في تحقيقٍ وثائقي صحفيٍ شيق، وعبر سردٍ أدبيٍ محكم، يرصد الكاتب الصحفي «محمد شُعير» حكاية رواية «أولاد حارتنا» منذ كانت فكرة في رأس صاحبها، الروائي الكبير «نجيب محفوظ»، وحتى قامت الدنيا عليه أثناء نشرها، وما تبع ذلك من حصوله على جائزة نوبل، وما تلا ذلك من محاولة اغتياله حتى وفاته، يرحمه الله.

يعكس لنا هذه الكتاب وتلك الدراسة الصحفية الوثائقية المهمة كيف تشكّل الوعي بدايةً عند «نجيب محفوظ» ومجايليه، وكيف أثّر المجتمع بكل طوائفه من صحفيين وقراء حتى السياسيين والمشايخ في تلقي العمل الأدبي، وكيف تعاملوا معه ومع صاحبه، وكيف تطوَّر الأمر وتحوّل من إشادةٍ واحتفاء إلى حربٍ شعواء وهجوم حاد، بقيت آثاره حتى يومنا هذا.

بل توضح من جهة أخرى كيف يمكن لرواية أدبية صاغها الكاتب من خلال ثقافته وفلسفته الخاصة، وأراد أن يعبِّر بها عن موقفه من الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة في مجتمعه، كيف يمكن أن تتحوّل هذه الرواية إلى سلاحٍ في يد أعدائه وخصومه رغم مكانته الأدبية المرموقة التي شهد له بها الجميع.


بين التأويل الديني والسياسي

يرصد «شُعير» في كتابه الأزمة التي تعرّض لها «نجيب محفوظ» وروايته منذ بدايتها، ويحرص على توثيق كل خطوة قادت الرواية وصاحبها إلى الاتهام بالكفر والإلحاد، وأدت في النهاية إلى منع نشرها وتداولها في مصر حتى نُشرت في طبعة خاصة عن دار الآداب بعد كتابتها بسنوات. والمهم في ذلك الرصد أنه يوضّح بجلاء أن الموقف من رواية «محفوظ» لم يقتصر على شيوخ الأزهر فحسب، بل كانت بدايته مع عدد من الكتّاب والمثقفين، وانتقل إلى مسئولين وسياسيين في الدولة، حتى انتهى الأمر بمنع النشر والتداول.

كما يتوقّف «شعير» عند أسباب ذلك الموقف ليتناول تأويل الرواية، وهل كان قصد «نجيب محفوظ» منها ذلك التأويل الديني الذي انتشر بين الناس فحسب، أم أنه كان يقصد أمرًا آخر وراء كتابة هذه الرواية، ويذهب في ذلك إلى استعراض أفكار روايات «محفوظ» بشكل عام ثم توقيت كتابة «أولاد حارتنا» عام 1959 بعد فترة توقف، وبعد أن استقر الأمر لقادة ثورة يوليو 1952، وكيف أنه كان يريد أن يعبّر عن موقفه من حكمهم وسياستهم بشكل رمزي أوسع من النقد المباشر، ويصرّح في حوارٍ معه في جريدة القبس الكويتية بعد كتابة الرواية بأكثرمن 10 سنوات:

بدأت أشعر أن الثورة التي أعطتني الراحة والهدوء بدأت تنحرف وتظهر عيوبها، بدأت تناقضات كثيرة تهز النفس، بدأت أشعر أن هناك عيوبًا وأخطاء تهز نفسي، خاصةً من خلال عمليات الإرهاب والتعذيب والسجن، ومن هنا بدأت كتابة روايتي الكبيرة “أولاد حارتنا” والتي تصوّر الصراع بين الأنبياء والفتوات، كنت أسأل رجال الثورة: هل تريدون السير في طريق الأنبياء أم الفتوات؟

هكذا بدا للجميع بعد نشر الرواية أنهم اختاروا «طريق الفتوات» ليسوا وحدهم، بل إن كل طائفة وفئة من المجتمع تريد أن تفرض رأيها ووصايتها على العمل الأدبي بمنطق «الفتوة» ذاته، دون إعمال لعقلٍ أو منطق، وأن هناك قطاعًا عريضًا ومتباينًا من الشعب المصري يحب ويركن إلى هذا النوع من التفكير والحكم وفرض السيطرة بالقوة، لا من خلال إعمال العقل والعلم الذي هو أساسٌ لبناء أي حضارة لأي دولة حديثة.


العرب وجائزة نوبل

رغم مضي أكثر من ثلاثين عامًا على كتابة «أولاد حارتنا» ونشرها في «الأهرام»، فإن الرواية بقيت حاضرة في الأذهان حتى عندما حصل على جائزة نوبل 1988، ولأنه الأديب العربي الوحيد الحائز على جائزة نوبل في الآداب، كان لزامًا على «محمد شُعير» أن يخصص فصلاً في الكتاب عن طريق «محفوظ» إلى هذه الجائزة، وعلاقة الأدباء بل الرؤساء العرب بهذه الجائزة، ومن رشحوهم لنيل هذه الجائزة مصريًا وعربيًا، حتى استقر بها المقام بين يدي صاحب «أولاد حارتنا» وكيف كان حصوله عليها أيضًا مثارًا للكثير من اللغط بعد ذلك من خصومه وأعدائه لاسيما «الإسلاميين» الذين لا يزالون يرون أنه إنما حصل عليها لأنه تجرأ على الذات الإلهية والأنبياء!

إنني سعيدٌ لأني كسرت القاعدة .. القاعدة التي تقتضي بأن الحصول على أي شيءٍ الآن إنما يقتضي مسلكًا خاصًا يقوم على قاعدةٍ انتهازيّة، وعلاقات عامة، واتصلات دائمة، بهنا وهناك، أنا لا أقول إني وضعت قاعدةً جديدة، أقول فقط إنني كسرت القاعدة السائدة، وقدّمت درسًا لكل الجادّين والمجتهدين: إن الانصراف إلى العمل والعكوف عليه يمكن أن يؤدي.. حتى إلى جائزة نوبل.
نجيب محفوظ ـ نقلاً عن فاروق عبد القادر «في الرواية العربية»

كان من المفيد أن يتعرّف القارئ على كواليس الحصول على جائزة نوبل وكيف كان ترشيح «محفوظ» لها عربيًا وعالميًا، وكيف أن «محفوظ» نفسه لم يكن يفكِّر بها أبدًا، بل يرى الاهتمام العربي بها أمرًا مهينًا لمكانة الأدب العربي الذي يراه يمكن أن يصل إلى العالمية بدون تلك الجائزة، كما أضاف عددًا من المعلومات المهمة، منها أن «يوسف إدريس» و«توفيق الحكيم» كانا مرشحين رسميًا لنيل الجائزة، ولكن جائزة نوبل لا تأخذ بالترشيحات الرسمية تلك، وأن ترشيح «محفوظ» الذي أوصله للجائزة جاء من أكثر من جهة عربية ومصرية وعالمية، بعد دراسة واستقصاء لكتابته وأثرها في العالم العربي بصفة عامة.


محاولة الاغتيال: المصيبة الكبرى

لم يقتصر الأمر على المنع والمصادرة مع نجيب محفوظ كما نعلم جميعًا، بل وصل الأمر إلى ذروته القاسية، فقد كانت حادثة محاولة اغتياله هي الحادثة المأساوية والمزلزلة للوسط الأدبي بكل أطيافه، لا سيما أن ذلك التصرف جاء بناءً على فتوى من أحد المشايخ، وتم على يد شابٍ لم يقرأ حرفًا مما كتبه «محفوظ»، وبذلك كانت تلك الحادثة تهديدًا صريحًا وصارخًا للإبداع والمبدعين يتطلب وقفة خاصة ودراسة لذلك المجتمع الذي يقمع الإبداع وينتج قتلة.

يكشف «شعير» في فصلٍ خاص عن خلفيات علاقة «محفوظ» بالجماعات الإسلامية وصراعاته معهم قبيل حادثة محاولة اغتياله، وكيف كانوا يترصدون أي رواية له ويتهمونه بالكفر ونشر الإلحاد، كما يذكر أنه في نفس التوقيت تقريبًا كان مناخ الإرهاب والتهديد بقتل المفكرين قد انتشر في مصر، لا سيما بعد حادثة اغتيال «فرج فودة» عام 1992 بعد مناظرته الشهيرة مع الشيخ «الغزالي»، كما كان «نصر أبو زيد» يواجه محاكمة على أبحاثه العلمية عن الإمام الشافعي التي رأى البعض أن فيها تطاولًا على الدين الإسلامي، بل أقيمت ضده دعوى قضائية باعتباره مرتدًا ويجب التفريق بينه وبين زوجته، في الوقت الذي أقام فيه عدد من المواطنين استجوابات لعدد من الإصدارات الأدبية المنشورة في ذلك الوقت باعتبارها إصدارات جنسية غير لائقة.

والمفاجأة أنه بعد نجاة «محفوظ» من محاولة الاغتيال تلك يفاجأ بأنه متهم ومطلوب في قضيةٍ تتهمه بازدراء الأديان، وتطالب بحبسه والتفريق بينه وبين زوجته قياسًا على ما حدث مع «نصر أبو زيد»، ولكن حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى.

يضع «شُعير» في آخر الكتاب أيضًا عددًا من الوثائق المهمة الخاصة بالرواية وأحداثها، تتضمّن مقالات لنجيب محفوظ يتناول فيها علاقته بالأدب والكتابة الروائية ورؤيته لمستقبل الرواية، كما يتضمن تقارير «مجمع البحوث الإسلامية» حول الرواية، والذي قضى على الراية بمنع نشرها وتداولها، ونص التحقيق مع نجيب محفوظ بعد محاولة اغتياله واعترافات المتهم.


القافلة تسير والكلاب تعرقل الخطى

وسط هذه الأجواء جاءت الطعنة التي بدت مفاجئة للمثقفين، رغم عشرات الدلائل التي سبقتها، خاصة أن محفوظ رفض تخصيص حارس شخصي له.. نجحت الشرطة في القبض على المجموعة المكلّفة بارتكاب هذه الجريمة، وتبيّن أنهم ينتمون للجناح العسكري في الجماعة الإسلامية.. وقال المتهم إنهم لم يقرءوا الرواية، ولكن تكليفًا صدر بقتل مؤلفها بعد قيام الجماعة باغتيال فرج فودة، وأضاف أنه ليس نادمًا على ما فعل.

لا شك أن كتابًا كهذا سيستثير لدى القارئ المصري والعربي الكثير من الشجون، خاصة مع عددٍ لا بأس به من الروايات العربية التي حملت تلك الصفة أيضًا «الرواية المحرمّة»، وأقام الناس الدنيا من أجلها وطالبوا بمنعها ومصادرتها وذهبت بأصحابها إلى غياهب السجون تارة، أو إلى مصادرة إبداعهم ومنع نشر أعمالهم على أقصى تقدير.

فليس بعيدًا ما دار حول رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري «حيدر حيدر» حينما صدرت في طبعة مصرية حكومية عام 2000 وثارت ضجة كبيرة بين المثقفين وممثلي التيار الإسلامي والأزهر أدت إلى مصادرة الرواية ومنع تداولها، ولم تمض سنوات حتى فوجئنا أيضًا بمن يرفع قضية على الروائي «أحمد ناجي» بسبب فصول من روايته «استخدام الحياة» عام 2014 متهمًا الرواية والكاتب بخدش الحياء العام، تلك القضية التي كانت نتيجتها حبس الكاتب بهذه التهم لمدة ثلاث سنوات!

اقرأ أيضًا: قراءة في رواية أحمد ناجي الخادشة للحياء!

هذه الروايات وهذه المحاكمات وغيرها الكثير مما يشعر الكاتب والمبدع العربي أنه إزاء مجتمع لم يعِ بعد الفرق بين الإبداع والممارسات الشخصية، بل يبقى للمجتمع والرقيب دور كبير في توجيه مناخ الإبداع وفقًا لما يهواه، مما يعرقل حرية المبدع بوضع هذه العقبات أمامه والعديد من الخطوط الحمراء التي يجب عليه ألا يتجاوزها حتى لا يُعرض نفسه وحياته وإبداعه لخطر المصادرة نفسيًا ومعنويًا، وأن ما كان يحدث في مصر من نصف قرن لا يزال يحدث حتى الآن مثله وأكثر، وكأن المجتمع لا يتطوّر ولا ينمو، بل لا يزال يتعامل بنفس الطريقة القديمة فيعتقد أن كل نصٍ إبداعي هو منشور سياسي أو ديني يهدد استقرار المجتمع وأمنه.

هكذا يمثِّل هذا الكتاب ليس فقط تأريخًا لحكاية وسيرة «أولاد حارتنا»، بل حكاية المجتمع والشعب المصري والعربي بسلطاته المختلفة وموقفهم من الإبداع والحرية، وكيف يتعامل مع تلك القضايا وكيف يمكن أن يكون بجرة قلم أو بخطابِ عابر إلى مسئول حجرة عثرة في طريق أي إبداع حر حقيقي وفعال!