في رد على القس يوهان فريدريش تسولر الذي طرح على الجمهور المثقف سؤالًا عن ماهية التنوير، لم يقم كانط في مقاله الشهير (ما هو التنوير؟) الذي نشرته مجلة برلين الشهرية في عام 1784 بالإجابة على السؤال فحسب، بل وضع – وهو الأهم – إطارًا عامًا للعلاقة بين المثقف والسلطة السياسية.

فالتنوير هو عبارة عن هجر حالة القصور عن استخدام العقل دون تحكم وسيطرة من الآخرين، وهي مفروضة ذاتيًا بسبب الكسل عن بذل الجهد في استخدام العقل والجبن عن تحمل مسؤولية ما يتبع استخدام العقل من نتائج. لذا تصير حالة القصور تلك طبيعة ثانية للمرء ويعجز فعلًا عن استخدام عقله دون تدخل وسيطرة من قبل الآخرين الذين يعرضون بدورهم على الجماهير من حين لآخر العواقب الوخيمة لاستخدام العقل بغية إبقائها في قيود التحكم والسيطرة.

ويرى كانط أن تحقق التنوير سيكون من خلال عملية تاريخية ذات مراحل تدريجية تبدأ بإلقاء بعض العناصر المفكرة لنير السيطرة المفروضة على الجماهير ثم تنتشر روح التقييم العقلاني للقيم والأفكار التي تتغذى على الحرية التي تسمح للفرد باستخدام عقله باستقلال.

ويؤكد الفيلسوف الألماني أن الثورة والقفز على المراحل التاريخية لن يؤدي إلى تحقيق التنوير وإنما استبدال مجموعة من الأحكام المسبقة بأحكام أخرى عن طريق مقايضة طاغية مستبد بآخر أو حكم قمعي متعطش للسلطة والظفر بآخر يستغل الأحكام المسبقة الجديدة في إلجام العوام وتقييد الدهماء، وبذلك لا يمكن أن تنمو روح التفكير العقلاني.

ولكن تكمن المشكلة هنا أن الحرية – التي يفترضها التنوير باعتباره عملية تاريخية كشرط ضروري لتحققه – تتعارض مع الأوضاع السياسية والفكرية القائمة آنذاك، ومن أجل ذلك سيقترح كانط الدخول فيما سوف يسميه فوكو عقدًا اجتماعيًا مع الاستبداد من خلال التفرقة بين الاستخدام العام والخاص للعقل. فيمكن أن يكون الاستخدام الخاص للعقل مقيدًا، وذلك حينما يتصرف المرء باعتباره جزءًا من الآلة الحكومية أو الكيان الجمعي الذي يكون نشاطه فيه متعلقًا بالمصلحة العامة، دون أن يضر ذلك بالتطور التاريخي للتنوير.

أما الاستخدام العام للعقل، حينما يتصرف المرء باعتباره عالمًا متوجهًا بفكره إلى جمهور القراء، فلا ينبغي أن توضع عليه قيود. ووفقًا لتلك التفرقة يصير على ضابط الجيش أن ينفذ الأوامر التي يتلقاها من رؤسائه بمنتهى الدقة، دون أن ينتقص ذلك من حقه حين يتوجه إلى عالم القراء في أن يكتب كتابًا ينتقد فيه الإستراتيجية العسكرية لذات الجيش الذي يعمل فيه ضابطًا.

لقد كان فيلسوفنا الألماني يدبج سطور مقاله وأصداء قعقعة الثورة الفرنسية والتنوير الفرنسي تشكل موسيقى الخلفية لمشهد التنوير الألماني بطابعه المحافظ، وفي الوقت ذاته كان التنوير الألماني ما زال يتحسس نفسه ويلتذُّ باستشراف آفاق مستقبل العلم السعيد، قبل أن يسقط في غيابات اليأس ويحاول أن يتلمس على يد ماكس فيبر سبل الخروج من أحلام التنوير ذاته (العلم كسبيل للطبيعة الحقيقية)، (العلم كسبيل للفن الحقيقي)، (العلم كسبيل للوجود الحقيقي)، (العلم كسبيل للإله الحقيقي)، (العلم كسبيل للسعادة)؛ تلك الأحلام التي حولتها العقلانية بلغة فيبر أو التنوير بلغة كانط من خلال آليتها الشهيرة لإزالة الغلالة السحرية عن العالم (Entzauberung der Welt) إلى أوهام، مجرد أوهام للعقل.

بعد أكثر من قرن من الزمان كان الشيخ محمد عبده هو الآخر يدبج سطور مقاله (الحق المر) متحدثًا فيه عن الاحتلال الأجنبي بسبب ما دار حوله من نقاش بين أرباب القلم في الصحف المصرية. هذا المقال إذا ما قمنا بقراءته في ضوء الإطار التاريخي والسياسي للتنوير عند كانط لتبدت لنا فيه ملامح نهج للمثقف في التعامل مع السلطة السياسية عند الأستاذ الإمام، أخذًا في الاعتبار الاختلاف الزماني والمكاني اللذين سيلقيان بظلالهما على المشروع التنويري لمحمد عبده، وكذلك على الإستراتيجية السياسية القابعة في عمقه.

رغم الاختلاف بين مؤرخي أعمال محمد عبده حول تاريخ كتابة المقال، إلا أن ما لا خلاف فيه أن المقال ذاته – كما سيبين للقارئ – يمثل نقطة افتراق بين مشروع عبده الإصلاحي وخط الأفغاني الثوري. وربما سيدهش القارئ من وجود إدراك واضح واستيعاب كامل لدى الأستاذ الإمام لمسألة التنوير وتحققها التاريخي كعملية ذات مراحل فضلًا عن حس عميق بأثر اختلاف المرجعية الثقافية والوضعية السياسية للسياقين الغربي والإسلامي.

تكشف المقارنة التي يعقدها عبده بين الشرق والغرب النقاب عن فهمه لكُنْه التنوير وتحققه في أرض الواقع، حيث يبدأ باعتبار الحرية شرطًا أساسيًا لتحقق إنسانية الإنسان ودونها يصبح «في درجة ساقطة عن درجة الإنسانية والحيوانية أيضًا»، مما سيؤدي إلى امتلاء صفحات التاريخ بسير الشهداء الذين أبوا إلا أن يعيشوا أحرارًا بين قوم أحرار، وإلى تأصل فكرة الحرية في كثير من أفراد الأمم في مختلف العصور.

ولأن عبده كان يكتب في عصر وصل فيه التنوير – كفلسفة وكعملية تاريخية – إلى أوج بريقه ولمعانه، وتحول إلى نموذج أعلى يُقاس عليه؛ فسيفسر ما وصلت إليه الأمم الغربية من رقي وتمدن كنتيجة لعملية تاريخية بدأت بالتصارع الروحي والفكري مع جيوش الظلمة ثم تدرعت بتهذيب الأخلاق وإنتاج المعارف ثم سعت إلى الاتحاد والتآلف والاتفاق وانتهت بوضع نظم وقوانين وقفت بالمرصاد لعبث الرؤساء والحكام، بل ومحت «ما تركب في النفس من حب الاستبداد والاستئثار».

كان هناك اعتقاد مشترك بين كل من كانط وعبده أن التنوير كنقلة نوعية في تاريخ البشرية من حيث انتشار روح التفكير العقلاني قد أظلنا عصره، ولكن بينما كان كانط مدركًا أنه لا يعيش في عصر اكتمل تنويره بل ما زال يحتاج إلى المزيد من التنوير، كان عبده يظن أنه يعيش في عصر اكتمل التنوير فيه في الغرب وليس على الشرق سوى أن يلحق به أو أن يتخلف عن ركب الإنسانية. فلم يكن هناك أدل على استواء التنوير على سوقه من غلبته التاريخية وظهور دوله على كافة البلدان والأصقاع وعلى وجه الخصوص الإسلامية منها.

كانت أصداء قعقعة الثورة العرابية موسيقى الخلفية للسياق التاريخي الذي كتب فيه الأستاذ الإمام مقاله، وهي أيضًا التي بدلت موقفه عن خط الأفغاني، من الثورة إلى الإصلاح والتربية كسبيل لتحقيق التنوير. فيذكر محمد عبده عن الثورة التي شارك فيها كأحد رجالاتها وخبر أهوالها واكتوى بنتائجها، ولم يتابع أحداثها من غرفة مكتبه ككانط، أنها «لم تكن من الثورات المرتبة على طلب الحرية وتنظيم الحكومة، وإنما دفع إليها أربابها اندفاعًا على غير استعداد… وساروا في طريقهم تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، لا يعلمون لهم مبدأ يحاولون تأييده، ولا ترتيبًا هم عازمون على حصوله، ولا شكلًا للحكومة التي يريدون إقامتها على أنفسهم».

ففي بعض الأحيان يطلبون تغيير الوالي، وأحيانًا أخرى ينادون بجمهورية تحكمها طبقة العسكر، وأحيانًا ثالثة يطالبون بحكومة مقيدة، وأحيانًا يجعلونها ولاية عثمانية. «فلم يكن لهم رأي ثابت ولا مقصد معين بل كانت أعمالهم وأفكارهم بنت الساعة والدقيقة». فلا غرابة إذن أن تنتهي أحداث الثورة تلك النهاية البائسة التي أدخلت البلاد في ربقة الكولونيالية البريطانية لثمانين عامًا، ولا غرابة أيضًا أن يتحول الأستاذ الإمام عن موقفه المؤيد للثورة المتحمس لها اتباعا لتعاليم أستاذه الأفغاني إلى موقف الإصلاح والتربية المناقض لخط الأفغاني. هناك إذن اتفاق بين كانط وعبده على منهاج التنوير فهو الإصلاح والتربية على مهل لا الثورة والانقلاب على عجل.

بيد أن اختلاف المرجعية الثقافية والتاريخية عند كل منهما سينعكس لا محالة على تشخيصهما للخصوم السياسيين والفكريين الذين يفيدون من ظلام الجهل ويتضررون من نور العقل، وهو ما سيجعل كل واحد منهما يضع يده مع طرف آخر – في العقد الاجتماعي الذي سيعقده كل منهما – غير الذي يضع صاحبه يده في يده.

فلقد كان كانط يتحدث عن التنوير في مواجهة استبداد الكنيسة التي يفرض رجالها وصايتهم من خلال الدوجما المسيحية على الجماهير ويحرمونها من حرية استخدام العقل حتى صارت تلك الجماهير عاجزة بالفعل لا بالطبيعة عن التفكير؛ لذا أدان كانط سلطة أوصياء الكنيسة لأنها ترتكب جريمة ضد الطبيعة البشرية بإعاقتها عن الوصول إلى التقدم والتطور الذي هو مصيرها وغايتها.

ومن أجل ذات السبب سيضع كانط يده في يد الدولة المطلقة في مواجهة الكنيسة رافعًا شعار «اعقل بمقدار ما تشاء كل ما تشاء، ولكن قدم الطاعة» الذي يستبطن تلك التفرقة بين الاستخدامين العام والخاص للعقل التي سلف ذكرها.

أما محمد عبده فيتحدث عن التنوير في مواجهة الدولة إذ أن «رجال الحكومة والإدارة عبارة عن سلسلة من النهب والتعدي تظلم الحلقة الكبرى منها الحلقة الصغرى بالتدرج، وهكذا إلى أن تصل إلى الفلاح المسكين» الذي يقع عليه أقصى عسف وأكثر استغلال ثم «ينتقل ذلك (الفائض من السلطة والقيمة) من الحلقة الصغرى إلى الحلقة الكبرى، حتى يصل إلى يد الحاكم القابض على أطراف السلسلة». هذا التسلسل في حلقات الاستبداد والاستغلال الصاعدة والهابطة وكذلك الأفراد الذين يحتلون درجاته ودركاته هم أعداء التنوير من وجهة نظر عبده.

لقد استطاع المثقف التنويري في الغرب أن يوظف ازدواجية السلطتين الدينية والزمنية والصراع المتأجج بينهما في عملية التطور التاريخي المتصوَرة للتنوير والعقلانية من خلال الانحياز التكتيكي لسلطة الملوك المطلقين في مواجهة الكنيسة ودوجماتها بغية تمرير مشروعه التنويري حتى يشتد ساعد العقلانية وتتفشى جرثومة الحرية في المجتمع فيطيح بالسلطتين جميعًا.

بينما لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لنظيره في الشرق؛ فغياب السلطتين في تاريخ الإسلام فضلًا عن تغول جهاز الحكم وإفشائه لتقاليد الاستبداد في جنبات المجتمع وتدجينه للمؤسسة الفقهية الجامعة لأحكام الشرائع لتصير رديف السلطة الزمنية، كل هذا جعل من الدولة في الشرق المكافئ السياسي والتاريخي للكنيسة في الغرب ودورها اللاوظيفي في عملية التطور التاريخي للتنوير.

لذلك لو أن محمد عبده حاول أن يبايع الدولة كشريك في العقد الاجتماعي للاستبداد سيكون كما لو حاول كانط أن يضع يده في يد الكنيسة ورجالاتها من أجل تحقيق التنوير؛ أي ضربًا من ضروب المستحيل للتناقض في الهدف والوجهة والأسلوب.

لكن دخول الاحتلال البريطاني باعتباره ولي الأمر الحقيقي في البلاد كطرف أصيل في المعادلة السياسية سيمد الأستاذ الإمام بالشريك الذي كان ينقصه في العقد الاجتماعي للاستبداد والذي يكافئ الملوك المطلقين في التجربة الأوروبية، والذي سيتمكن من خلال الانحياز التكتيكي إليه من تمرير مشروعه الإصلاحي أملًا في أن يطيح به «بدون أن ينشأ من ذلك ضرر وأن يكون في الوقت المناسب، فإن الأمور مرهونة بأوقاتها».

إذن فكما دخل كانط في عقد اجتماعي مع الاستبداد لدفع مشروعه التنويري للأمام سيدخل محمد عبده في عقد اجتماعي مع الاستعمار لدفع مشروعه الإصلاحي وسيكون ذلك على أساس نفس التفرقة بين الاستخدام العام والخاص للعقل التي وإن لم يصغها بشكل صريح مثلما فعل كانط إلا أنها تبدت في الكثير من مواقفه.

ففي الوقت الذي يتضح تقييده للاستخدام الخاص للعقل في نصيحته لتلميذه محمد رشيد رضا حينما أراد إصدار المنار أن يبتعد عن الكتابة في السياسة فإنها ما دخلت في شيء إلا أفسدته وعاب في ذلك المقام على أستاذه الأفغاني إهداره لطاقاته التي كان يمكن توظيفها في خدمة الإصلاح بالدخول في مؤامرات السياسة بالبلاط العثماني، يتبدى لنا إطلاقه للاستخدام العام للعقل في مشروعاته الإصلاحية للتعليم والقضاء وغيرها من القضايا التي ستشكل أرضية للقاء والتعاون مع الاحتلال بغرض تمرير المشروع التنويري الشرقي والوصول إلى الحرية.

«والبرهان قائم بأننا لم نبلغ درجة الحرية التي نتمتع بها إلا بوجود جيش الاحتلال بيننا. ولولاه لما رضخ حكامنا لإشارة الإنجليز في إجراء الإصلاح المذكور». لكن الأستاذ الإمام يضع شرطًا تحفظيًا في العقد الاجتماعي مع الاستعمار حتى يحول دون تحوله إلى عمالة للمحتل وخيانة للوطن، ألا وهو أن يكون «الجلاء…أول واجب على كل مصري وطني يسعي في الحصول عليه من أبوابه وفي وقته. ولا ينثني عنه إلا كل ساقط النفس في مراتب الاجتماع البشري، بل هو من الأمور الطبيعية أن لا يبل أحد حكومة أجنبي عليه».

لقد كان توظيف الاحتلال الأجنبي من خلال التعاون معه للتغلب على عجزنا وهواننا على أنفسنا في مواجهة الاستبداد الداخلي «بدليل أننا أقمنا نحتمل الهوان والذل ولم نتفاداهما، فضلًا عن أننا كنا مساعدين للظالم على أنفسنا» هو الرهان التاريخ لمدرسة الإصلاح أو الحق المر بلغة الأستاذ الإمام.

ومن الطريف في الأمر أن الشيخ محمد عبده لم يكمل هذا المقال بل جاء في نهايته عبارة «ستأتي البقية» ولم يكتب لهذا المقال أن يكون له بقية لأن المجلة ما لبثت أن أغلقت بعد شهر من ظهور المقال.

لكن البقية قد أتت فعلًا لا كلمًا عندما خرج الاستعمار وخلفته أنظمة أكثر استبدادًا فشلت في كافة المجالات وأعادت الاستعمار مرة أخري واستدار الزمان كهيئته قبل خروج الاستعمار لننتقل بعد فشل الرهان التاريخي لمدرسة الإصلاح من الحق المر إلى الحق الأمر. لكن هذا موضوع آخر يحتاج إلى تفصيل إذا ما قدر الله أن يكون لهذا الحديث هو الآخر أن تكون له بقية.