في حوار مع مارك زوكربرج، مؤسس موقع «فيس بوك»، سألته المحاورة عن رأيه في فيلم «The Social Network»، ومدى مطابقة قصته للقصة الحقيقية لإنشاء أحد أكبر المواقع الإلكترونية وأكثرها تأثيراً في التاريخ، فجاءت إجابته:

أعتقد أن أكثر الأمور دقة في قصة الفيلم هي أن كل تلك القمصان التي يرتديها البطل في الفيلم، هي في الواقع قمصان امتلكت مثلها من قبل.
وبعد أن يعج الحضور بالضحك يضيف زوكربرج:
بالطبع هناك بعض التفاصيل البسيطة المطابقة للقصة الحقيقية، غير أن أكثر الأمور الخاطئة هي فكرة أنني أنشأت فيس بوك ﻷن صديقتي انفصلت عني، بالطبع هناك الكثير من الفتيات قررن الانفصال عني في الواقع، لكن هذا لم يكن السبب وراء إنشاء فيس بوك.

شهد عام 2018 أكثر من 30 فيلمًا من أفلام السيرة الشخصية التي تصور شخصيات حقيقية في أزمنة مختلفة. ومن بين 20 ممثلًا وممثلة رشحوا لجوائز الأوسكار في تصنيفات التمثيل الأربعة، 13 منهم أدوا أدوارًا في أفلام سيرة شخصية. ومن بين 4 ممثلين فازوا بالجائزة، 3 منهم عن أفلام السيرة الشخصية.

بالتأكيد هناك دلالة خلف هذه الأرقام حتى وإن بدت عشوائية، كما أن هناك دلالة للوقوف على أرقام الأوسكار بالتحديد، فالأفلام المرشحة للأوسكار هي الأفلام الأكثر مشاهدة على مستوى العالم بشكل أو بآخر.

على الرغم من أن فيلم «The Social Network» لم ينقل القصة الأصلية لإنشاء موقع فيس بوك كما يرى صاحب القصة الأصلي، فإن الفيلم فاز بجائزة السيناريو في هذا العام، وهو بحق أحد أفضل النصوص السينمائية في القرن الحادي والعشرين.

قد يبدو السؤال التلقائي هنا هو: لماذا يميل المشاهدون إلى الأفلام التي تقوم على قصة حقيقية أكثر من القصص الخيالية؟ غير أننا سنتجاوز هذا السؤال لآخر أكثر أهمية، وهو ما الذي يجعل من هذه الأفلام أعمالًا فنية؟ وما الذي يجعل من فيلم «The Social Network»، الذي لم ينقل الواقع بحذافيره، واحداً من أفضل النصوص السينمائية في السنوات الأخيرة؟


النص السينمائي

لسنوات طويلة اعتمد الفن التشكيلي على تصوير الواقع كما هو، إلى أن ظهر رواد المدرسة الانطباعية، أمثال كلود مونيه، وأوجست رينوار، وويليام تيرنر، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والذين أولوا اهتماماً خاصاً لنظريات اللون، والرؤية، وقرروا الانفصال التام عن تراث فن الرسم وخرجوا لتصوير الطبيعة ليس كما هي عليه في الواقع، ولكن كما يرونها.

إذا كنت عزيزي القارئ بصدد مشاهدة فيلم مأخوذ عن قصة حقيقية أنت تعرفها من البداية إلى النهاية، فما الذي قد يدفعك إلى مشاهدة هذا الفيلم؟ هل ترغب في إعادة معايشة القصة بأبطال مزيفين؟ أم أنك ترغب في رؤيتها مرة أخرى بعيون راويها، وليس كما حدثت في الواقع؟

هذا هو السؤال الأهم في تناول أفلام السيرة الذاتية أو الأفلام المأخوذة عن قصص حقيقية، إذ إن القيمة الفنية الحقيقية تكمن في معالجة هذه القصة، وفي كيفية سردها وقصها على المشاهد. فصانع السينما ﻻ يعيد تدوير القصة بأبطال مشابهين لأبطالها الحقيقيين، ولكنه يضمنها رؤيته الذاتية الخاصة، ويحكيها بأسلوبه الفني الخاص، بالضبط كما فعل رواد الانطباعية في تصويرهم للطبيعة.

عادة ما تحتوي السير الذاتية والقصص الحقيقية على الكثير من الخطوط الدرامية، غير أن كاتب النص السينمائي يختار منها ما يخدم رؤيته الخاصة، فيقرر الاستغناء عن بعض الخطوط، ويقرر إضافة بعض الشخصيات، ليخرج منتجه الأخير متسقًا مع الوسيط الفني الذي يحكي من خلاله قصته، ﻻ متطابق مع القصة الحقيقية.

يحكي فيلم «Bohemian Rhapsody»، الحائز على أكبر عدد من جوائز الأوسكار لهذا العام (4 جوائز)، قصة المطرب الرئيسي لفرقة «Queen» البريطانية، إحدى أشهر الفرق الموسيقية في القرن العشرين، ولكنه ﻻ يتجاوز فكرة تصوير الطبيعة كما هي، إذ يختار بعناية الخطوط العريضة والمحطات المهمة في تاريخ هذه الفرقة، ليتحول الفيلم في النهاية إلى فيلم عن الفرقة نفسها وليس عن مطربها الأشهر فريدي ميركوري. ﻻ مفاجآت على الإطلاق، وﻻ دراما حقيقية، هو فقط يستعرض محطات الفرقة من خلال أهم أغنياتها وأشهر حفلاتها.

بالعودة إلى تعليق مارك زوكربرج، ربما لم يتناول الفيلم القصة الحقيقية لإنشاء «فيس بوك»، ولكنه خلق قصته الخاصة، وضمنه صناعه (المخرج ديفيد فينشر، والسيناريست آرون سوركن) أفكارهم ومشاعرهم ورؤيتهم الخاصة للعلاقات الإنسانية، واعتمدت سردية الفيلم بالأساس على قصة الصديقين، ومن هنا جاء عنوان الفيلم «الشبكة الاجتماعية» وليس «فيس بوك»، أو «مارك زوكربرج».

فيلم A Private War هو أحد أجمل أفلام 2018، وهو أيضا فيلم سيرة ذاتية عن المراسلة الحربية الأمريكية ماري كولفين. في مقابلة صحفية يقول مخرجه ماثيو هاينمان:

من السهل على الفرد أن يبقى نفسه على مسافة آمنة من هذه الصراعات، من السهل أﻻ ينخرط في متابعتها أو في الاهتمام بها. لقد حاولت في أفلامي التسجيلية أن أقترب من هذه القضايا، وحاولت أن أضفي على تناولها بعدا إنسانيا في محاولة لخلق حالة من التعاطف التي تدفع المشاهدين للاهتمام بشكل شخصي بمثل هذه القضايا، وهذا ما كانت تفعله ماري كولفين لأكثر من عقدين من عمرها في أكثر البقع خطورة في العالم.

المخرج الأمريكي ماثيو هاينمان

هنا يبدو بوضوح الاختيار الفني لهاينمان، فهو ﻻ يحكي حكاية ماري كولفين، المراسلة الحربية الشهيرة التي ﻻقت مصرعها أثناء تغطية الحرب السورية في عام 2012، ولكنه اختار أن تكون سردية فيلمه محاولة للاقتراب من هذه البقعة الخطرة، أو على حد قوله: «محاولة لفهم الأسباب التي قد تدفع أحدهم للذهاب إلى هذه الأماكن، وفهم التأثير الذي تتركه هذه الأماكن عليه نفسيًا وعقليًا».

العديد من الكتابات النقدية وصفت فيلم «Bohemian Rhapsody» بأنه محاولة لتقديم صورة مزخرفة ومجملة للفرقة البريطانية، والكثير منها أشار بوضوح إلى تأثير مشاركة عضوي الفرقة Brian May، وRoger Taylor في إنتاج الفيلم، على الاختيارات الفنية وخاصة في مرحلة كتابة السيناريو. العديد من الأعمال السينمائية التي تتناول شخصيات معاصرة قد تتعرض للأزمة نفسها، ولكن يبقى الإخلاص للهدف الفني هو المعيار الوحيد لتقدير القيمة الفنية.

في مثال مناقض تمامًا، قامت عائلة عازف البيانو الأمريكي دونالد شيرلي،برفع دعوى قضائية على صناع فيلم «Green Book»، الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم في عام 2018، لتزييفه بعض الحقائق الخاصة بعلاقة شيرلي بسائقه توني ليب كما وردت في الفيلم. على الأغلب لن تسفر هذه الدعوى على أي شيء، ولكنها مثال جيد للإشارة إلى حرية العمل الفني في تناول الواقع، وكيف أن هذا التناول يقوم بالأساس على الرؤية الذاتية لصناع العمل، وليس على مطابقة الواقع.


التمثيل

في العام الماضي فاز الممثل البريطاني جاري أولدمان بجائزة الأوسكار كأفضل ممثل عن أدائه لشخصية رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل في فيلم «Darkest Hour»، وهذا العام فاز بالجائزة الممثل الأمريكي المصري رامي مالك عن أدائه لشخصية فريدي ميركوري في فيلم «Bohemian Rhapsody». وبقليل من البحث ستجد عزيزي القارئ أن جائزة الأوسكار لا تخلو في كل عام من أكثر من ترشيح لجائزة التمثيل عن أدوار لشخصيات حقيقية في أفلام السيرة الذاتية.

بالطبع هناك جاذبية خاصة للشخصيات الحقيقية، للممثلين والمشاهدين على السواء، إذ يتعاظم دور عنصر التمثيل في أفلام السير الشخصية، ولكن إذا كان الهدف المباشر والبسيط في هذا هو المقاربة بين الممثل والشخصية، إﻻ أن الهدف الأعمق يرتبط بعلاقة التمثيل بفن السينما ككل، فأيًا ما كان نوع الفيلم، فعنصر التمثيل يحمل الكثير من عبء إقناع المشاهد بحقيقة المشاعر المؤداة على الشاشة، وتماهيه مع الأبطال الذين تروى حكاياتهم، سواء كان الفيلم مأخوذًا عن قصة حقيقية أم لا.

يعتمد الأداء التمثيلي في أفلام السير الشخصية على شقين أساسيين، أولهما، هو النص السينمائي الجيد، وثانيهما، هو المقاربة الشكلية للشخصية الحقيقية من خلال المكياج.

فاز رامي مالك بجائزة الأوسكار في فئة أفضل ممثل في دور رئيس هذا العام، في منافسة قوية مع 3 ممثلين أدوا أدوارًا في أفلام سيرة شخصية أيضًا هم: كريستيان بيل عن فيلم «Vice»، وفيجو مورتنسن عن فيلم «Green Book»، وويليام ديفوي عن فيلم «At Eternity’s Gate». قدم رامي مالك أداء جيدًا ومختلفًا عن أدواره القليلة السابقة، غير أن كاتب المقال يرى أنهم جميعًا قدموا أداء أفضل منه، والسبب المباشر في ذلك هو التفاوت العظيم بين النص السينمائي لفيلم Bohemian Rhapsody، والنصوص السينمائية للأفلام الثلاثة.

كما أسلفنا، فإن النص السينمائي لفيلم Bohemian Rhapsody لم يخرج بالشكل الأمثل، بل إنه كان أضعف النصوص السينمائية المرشحة للجائزة هذا العام، إذ يخلو من الدراما الحقيقية، ويفتقر بشكل واضح إلى مقومات رسم الشخصيات، ولم يعدُ أن يكون مجرد نص لأحد الكليبات المصورة لإحدى الفرق الغنائية، ﻻ نصًا سينمائيًا حقيقيًا.

في المقابلة الصحفية ذاتها يقول ماثيو هاينمان مخرج فيلم «A Private War»، والذي للمفارقة الساخرة لم يرشح لأي من جوائز الأوسكار، إنه قضى أكثر من عام في المجهود البحثي، وفي محاولة كسب ثقة زملاء كولفين وأصدقائها، وهو ليس بالأمر المستغرب على مخرج أفلام تسجيلية بالأساس، لكن اللافت للانتباه هنا هو تصريح هاينمان بأن بطلة الفيلم، الممثلة البريطانية روزاموند بايك، شاركت بنفسها في هذا المجهود البحثي، وانخرطت في الكثير من التدريبات الشاقة لشهور طويلة على مستوى الصوت ولغة الجسد، لتقدم في النهاية واحداً من أفضل الأداءات التمثيلية في السنوات الأخيرة، والذي -للمفارقة الساخرة أيضًا- لم ترشح عنه للأوسكار.

في خطاب استلامهم لجائزة الأوسكار عن أفضل مكياج وتصفيف شعر، أشار فريق المكياج بفيلم «Darkest Hour» إلى الممثل جاري أولدمان الجالس قبالتهم وشكروه على أدائه المميز والذي لولاه لما فازوا بتلك الجائزة. تكرر الأمر بشكل يبدو مطابقًا في خطاب استلام الجائزة نفسها هذا العام، إذ أشار الفريق الفائز عن فيلم «Vice» إلى بطل الفيلم كريستيان بيل وشكروه على أدائه الذي مهد طريقهم للفوز بالجائزة. بنهاية الحفل الأول خرج أولدمان حاملًا تمثال الذهب، بينما في الحفل الأخير خسر بيل لصالح مالك.

كان على كريستيان بيل اكتساب الكثير من الوزن للتقرب من المواصفات الشكلية لنائب الرئيسي الأمريكي الأسبق ديك تشيني، وهو ما بالغ رواد مواقع التواصل الاجتماعي في التركيز عليه لدى مناقشتهم لأداء بيل، غير أن الأمر يتجاوز هذه المقاربة الشكلية إلى الأداء المتقن للممثل الأمريكي والذي اعتمد بالأساس على الكثير من التحضير من قبله، وعلى النص المتقن للمخرج والكاتب الأمريكي آدم ميكاي.

السينما هي أحد فنون الحكي الذي تختلف أدواته عن غيره من الفنون المشابهة، كما تختلف مصادر اقتباسه لهذه القصص التي يحكيها، لكنه في كل الأحوال يستمد خصوصيته الفنية من رؤية صناعه الذاتية لهذه القصص، وأسلوب سردهم لها، ﻻ من مطابقته للواقع المقتبس عنه.