السراويل، وهنا يبدأ التعارف. اندهش (لوبيتش) من اقتراح (وايلدر) وأُعجب بالفكرة وتم تنفيذها. 

سمح لوبيتش لوايلدر أن يبقى ويلاحظ أثناء التصوير، يقول (وايلدر) إن (لوبيتش) هو أفضل من كتب السيناريو، وكان ملتزمًا جدًّا كمخرج، ولم يسمح للممثلين بالارتجال، وهو الأمر الذي اكتسبه وايلدر منه حين أصبح مخرجًا. تأثُّر وايلدر به امتد كذلك لكتابة السيناريو، خاصة في كتابة السيناريو الكوميدي وصنع كوميديا الموقف والحوار السريع الذي يتحرك برشاقة من شخص إلى آخر، وعلى الرغم من استفادته من العمل مع لوبيتش، فإنه كان غاضبًا من سوء إخراج نصوصه على الشاشة من مخرجين أقل، ولذلك قرر وايلدر أن يخرج نصوصه بنفسه.

لقد كنت دومًا متمرسًا في تسجيل الفكرة متى جاءتني، لا أعلم متى سيأتيني الإلهام مجددًا.
بيلي وايلدر

لعبة الشد والجذب

 (بيلي وايلدر) قد يعيد تشكيل كل شيء، هو ملك لعبة الشد والجذب على شاشة السينما، يظن المشاهد أن ذروة الفيلم قد جاءت، لكن الأمور ليست بهذه البساطة، هناك ذروة أخرى مختلفة وصورة متناقضة ستُقدَّم. بمعنى أن العقدة الملتوية (Plot Twist) في أفلام (وايلدر) ليست النهاية فقط، لكنها الحكاية نفسها! وهذا ما أثر فيما بعد على العديد من المخرجين، أشهرهم الإيراني (أصغر فرهادي) الذي صرح أكثر من مرة بتأثره بوايلدر ورغبته في أن يقدِّم الكوميديا كذلك، لكن (فرهادي) في أفلامه يقدم البشر كأخيار حتى في معاركهم، أما (وايلدر) فدائمًا ما يكون كل أبطاله مدانين.

في كلاسيكيته Sunset Blvd يفتتح الأحداث بجثة الراوي طافية على سطح المياه، تبدو الأمور غير منطقية، لكن وايلدر يقول إن المشاهدين وجدوا الأمر مسليًا، ولذلك يتغاضون عن إن كان منطقيًّا أو لا. وفي كلاسيكية النوار الأخرى Double Indemnity قصة الفيلم واضحة من اسمه، التعويض المزدوج يعني أن تدفع شركة التأمين على الحياة تعويضًا مضاعفًا في حالة الموت في حادث، ولأن الفيلم نوار دائمًا ما يحتوي على جريمة، إذن فهناك جريمة ستحدث، وستبدو كأنها حادث، ويحصل ثنائي محبين على قيمة التعويض المزدوج، وهو ما يُوضَّح في بداية الفيلم أيضًا “أنا من قتلت ديتريكسون، فعلتها من أجل امرأة ومن أجل المال، لم أحصل على المرأة ولا على المال”. 

جرأة وايلدر هنا تجعله يخالف الحبكة الملتوية التي اشتهر بها صنف النوار، كل شيء واضح منذ البداية، الراوي قتل الرجل وفشل في الحصول على المال والمرأة، البراعة ليست في الحكاية نفسها، لكن في كيفية حكايتها، الشيء الآخر الذي طوره وايلدر هنا هو إدانة الطرفين، في أغلب أفلام النوار تقوم المرأة بدور الشيطان الذي يقوم بإغراء الرجل، لكن الأمر هنا مختلف، يقول (والتر نيف) إنه دائمًا ما أراد أن يقوم بشيء كهذا من أجل المال.

أفكار عبر زجاج معتم

أراد (وايلدر) أن يصنع أفلامًا لجماهير الطبقة المتوسطة، من نراهم في المترو، وكل ما يأمله أن تثير أفلامه إعجابهم. ورأى (وايلدر) أن نجاح أفلامه من عدمها يحتاج إلى الكثير من التوفيق، فكاتب كبير مثل (برنارد شو) كتب العديد من المسرحيات، لكننا نتذكر ستًّا أو سبعًا منها فقط.

بعد نجاح فيلمه Some Like it Hot أراد (وايلدر) أن يجتمع مع (جاك ليمون) في فيلم آخر، أخرج دفتر ملاحظاته من درج مكتبه ووجد فيها ملاحظة عن فيلم (ديفيد لين) Brief Encounter الذي يتذكره جيدًا، في أحد مشاهد الفيلم يجتمع أليك ولورا في شقة اقترضها من صديقه، وعندما يطرق صاحب الشقة الباب تسرع لورا بالهرب، الاهتمام وقتها كان شعور الحبيبين، لكن (وايلدر) فكر في صاحب الشقة نفسه، يجتمع الحبيبان في شقته بينما هو وحيد بلا حبيب، كيف يشعر؟ 

هنا أصبح (وايلدر) يمتلك شخصية وموقفًا، لكن أين الحبكة؟ استمد الفيلم حبكته من واقعة مشهورة حين اكتشف منتج مستقل خيانة زوجته الممثلة مع منتج آخر اسمه (جيننجز لانج)، فانتقم منه وأطلق النار على خصيتيه، تخيل حينها (وايلدر) أن (لانج) يستخدم شقته ملجأً للعلاقات الغرامية لمرءوسيه، ومن هنا ظهرت حبكة كلاسيكيته The Apartment

بقايا النشأة

تحدى (وايلدر) النمط الهوليوودي المعتاد وقدَّم أفلامًا ذكية بنكهة أوروبية، وواجه صعوبات عديدة في إنتاج أفلامه؛ لأن مشاريعه لم تكن ضمن اهتماماتهم، تلتف أفلامه حول الكذب والخداع والتنكر، الأمر الذي يمكن اعتباره قد ترسخ فيه بعد تجربته في الرحيل من أوروبا والتوجه إلى هوليوود، وتتميَّز أفلامه بالسوداوية والتهكُّم المر، (وايلدر) يعرف الإنسان جيدًا، تبدو معرفته به أمرًا غريزيًّا جدًّا، الأمر الذي يجعل المشاهد يتفهم جيدًا دوافع أبطاله حتى لو كانوا مجرمين وقتلة. ضمن هذا التفهم يعتبر (وايلدر) أن الطبيعة الأولى للإنسان هي الاحتيال والخداع، وبهذه الطرق يحصل الإنسان على السعادة، بينما الطبيعة الثانية التي تأتي بعد الخداع هي الخير والصدق.

أعمال (وايلدر) لا يمكن اعتبارها تأملية أو خيالية بشكل كامل، وإنما هي مستقاة من تجربته الحياتية كرجل سافر بين عدة دول، وعمل بالعديد من الوظائف قبل أن يستقر مخرجًا في هوليوود، الأمر الذي يمكن التماسه في العديد من الشخصيات التي قدمها في أفلامه. قام (وايلدر) في فترة من حياته بإغراء النساء والعيش على نفقتهن، وظهر ذلك في شخصية (توني كيرتس) في Some Like it Hot أو الأخ الأصغر في Sabrina. عمله في كتابة السيناريو كذلك ألقى بظلاله في فيلمي The Lost Weekend و Sunset Blvd.، وعمله في التحقيقات الجنائية كان مؤثرًا في Double Indemnity. لم يذهب في السينما إلى أي منطقة قبل أن يعود إلى نفسه، كذلك يمكن اعتبار أفلامه مرآة للواقع الاقتصادي والسياسي في أمريكا الأربعينيات والخمسينيات.

عالم من المحتالين 

شخصيات وايلدر لا تمتلك بوصلة للأحكام الأخلاقية، ترى نفسها كمن يعيش في غابة، أو صيادين أمامهم فرائس، لا يجدون الأمل إلا عن طريق المكر والاحتيال، عالم ممتلئ بالتهكم اللاذع على موقف الإنسان، متشائم إلى حد فقدان الأمل.

اعتمد (وايلدر) في سيناريوهاته على التناقض والتضاد بين الشخصيات وبين أفعال ومشاعر كل شخصية، وهو ما كان مصدرًا للكوميديا في أفلامه الكوميدية أو محركًا للأحداث في الأصناف الأخرى، وكذلك اعتمد على حيلة التخفي لشخصياته أو ارتدائها قناعًا يخفي شخصيتها الأصلية.

في The Major and the Minor تحتال سوزان وتدعي أنها طفلة صغيرة لأنها لا تمتلك أي أموال، في Sunset Blvd يخدع الكاتب نورما ويعيش دور الحبيب حتى تنفق عليه بينما حبيبها الحقيقي وزوجها السابق يرتدي قناع الخادم حتى يظل جوارها، ونورما نفسها ترتدي قناع الشهرة وتقنع الجميع أنها ما زالت نجمة بينما تجاوزها الزمن بالفعل، في Sabrina يخدع همفري بوجارت سابرينا كي يحافظ على علاقاته في العمل، في Some Like It Hot يتخفي البطلان في هيئة امرأتين، في Witness for the Prosecution يخدع ليونارد الجميع وفيهم حبيبته والمحامي الذي ترافع عنه.

أبطال أفلامه دومًا مخادعون، ابنة مخادعة، صحفي وصولي، رأسمالي فاسد، شخصيات كلها مستقاة من واقع المجتمع والبيئة، ولا يبذل المشاهد مجهودًا في سبيل التعرُّف عليها، وتدور الشخصيات في فلك الخداع والاحتيال بالشكل الذي لا تشعر فيه بأن الشخصيات تندم على هذا الخداع، بل يشعرون بالحماسة من أجل الوصول لأهدافهم بغض النظر عن الطريقة التي يصلون بها، الجميع ضد الجميع في مجتمع فاسد، هناك محتالون وهناك من هم أكثر احتيالًا، ومن يفوز هو الأضعف في حلقة الاحتيال. مثلًا في Sunset Blvd تنجح نورما في تحقيق حلم الشهرة من جديد حين تتسلط عليها الأضواء أثناء القبض عليها ويشرف حبيبها/الخادم/المخرج السابق على أطقم التصوير، هكذا رؤية وايلدر لاهتراء القيم البشرية.

على الرغم من أن (وايلدر) قدم الكوميديا بجانب الدراما، كان وايلدر من المؤمنين بأن الأفلام تُكتب، وأن الجزء الأكبر من الإخراج يأتي أولًا من الكتابة، الأمر الذي جعله يشارك في كتابة جميع الأفلام التي أخرجها. كان أسلوب وايلدر الإخراجي على النقيض من الأسلوب الذي اتبعه (أورسن ويلز) مثلًا، لم يرَ أن الاستعراض هو الحل الأمثل، وإنما رأى أن المشاهد ينبغي ألا يشعر بوجود مخرج يقف خلف الكاميرا، أسلوبه المحافظ في الإخراج تناقض مع ثوريته في الكتابة والحرية والجرأة في تجاوز الحدود أثناء تناول أفلامه.