دائمًا، كانت الشخصيات العظيمة هي أكثر ما يغويني في السينما، ومن بين هذه الشخصيات كنت منجذبًا بشكل استثنائي لتلك الشخصيات التي يذهب بها طموحها نحو الحافة، مثل شخصية إيكاروس الأسطورية، الذي يهوي صريعًا حين يحلق قريبًا جدًا من الشمس، هناك ثمن لابد أن يدفع.
المخرج الأمريكي دارين أرونوفسكي.

هناك في قلب كل فيلم من أفلام دارين أرونوفسكي شخصية يذهب بها الحلم بعيدًا، إلى تلك الحافة الحرجة، تتداعى أجسادهم الهشة تحت ثقل الحلم، مثلما تتصدع عقولهم، بل تغدو أحيانًا الحياة نفسها قربانًا من أجل ملامسة هذا الحلم.

في فيلمه الخامس (black swan)، لدينا شخصية نينا/ ناتالي بورتمان راقصة باليه في أحد باليهات نيويورك المرموقة، يتم اختيارها بعد طول انتظار لتؤدي الدور الرئيسي في معالجة جديدة لرائعة تشايكوفسكي (بحيرة البجع)، يبدو التحدي الأكبر لشخصية نينا المأخوذة تمامًا بهاجس الكمال، أن عليها أن تؤدي بأقصى إتقان وبراعة شخصيتي البجعة البيضاء والسوداء.

تبدو نينا اختيارًا مثاليًا لدور البجعة البيضاء، التي تمثل البراءة، الهشاشة، والعذوبة، بينما يبدو دور البجعة السوداء التي تمثل الغواية الجنسية، أو بشكل أشمل ما هو غريزي، ونهم وعدواني، عصي المنال بالنسبة لها، هي المعلقة في زمن الطفولة ولم تختبر أبدًا مثل هذه المشاعر.

الرقص مع شياطين الداخل

يفتتح أرونوفسكي فيلمة بحلم لنينا مستوحى من باليه بحيرة البجع، حيث ترقص نينا وحدها في دور البجعة البيضاء في دائرة من الضوء وعلى خلفية موسيقى حالمة، تبدأ الموسيقى في التغير لتوحي بخطر قادم، وهنا من أعماق الظلام المحيط بها تتقدم شخصية الساحر الشرير لتشاركها دائرة الضوء، تشاركها رقصتها، يتحول الساحر من هيئته البشرية إلى هيئته الشيطانية، تبدو نينا خلال رقصتها معه مستلبة وضائعة، تحاول الإفلات دون جدوى، يفلتها في النهاية بعد أن ألقى عليها تعويذته الشريرة، ترقص وحدها ثم يحدث إظلام تدريجي لتبتلعها الظلمة.

هذا الحلم يرشدنا أن حلم بطولة باليه بحيرة البجع هو حلم قديم ومتمكن من نينا حتى قبل أن تظهر بوادر تحققه في الواقع، لكن على نحو آخر يحمل هذا الحلم الافتتاحي مجاز الفيلم ككل، أشبه بلقطة تجريدية تحمل في باطنها معنى الحكاية، إنها رقصة نينا مع شياطينها الداخلية، مع أشباح جانبها المظلم التي تطاردها طيلة الحكاية حتى تفترسها، بحيث يصبح الإيقاع المرعب والدموي لهذة الرقصة هو لحن فيلم أرونوفسكي الرئيسي.

قراءة فرويدية للحكاية

يقسم فرويد النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام؛ الأنا: وهو الجزء الظاهر من الشخصية الذي يواجه به الواقع والمحكوم بالمنطق، الهو: الجانب المظلم والفوضوي من النفس غير المحكوم بأي منطق، مستقر الرغبات المكبوتة، خاصة الجنس والعدوان، وثالثًا الأنا الأعلى: هي الذراع الأخلاقي للنفس، القانون والسلطة، تكافئ الأنا بمشاعر التقدير أو تعاقبها على اندفاعات الهو غير المقبولة اجتماعيًا. التوتر الدائم، والشد والجذب القائم بين أجزاء النفس الثلاثة هو ما يحدد إلى حد بعيد السلوك الإنساني.

أحد المداخل الهامة لفهم شخصية نينا، وطبيعة مخاوفها وصراعها الداخلي يكمن في هذا المشهد:
تستيقظ نينا في سريرها وتبدأ في مداعبة نفسها جنسيًا. في الليلة السابقة كان مخرج العرض توماس/ فينسينت كاسيل قد نصحها بذلك كنوع من التدريب على أدائها لدور البجعة السوداء، حيث ينبغي لكي تتقن هذا الدور أن تطلق لنفسها العنان، وتتواصل مع جانبها الجنسي، مع جانبها المظلم الذي يبدو أنها لم تستكشفه بعد، في خضم ممارستها الجنسية تجد الأم نائمة على كرسي بجوار سريرها، تتوقف فورًا وتغطي جسدها مع شعور غامر بالخجل والذنب.

نينا تعاني إذن من كبت جنسي بالغ، نتيجة هذه العلاقة الاستحواذية والمتسلطة من الأم التي تمثل الأنا الأعلى، تحاول الأم أن تبقي ابنتها في طور الطفولة، ولا تسمح لجانبها البالغ بالظهور، انتفاضات الهو المكبوت تأتي على هيئة خدوش قهرية تحدثها نينا في جسدها بأظافرها، فتقوم الأم بتقليم أظافر طفلتها، أو تلبسها جوربين في يديها أثناء النوم لكي لا تخدش جسدها. غرفة نينا تعبر عن تثبيتها الطفولي بألوانها، بفراشات الحائط، ودمى الطفولة الممتدة، الأم تعزز ذلك في كل سلوكياتها تجاه نينا، تساعدها في لبس ثيابها ونزعها وكأنها عاجزة عن أن تفعل ذلك وحدها.

لنفهم أكثر طبيعة العلاقة بين الأم ونينا، علينا أن نشير إلى حكاية الأم، التي ترى أنها ضحت بمهنتها كراقصة باليه محترفة من أجل ابنتها، فلولا حملها، ما تخلت عن مهنتها، ما يحمل نينا بإحساس طاغٍ بالذنب، يجعلها تفعل أقصى ما تستطيع لكسب حبها، وهو ما يبرر أيضًا الكبت المبالغ لرغبات ابنتها الجنسية ومراقبتها الاستحواذية كي لا يتكرر لها ما حدث معها.

عدوانية نينا التي تظهر تجاه الأم يمكن فهمها باعتبارها انتفاضة الهو المكبوت تجاه من يكبته /الأنا الأعلى، لكن هناك عدوان معاكس من الأم تجاه الابنة، تقول لها أحيانا هذا الدور كثير جدًا عليكِ، أو تحاول أن تمنعها من الذهاب للعرض الرئيسي لأنها تعتقد أنها لن تستطيع القيام بأداء هذا الدور، يمكن فهم ذلك فقط في ضوء حكاية الأم السابقة حيث ترى الأم ربما على نحو غير واعٍ أن نينا هي السبب في إفشال مسيرتها، ولذا تقوم هي أيضًا بالمثل معها لإفشالها، فعندما تبلغها نينا بأنها حصلت على الدور الرئيسي في العرض القادم، تسارع لإحضار قالب حلوى للاحتفال بما يتناقض مع نظامها الغذائي الخاص.

الذهاب بعيدًا نحو الحافة

يبرع أرونوفسكي دائمًا في دفع أبطاله نحو الحافة، هنا تتعرض نينا لضغط نفسي بالغ، يذهب بها نحو البارانويا، بحيث يصير كل ما حولها عدائيًا ومهددًا، يتصاعد الجانب الهلوسي أيضًا فتبدأ في رؤية أشياء لا يراها غيرها. المخرج يدفعها بأقصى ما يستطيع نحو تقمص حقيقي نابع من الداخل لدور البجعة السوداء، وهناك الأم أيضًا، التي تشعر ابنتها بأنها لن تستطيع القيام بالدور، هناك أيضًا لي لي/ ميلا كونيس المنافسة لها على دور البجعة السوداء، والتي تمثل كل ما ترغب فيه نينا لتصير البجعة السوداء، بل يمكن قراءة نينا نفسها كتجسد خارجي لجانب نينا المظلم، فالمرة الأولى التي ترى فيها نينا لي لي، في عربة المترو، تبدو كنسخة مرآوية منها تحاكي حركاتها تمامًا. وهناك أيضًا ذلك الحلم الشبقي الذي يجمعهما، حيث تتحول لي لي خلاله إلى نسخة نينا من البجعة السوداء.

هناك أيضًا بيث/ وينونا رايدر، بطلة الفرقة السابقة، ومثال الكمال الذي تسعى إليه نينا، والتي تحاول الانتحار بعد إعلان اعتزالها، تذهب إليها في غرفة المستشفى لتجدها هناك وحيدة ومهجورة وبلا مجد، بجسد مليء بالجراح.

تزداد عدوانية الجانب المظلم، مع تزايد الضغط الممارس على نينا من كل اتجاه، تتحول الخدوش إلى جروح ويتسع الجرح على آخره لتنزف نينا حياتها في مشهد النهاية الذي يجسد كمالها المنشود.

يلتزم أرونوفسكي كعادته بالسرد المقيد بالشخصية الرئيسية، بحيث يصبح كل ما نرى هنا على الشاشة أو نستمع إليه عبر شريط الصوت هو ما تراه وتسمعه نينا، وهو ما يخلق تجربة معايشة وتوحد استثنائية مع الشخصية الرئيسية، نعانق معًا نفس الكابوس.

رغم جودة النص الفيلمي، إلا أنه ليس فيلم حبكة أو حوار، بل ما يصنع بريقه الخاص هو أداء أرونوفسكي الإخراجي، يستخدم كاميرا محمولة باليد تعكس توتر الشخصية وقلقها المتصاعد، مع تكوينات تتراوح بين اللقطات القريبة الخانقة التي تعكس ألم الشخصية وتمزقها الداخلي، ولقطات بعيدة تعبر عن عزلة الشخصية وضياعها.

يعتمد بكثافة على المرايا كموتيفة بصرية متكررة، يحاصر بطلته بالمرايا في كل مكان التي تعكس داخلها المضطرب، ظلال خوفها وارتيابها المتفاقم، تظهر المرايا ازدواجها وتعددها كتعبير عن انقسام الذات على نفسها.

رغم قتامة النهاية فإن أرونوفسكي لا ينهي فيلمه بشاشة سوداء بل بالاقتراب من أضواء المسرح، لتغرق الشاشة في ضوء أبيض باهر بينما يعلو على شريط الصوت هتاف المشاهدين المنبهرين بأداء نينا الاستثنائي، فالنهاية حسب وجهة النظر الذاتية التي يعتمدها المخرج، ليست موتًا بل عناق نينا لحلمها المنشود، الفيلم أيضًا في أحد معانيه هو رحلة نينا نحو النضج والاكتمال رغم رعب الرحلة ومرارة التجربة.