في نهاية مقال أدبي كتبه «جارسيا ماركيز» في أواخر الثمانينيات قال: «أن الشيء الوحيد الذي يفوق روعة الموسيقى هو روعة الحديث عن الموسيقى , كنت على وشك ان اقول ذات الشيء فيما يخص الأدب لكنني تريثت قليلا فالشيء الوحيد الذي يفوق روعة الادب والحديث عنه هو صناعة الادب الجيد»

هذا مقال عن أدب من النوع الجيد،اليوم سنروي بلسان السيد «جوزيه دي سوازا» الشهير بـ«ساراماجو».سنحكي عن معزوفة أخرى تنتمي لعوالم نوبل حيث السيف هناك تقتله الكلمات،سنحكي عن رواية «العمى» الصادرة في العام 1995.


(ازيناجا – البرتغال) في العام 1922 حيث ولد السيد «جوزيه دي سوازا»،لعائلة من المزارعين. ساراماجو كان اسم شهرة التصق بعائلته وأدرج بطريق الخطأ في سجل المواليد بجوار اسمه.

بعد عامين انتقلت العائلة للعيش في «لشبونة» ولأنهم لم يكونوا قادرين على تكاليف تعليمه التحق بمدرسة تقنية وتخرج ليعمل ميكانيكي ثم صانع أقفال،لكن حياته انقلبت تماما حين قرر تطوير ذاته فعمل مترجما ثم صحفيا.

وفي العام 1947 صدرت روايته الاولى وكانت بعنوان «ارض الخطيئة». وبرغم احتفاء النقاد بمنتجه البكر الا انه توقف لمدة عشرون عاما وعاد في العام 1966 ليصدر ديوان شعري بعنوان «قصائد محتملة»، لكنه لم يعرف بالقدر الكافي الا بعد عمر الستين.

اكثر رواياته اثارة للجدل صدرت في العام 1992 كانت بعنوان «الانجيل وفقا لما يراه المسيح»، ثم في العام 1995 صدرت روايته ذائعة الصيت ودرة اعماله «العمى». وفي عام 1998حين حصل على «نوبل» قالت الأكاديمية السويدية في هامش الجائزة الكبرى:

تمنح الجائز للسيد «جوزيه دي سوازا» الذي استطاع بالكثير من الرموز والامثال الغارقة في الخيال مع المفارقات الانسانية ان يعطينا باستمرار واقع افتراضي يمكننا الامساك بأطرافه بدقة

في البرتغال يعد ساراماجو من العلامات البارزة، وادبه يعتبر قطعا فنية حاولت تناول التاريخ الحديث من جانبه الانساني المجرد. لكن رواية العمى تختصر كل شيء فيما يخص عوالم ساراماجو الادبية.

توفى «ساراماجو» في جزر الكناري في العام 2010.


إن كنت تستطيع أن ترى فانظر إن كنت تسطيع أن تنظر فراقب

هكذا افتتح «ساراماجو» روايته البديعة ورسم مستويات الادراك الثلاثة،لا وقت نضيعه في تقديمات مملة هاهنا. الرواية التي تقع في سبعة عشر فصلا يحتلون مايقرب من ثلاث مائة وسبعون صفحة، تحكي عن وباء غامض يصيب مدينة ما بالعمى حتى تشيع الفوضى وتتحول المدينة الى مقلب قمامة كبير يخص حديقة حيوانات غير مدربة على الحياة يتسلم الجيش مقاليد الامور كعادة اي بلد يشيع فيها الفوضى ثم يتركها لعصابات العميان لتعبث كما تشاء.

فكرة العمى الجماعي الأولى تبناها الاديب الانجليزي «هربرت جورج ويلز» في قصته الشهيرة «أرض العميان»حين يسقط متسلق جبال في وادي سحيق ليكتشف أن هناك مجتمع كامل من العميان يستوطنه، حين حاول ان يقبض على منطقه بأن المبصر يصير ملكا هاهنا كاد ان يفقد عينيه ففر هاربا. لكن ساراماجو ذهب بجدلية العمى لابعد من ذلك بكثير.

المسار الطبيعي لتلقي الأدب هو أن تسير برفقة الكاتب لينقل لك خلاصة تفاعله مع الزمان والمكان،لكن «العمى» ليست سوى تجربة انسان مع الحياة،انسان خلع مايستر انسانيته طواعية ثم جرب الحياة بهذه الطريقة،ستسأل نفسك مرارا بعد ان تنتهي منها،ما الذي مر به «ساراماجو» ليكتب ما كتب.

هذا جانب واحد وفقط من عظمة الرواية. «ساراماجو» في رواية العمى استخدم كل التقنيات التي يتيحها الادب والتي لم يكن يتيحها ايضا لينقلك لابعد الكهوف المظلمة التي لم يكن يتصور عقلك المحدود وجودها من الاساس. وهذه أحد أوجه عظمة الأدب ربما أعظمها على الاطلاق.


«حين يجن الجميع فإن احتفاظك بعقلك يصير أقسى أشكال الانتحار.»

هذا أحد العناوين الفرعية وإن كان يبدو عنونا كبيرا،لدينا هنا رواية مصدر خلودها انه يمكن قراءتها على اوجه متعددة.

في الصفحة الاولى تقريبا يصاب مواطن بالعمى بداخل سيارته،يصاب سارق سيارته الذي اوصله للبيت،يصاب الطبيب الذي فحصه في ذات اليوم،سائق التاكسي الذي اقله،المرضى من عيادة الطبيب،ساراماجو لم يستهلك الكثير من الصفحات ليقول لك ان هناك جنون جماعي،لقد وضع حجر الاساس دفعة واحدة،ثم انتقل بخفة للمرحلة التالية، تعالي معي سيدي القارئ لننزع غلالة المدنية والانسانية الرقيقة وننظر فيما تحتها.

اعتمد «ساراماجو» ابعد اشكال السرد الروائي لسرد واقع محاولة انسان الاحتفاظ بإنسانيته مقابل انهيار قيم الحضارة الاساسية، في الرواية يفقد الجميع بصره لسبب غامض فيما يتفادى الوباء شخص واحد يظل مبصرا ليتمنى العمى.

النظرة الاولى السطحية تقول انه من الجيد تبني وجهة نظر المبصر الوحيد في الرواية والتنقل بين الاحداث بكاميرا يد محمولة ترى ما يراه زوج العيون المتبقي له نوره،لكن ساراماجو يخبرك ان الراوي العليم بكل شيء ليس دائما خيار سيء كما تظن، في رواية العمى تبنى المؤلف نظرته هو للواقع وحمل الكاميرا بنفسه ثم بدأ في سرد كل شيء من اعلى نقطة.

يقول «ساراماجو»:

ان الضمير الاخلاقي الذي يهاجمه الحمقى وينكره اخرون كثر ايضا هو موجود ولطالما كان موجودا ولم يكن من اختراع فلاسفة الدهر الرابع،ومع مرور الزمن والارتقاء الاجتماعي والتبادل الجيني والتحولات الاخلاقية انتهينا الى تلوين ضمائرنا بحمرة الدم وبملوحة الدمع وكأن ذلك لم يكن كافيا فحولنا عيوننا لمرايا داخلية تظهر غالبا دون ان تعكس ما كنا نحاول انكاره لفظيا.

ببساطة لان الراوي الفوقي العليم بكل شيء يتيح لك ممارسة الحكمة الآنية والحكمة بأثر رجعي،يتيح لك مناقشة فلسفة الاحداث المروية ثم فلسفة التبعات بعد ذلك. ساراماجو لم يكن ليفوت ذلك في درة اعماله لكي يحكي بطريقة اقرب لتصورك عن العمل المتكامل.


حين ذهب المخرج البرازيلي «فيرناندو ميرليس» ليحاول اقناع ساراماجو بتحويل رائعته لفيلم سينمائي وبعد محاولات كثيرة قال ساراماجو : «حسنا «فيرناندو»، لا اسماء،لا مدن محددة،لا زمن محدد

هذا هو العمل الادبي الاول على حد علمي الذي لا تحمل فيه شخوص الرواية اسماء تميزهم عن غيرهم،وما الفائدة من الاساس،وما الذي يميز اي انسان عن غيره اذا نزعت عنه غلالة المدنية والتحضر التي يدعيها. يقول «ساراماجو» على لسان بطلة روايته المبصرة:

الأسماء،لم نكن بحاجة لها، إذ ما الذي يميز كلب عن كلب آخر،ان الكلاب لا تعرف بعضها بالاسماء وانما من النباح والرائحة.

وعلى هذا النحو اشار «ساراماجو» لشخوصه بتمييز مواقعهم من مجتمع الرواية (الاعمى الاول،زوجة الاعمى الاول،الطبيب، زوجة الطبيب،الفتاة ذات النظارة السوداء،اللص،الطفل الاحول).

في البداية ستشعر بغرابة الامر لكن بعد منتصف الرواية حين ينفجر الوضع تماما ستشعر بأنك لاتود ان تعرف اسماء لهذا القطيع. ثم آثر ساراماجو كذلك الا تتخذ روايته مسرحا محددا للاحداث ولم يصبغ عليها خصوصية اي مكان ولا زمان فصارت روايته كتيبا ارشاديا لما يحمل ما يتوجب عليك تجنبه ايا كان موقعك.

أدب «ساراماجو» بصفة عامة محمل بحالة فريدة من الاشباع،ستجد هنا كل ما تبحث عنه أيا كان،في روايتنا هذه هناك خليط عجيب من الواقع والفانتازيا يصعب فصله،لن تقف كثيرا عند تفسير الحالة الطبية للوباء لأنك ستفكر اولا في رمزيتها،ساراماجو يلقي لك بالكثير من الاسئلة بينما هو لا يفعل شيء سوى الحكي،يتوقف أو لا يتوقف ليمر حوار الابطال سالما،او ان حوار ساراماجو مجدول داخل سرده بطريقة ناعمة،لكن الاروع هو توقفه في بداية كل فصل ليحاول فك اشتباك الاسئلة التي تعتمل في رأسك.ثم هناك كذلك عبر الترجمات يظهر جليا تشبع مفرداته بمعانيها ثم تحميل كل حرف بشكل مبهر بكل تفاصيل الحالة المسيطرة على روايته الفريدة. ساراماجو لا ينقلك لواقع روايته فحسب،ساراماجو ينقلك اليها كأعمى.


بعد ان تنتهي من قراءة «العمى» ستفكر ألف مرة في استخدام ما كنت تراه ثابتا من مبادئ راسخة لديك، إذ سيصير كل شيء هشا تمام امام العوز الحيواني.

بالاضافة لمناقشة فلسفة الثورات ورمزية السجن وثنائية السلطة والجمهور الخانع، يضعك «ساراماجو» امام ذاتك في موضع تبرير الانحاط الاخلاقي تدريجيا تارة، ثم الاقسى في موضع المسؤلية الاخلاقية للمبصر في مجتمع العميان تارة اخرى.كل خطوة تخطوها في الرواية هي بمثابة صفعة لانسانيتك الهشة،مشهد الذروة حين يجتمع شخوص الرواية للنقاش حول تبرير تنازلات اخلاقية مقابل الحصول على الطعام، سيجعلك تتساءل هل انا بحاجة حقا لعينين كي اصير انسانا؟ في نهاية الرواية تقول زوجة الطبيب – المبصرة الوحيدة:

لا اعتقد اننا اصبنا بالعمى،لقد كنا عميانا من البداية حتى لو امتلكنا عيونا مبصرة،بشر عميانا لديهم عيونا لكنهم لا يرون
ربما كنا كلنا عميانا ورأينا بعيني «ساراماجو»