تبدو صورة الواقع الراهن الأكثر سوادًا وبؤسًا في كثيرٍ من الأعمال الأدبية والروائية التي تسعى للرصد والتحليل، ويبدو الخروج عن هذا النمط السائد والخط العريض أمرًا غريبًا غير معهود، ولكن أن يجمع العمل الأدبي الواحد بين تصوير قيود الحياة وما فيها من أزمات ومشكلات ومحاولات التحليق والخروج بعيدًا إلى حيث الأمل الموجود مهما كان بعيدًا، يبدو ذلك الجمع أمرًا غريبًا ونادرًا، ولكنه يحمل في الوقت نفسه صفة التفرد.

في  مجموعته القصصية القصيرة «طير بلا أجنحة» يقدّم الكاتب والمترجم عبدالرحمن أبو ذكري عددًا من القصص التي تجمع بين هاتين الفكرتين ببساطة، إذ ينقلنا من القصة الأولى وعالمها الذي يبدو واعدًا ومرفهًا في «من جنس العمل» إلى حالة ذلك الفتى المترف الذي مات والده ووجد نفسه أمام حياة وواقع لم يكن مؤهلاً للعيش فيه، وبين رصد عيوب ومثالب المجتمعات التي تدعي التمدن والحضارة فيما هم غارقون في الرذيلة حتى آذانهم في قصة «هموم وطنية» إلى المزج بين الواقع والفانتازيا ونقد المجتمع في قصة «الفرعون الرحيم».

تنبهت حواسي لذلك الصدى الصوتي المقبض الذي اجتاحني فجأة قادمًا من قلب الميدان، كأنه انبثق من اللاشيء.. فرحت أحث الخطى إلى المكان الذي كان الفرعون قابعًا فيه منذ خمسة عقود، يحدوني فضولي القاهر بعد ما حال الضباب الكثيف حول تبيني الصورة.. معالم الصوت تتضح شيئًا فشيئًا، فتتباطأ خطاي في وجلٍ لم أتبيّن مبعثه. تنسجم في ذهني حركات الظل المريع مع نبرات الصوت الملتاث «أنا الذي علمتكم العزة والكرامة». يقتلع فؤادي دوي فرقعة رهبل على خلفية الصوت الزاعق، لكأنه سوطٌ عملاقٌ يجلد الهواء.. أتسمّر لحظات وتأبى قدماي إلا عصياني.
قصة «الفرعون الرحيم» من مجموعة «طير بلا أجنحة»

وعلى عادة المجموعات القصصية ينقلنا الكاتب في كل قصة وحكاية وموقف إلى عالم مغاير ومختلف، ويبدو حرصه واضحًا على التنويع، وإن بقي واضحًا من القصص في أغلبها حرص الكاتب على نقد عدد من المظاهر الاجتماعية السلبية، وذلك من خلال الإشارة العابرة دون مباشرة فجة أو خطابية زاعقة.

يظهر ذلك بوضوح في عدد من قصص المجموعة خاصة «كاثرين» و«الحلم» وغيرهما، كما يبدو بوضوح جمعه بين الهم الخاص الذي ربما يشترك فيه مع كل قارئ، خاصة فيما يتعلق بأحلام الزواج ومحاولة السعي لشريكة الحياة، والهموم العامة المتعلقة بالمجتمع بشكلٍ عام.

كما نجد في قصة «المظلوم» مثلاً التي يتحدث فيها على لسان الشيطان، وينتقل بنا نقلة مختلفة ومغايرة تمامًا في قصة «احتلال» التي يمزج فيها الخاص بالعام، ويعرض سيرة وحياة أحد الشيوخ السوريين وموقفه من السلطة والحكم وكيف يعامل أهل بيته، وكيف يكون ذلك في النهاية وبالاً عليه.    

 وعلى الرغم من كون المجموعة القصصيّة قصيرة، بل ربما تكون أقصر مجموعة قصصية سيقرؤها القارئ إذ تحوي 10 قصص قصيرة في أقل من 50 صفحة، فإن الكاتب يبدو مهتمًا بالتأصيل النظري لقصصه وللكتابة الأدبية من وجهة نظره بشكل عام، لذا فهو يضع تذييلًا من 20 صفحة يتحدث فيه عن الصدق الفني في تناول العالم، وكيفية بناء الشكل والتفاصيل الخاصة في القصة، وما يأتي بعد البناء والتفاصيل من المعنى العام الذي تكون القصة كلها قد بنيت من أجل بيانه أو توضيحه.

إن الكتابة المنبثقة من شعورٍ حي وموهبةٍ حقيقية تجعل الأسلوب أكثر تفردًا، إنها بوتقة العناصر الشكلية التي أسلفناها. فإذا صبّ الأديب ذاته في عمله كليًا خلال العملية الفنية ظهرت شخصيته بوضوحٍ بين السطور، خصوصًا حين يتحدث عن العواطف والمشاعر الجوانية (كالعشق والبغضاء والوفاء والخيانة، والاطمئنان والخوف) وكانت كلُّ عبارة يخطها جزءًا لا يتجزأ من الوحدة العضوية للعمل الفني، ليُكتب ما يتعجب من نسبته إلى نفسه المثقلة. 
طير بلا أجنحة

ينقلنا الكاتب ومن خلال لقطات سريعة موجزة من القراءة البسيطة العابرة للقصص القصيرة التي كتبها، إلى حالةٍ أخرى يشتبك فيها مع القارئ ويسعى لإضافة معلوماتٍ هامة في التلقي، وتوسيع مداركه ومعلوماته حتى لا تكون قراءته هذه المجموعة أو غيرها فيما بعد قراءة عابرة، بل يتوقف عند طريقة الكتابة والبناء وتفاصيلها من حبكة وأسلوب سرد وشخصيات، ثم تجربة التفسير والتأويل التي يدفع القارئ لها ويحثه عليها انتهاءٍ بالأسباب والدوافع التي قادته لكتابة هذه القصص دون سواها.

إن قصصي الصغرى ليست مكتفية بذاتها، مات مؤلفها فلسفيًا لتتناثر في الفضاء كشظية، يتخطفها الطير أو تهوي بها الريح في مكانٍ سحيق، لكنّها نصوصُ تاريخيةّ  مفتوحة حمّالة أوجه، ويجب الغوص فيها وبذل الجهد لإدراك بعض ما قصدته بين السطور، وفي طيات البناء الدرامي، ومن خلال اللغة المجازية، ومهما بذل القارئ المتفحص أو الناقد المحنك من جهد فستظل نتائجه دائمًا مجرد احتمالات بعيدة تمامًا عن اليقين، لأنه ليس أنا، وهذه هي رحابة الأدب. إن هذه القصص تشير حتمًا إلى شيءٍ خارجها، إلى ربها أو إلى قصة كبرى ما .. أو إليهما معًا.  

هكذا استطاع الكاتب عبدالرحمن أبوذكري أن يقدّم للقارئ مجموعة قصصيّة تجمع بين عدد من الأفكار الإبداعية المختلفة من جهة، كما جمع فيها بين العمل الفني والتأصيل النظري الذي حرص على إدراجه في نفس الكتاب، وأن يقود القارئ من خلاله إلى طريقة مختلفة في المعرفة والتلقي. 

عبدالرحمن أبوذكري أديب ومفكر ومترجم مصري، تخرج في كلية الآداب، له العديد من المقالات والأوراق البحثية التي تصب في استعادة مركزية الوحي الإلهي وتجديد الاجتهاد في الفكر والحركة الإسلاميين، متهم بالنقد الأدبي، صدر له من قبل «أفكار خرج القفص»، كما ترجم كتب «كليم صديقي»، و«نظرية الثورة الإسلامية» وغيرها.