تنويه: هذه المراجعة تجنبت حرق أحداث الفيلم وحرصت على الاكتفاء بالحد الأدنى من الأحداث التي ظهرت في الإعلان التشويقي للفيلم.

يمكن وصف فيلم «Blade Runner» والذي أنتج في بدايات الثمانينات من القرن الماضي، بأنه يتجاهل الطفرات في توقعاته العلمية، باستثناء طفرة وحيدة والتي بُني عليها الفيلم؛ وهي وجود آليين لديهم مشاعر، وذكريات، وجسد يشبه البشر الحقيقيين. وكيف ستتعامل المنظومة الرأسمالية طبقًا لسلوكيتها في ذلك الوقت مع تلك المنتجات؟ فالفيلم بنى عالمه على أن الرأسمالية ستستغل هؤلاء الآليين في الأعمال الشاقة المرهقة، من أجل مزيد من الراحة للبشر الأغنياء.

وفي الأرض ستتصاعد نسب التلوث والتغيرات المناخية لدرجات غير مسبوقة. بالإضافة لزيادة سكانية رهيبة مع ازدياد الهوة بين الفقراء الذين سيبقون على الأرض في عمارات مسودة من التلوث وشوارع متسخة… إلخ، وأغنياء سيسكنون في كوكب آخر وسيخدمهم الآليون، مع ترك فرصة للترقي للباقين على الأرض. لذلك فستكون جميع العمارات المتسخة عليها لوحات إعلانية ضخمة دعائية للحياة الأخرى، وهناك دائمًا فرصة أن تتحول لغني وتنتقل مع الصفوة. الأمر يشبه إلى حد كبير إعلانات الكومباوندات في مصر.

تلك هي المنظومة التي بناها المخرج العبقري «ريدلي سكوت» في الجزء الأول، والتي عبر عنها دون اللجوء لجمل حوارية لشرح الأمر. كان فيلم ديستيوبيا عبقريًا، فهو أول فيلم سينمائي يظهر فيه الآليون بالشكل البشري، وبناء عالم يجمع بين التكنولوجيا والقبح والفقر. ورغم أن ذلك التكوين المبتكر فرصة جيدة لصناعة فيلم تجاري، ولكن لم يطمح سكوت لتسلية الجمهور وانتصر لفلسفته. فالفيلم هادئ في أحداثه، وذو حبكة بسيطة، أو هذا ما ظنه متابعو الفيلم. ظن الجميع أن قصةالفيلم بسيطة، لها بداية ووسط ونهاية، والصراع معلوم الملامح. ولكن مع الوقت كُشف للجميع أن الفيلم غامض ومحمل بالكثير من الأسئلة وعناصر التشكيك، بالإضافة للكثير من الجمل الفلسفية الشاعرية عن الموت والحياة. هكذا تحول «Blade Runner» لفيلم خالد سينمائيًا.


ما الجديد الذي يقدمه فيلنوف؟

منذ شهور قليلة مضت، عرض الجزء الثاني من الفيلم بعنوان «Blade Runner 2049» ومن إخراج الكندي «دينيس فيلنوف»، فهل استطاعت نسخة فيلنوف منافسة نسخة سكوت؟

مسيرة فيلنوف تؤكد أنه الاختيار الأنسب لهذا الجزء، فسكوت صاحب الثمانين عامًا بدت مسيرته مؤخرًا أقل تميزًا، وتعتمد على التجارب التجارية، بالإضافة لاستكمال سلسلة Alien. في حين أن فيلنوف مخرج واعد بأفلامه المحملة بالأفكار السياسية والفلسفية. وفي فيلمه الأخير «arrival» قدم شكلاً جديدًا بتكاليف منخفضة للغزو الفضائي. تصميم المركبة والكائنات الفضائية كان جديدًا ومبهرًا، بالإضافة للدقة العلمية في مشاهد انعدام الجاذبية. أثبت فيلنوف أنه قادر على صناعة التصاميم المبتكرة دون الحاجة لتكاليف أفلام نولان مثلاً أو غيره.

من فيلم Blade Runner 2049

بالفعل أثبت فيلنوف في «Blade Runner 2049» تميزه في صناعة تصاميم مبتكرة وغير متوقعة، واستخدام تكنولوجيا الهولوجرام بشكل مميز وذكي، كالدعاية في الشوارع، بل يمكن أن يصل الأمر لدرجة شراء صديق أو حبيب افتراضي مجسد بالهولوجرام، بالإضافة لتصميم مباني الشركات والسيارات الطائرة. الغريب في الأمر حين تتأمل كل هذه التصاميم الفريدة من حيث الفكرة ستجد أنها معتمدة على أفكار بسيطة وليست معقدة. وهذا هو الشيء الفريد في الجزء الأول، وهو أنه ينطلق من أفكار بسيطة في كل شيء حتى الحبكة، ولكن في النهاية تجد أنك أمام أحد أكثر الأفلام عموضًا في فهم قصته ومضمونها.


بين عالم «سكوت» وعالم «فيلنوف»

Blade Runner 2049، ريان جوسلنج
Blade Runner 2049، ريان جوسلنج

عالم فيلنوف لم يكن بمثل قبح ولا قتامة عالم سكوت. فتعمد سكوت إظهار القبح والتلوث والأتربة والأحياء الشعبية كثيفة السكان في كل مشهد، بالإضافة لاعتماده على اللونين البني والأسود، كل شيء قاتم وكابوسي وخانق عند سكوت، حتى التصاميم المبتكرة ساهمت في هذا السواد. ورغم أن فيلنوف حاول إظهار الأحياء الشعبية والتلوث وخلافه، لكن كانت في مشاهد قليلة نسبة لزمن الفيلم الذي يقترب من الثلاث ساعات. بالإضافة إلى أن ألوان فيلنوف كانت أكثر تنوعًا وزهوًا حتى ولو كانت ألوانًا قاسية. فطغى على الفيلم اللون الأحمر والأصفر والرمادي والأزرق والأبيض. ولذلك فقد الفيلم جزءًا من قتامة العالم الأصلي ولكنه لم يخلُ منها.

رغم طول الجزء الثاني في المدة الزمنية (ثلاث ساعات إلا عشرة دقائق)، إلا أن إيقاعه أسرع من الجزء الاول بكثير، الذي اهتم بالجانب الفلسفي والديستويبي للأحداث وشاعرية الحوارات فوق أي اعتبار آخر. ولكن يبدو أن نسخة فيلنوف اهتمت بوجود إيقاع أسرع للأحداث، وقلت جرعة الفلسفة جدًا وإن لم تختفِ، ولكنها ليست الشيء الأكثر وضوحًا كسابقه، بالإضافة لاهتمام الجزء الثاني بتقديم التواءات سردية واضحة وعنيفة في مراحل الفيلم المختلفة. لا يوجد أي ارتباك في فهم قصة الجزء الثاني، بالإضافة إلى أن القصة بدأت بانحياز لأحد تفسيرات الجزء الأول، وبالتالي أراد صناع العمل تقديم إجابة شافية لأحداث الجزء الأول لبناء أحداث الجزء الجديد. الحقيقة أنه رغم تميز السيناريو ولكنه أقل بريقًا من سابقه ولديه أولويات أخرى.

النقطة التي يتفوق فيها الجزء الثاني عن سابقه بشكل واضح هو فريق التمثيل. فالجزء الأول به الكثير من الشخصيات الثانوية، والتي لم تكن على نفس القدر من الإبهار، من حيث التجسيد أو كتابة الشخصية. وعلى العكس من ذلك كانت جميع شخصيات الجزء الثاني مميزة من حيث الكتابة والتجسيد، وساهم في تميزها براعة فيلنوف المعتادة في إخراج أفضل ما في الممثلين، وهذا يظهر جليًا في مشهد الممثل والمصارع السابق «ديفيد باتيستا» والذي لا يتوقع منه هذا الأداء المميز وشديد الشاعرية. والعامل المشترك الذي ساهم في تفوق فريق التمثيل هو بكل تأكيد «ريان جوزلينج» القادر على صنع تناغم فريد مع الممثلين الذين يشاركونه في المشاهد. فهو يستغل موهبته بالإضافة لقدراته الإخراجية في إخراج أفضل ما في الممثل المقابل معه في المشهد. ريان جوزلينج ربما يستحق ترشيحًا للجوائز الكبرى للعام الثاني على التوالي.

من المتوقع أن ينافس الفيلم بقوة في الجوائز البصرية وخصوصًا جائزتي التصوير والجرافيك، وفي الأغلب سيحصد واحدة منهم، بالإضافة إلى ترشيح لجائزة أفضل فيلم. رغم أن الجزء الثاني لم يبنِ على عناصر تميز سابقه والذي يعد فيلمًا استثنائيًا، ولكن تظل نسخة فيلنوف أحد أقوى أفلام العام.