طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين كان التلفزيون هو نافذة المشاهد المصري على السينما الأجنبية، ونعني بالأجنبية هنا السينما الأمريكية مع استثناءات بسيطة من السينما الأوروبية تعرض في برامج مثل «بانوراما فرنسية»، و«نادي السينما».

في ذلك الحين كان جيل الإنترنت لا يزال على مشارف المراهقة، يجاهد للحاق بقطار الترجمة الجاري على الشاشة، ولكنه لم يعدم متعة المشاهدة والارتباط بالصورة قبل الحوار. بعد عقد ونيف سيتعرف هذا الجيل على الإنترنت وما له من قدرة أسطورية على الإتاحة، بحر لا ينفد من المواد الترفيهية وعلى رأسها مكتبات ضخمة من الأفلام تقدر بأطنان الجيجا بايت.

بحكم انتمائي لهذا الجيل، تابعت العديد من الأفلام التي عرضها التلفزيون المصري في التسعينيات، وكان الإنترنت هو الباب السحري للولوج إلى هذا العالم بكل ما يحمله من نوستاليجيا. استعنت بالمارد الأسطوري الجديد للبحث عن أفلامي المفضل، تلك التي لا أعرف حتى عنوانها، ولكني أذكر فيلمًا منها من بطولة ميل جيبسون وجوليا روبرتس. استغرق البحث أيامًا قبل أن أستطيع الوصول للفيلم، ثم جاءت اللحظة المنتظرة التي سألج فيها من هذا الباب السحري.

بعد سنوات طويلة من انتظار إعادة عرض الفيلم على التلفزيون المصري بلا نتيجة سوى الخيبة، جاءت الفرصة لمشاهدة ثانية، ولكنها حملت معها إحباطًا جديدًا، فلم أجد في الفيلم هذه المتعة الطفولية التي صاحبت مشاهدته الأولى، فماذا تغير؟

في عام 2014 عرض الفيلم المصري «الفيل الأزرق» عن رواية الكاتب أحمد مراد، ومن إخراج مروان حامد. وعلى الرغم من انتهاء الجزء الأول بنهاية الرواية، فإن الثنائي مراد وحامد قدما جزءًا ثانيًا من الفيلم، عن نص كتب للسينما مباشرة.

سنوات طويلة تفصل بين العصر الذهبي للتلفزيون، والعصر الذهبي للإنترنت، لم يختفِ التلفزيون بالطبع، ولكنه توارى أو يكاد إلى جانب هذا المارد العملاق، غير أنه على ما يبدو أن صناع السينما المصرية لا يزالون قابعين في عقد التسعينيات، ويظنون أن المشاهد هو الآخر لم يخرج منها.

تنويه: الفقرات القادمة قد تحمل حرقًا لبعض أحداث الفيلم.


البحث عن الدراما

تجربة المشاهدة السينمائية هي تجربة متصلة خاصة في حالة الأفلام المسلسلة، ففي الجزء الثاني من الفيلم لا يحتاج صناعه إلى إعادة تقديم شخصياتهم وعالمها، فالمشاهد يحمل هذه الخبرة بالفعل، ولكنهم بحاجة للبناء على هذه الخبرة.

منذ المشاهد الأولى، يبدو الجزء الثاني من فيلم «الفيل الأزرق» منفصل دراميًّا عن الجزء الأول. في الجزء الأول تعرف المشاهد على الشخصية الرئيسية يحيى/كريم عبد العزيز الذي يستعيد قصة حبه الكبرى بعد انقطاعها بعشر سنوات، وينتهى الفيلم بزواجه من لبنى/نيللي كريم، نصفه الآخر الذي لا يكتمل بدونه، ولا يعرف للاستقرار النفسي سبيلًا إلا من خلاله.

أما الجزء الثاني فيبدأ بتشظي هذه العلاقة، وعودة يحيى إلى سيرته الأولى من التوتر النفسي الذي لا يجد له علاجًا سوى معاقرة الشراب. هذه بداية مثيرة بالطبع، تدفع المشاهد للسؤال عن السبب وراء فشل هذه العلاقة التي بدت واعدة، ولكن الفيلم ينتهي قبل أن يصل المشاهد إلى إجابة سؤاله، فلا يعرف السبب وراء هذا الفتور الذي أصاب العلاقة، ولا يعرف كيف عاد أبطالها إلى الوفاق مرة أخرى.

هذا الانفصال الدرامي يجعلنا أمام تجربة مشاهدة مكررة، أو على حد تعبير بعض المشاهدين بقاعة السينما أن ما شاهدوه لم يكن سوى الجزء الأول مكررًا مرة أخرى. وفي حين أن الجزء الأول تضمن تأسيسًا لأزمة البطل تمثلت في فشل مشروع زواجه من لبنى، ثم تلك الحادثة التي راح ضحيتها زوجته وابنته، ومعاناته من الشعور بالذنب إزاءهما، فإن الجزء الثاني لم يحمل أي تأسيس لائق لهذا التطور الذي لحق بالشخصية، ولا للأسباب التي دفعته إلى حالة عدم الاستقرار.

طال هذا الانفصال الدرامي عددًا من الشخصيات، من بينها شخصية شريف/خالد الصاوي، الذي يظهر في مشهد وحيد ونعرف أنه لا يزال يعاني من نفس أزمة الجزء الأول، ولا نعرف ما السر في ذلك أيضًا، كما نعرف أن العلاقة بينه وبين أخته ويحيى شبه مقطوعة، وهذا لغز آخر لا نعرف له تفسيرًا.

في الجزء الثاني من فيلم الفيل الأزرق، انصب تركيز مراد وحامد على عالم الفيلم السحري، وعلى زيادة جرعة التشويق والغموض واللهاث وراء إلتواءة الحبكة ظنًّا منهم أنهم بذلك يبلغون مقصدهم ومقصد المشاهد. ربما يكون ذلك كافيًا بالنسبة لمراهق التسعينيات متواضع الخبرة والثقافة السينمائية، ولكن جيل الإنترنت الذي يملك القدرة على الاطلاع على جديد السينما العالمية أولًا بأول، وتغذية خبرته البصرية والقصصية بمختلف الألوان والأنواع الفيلمية بالطبع لن يرضى بهذه الوجبة غير المتكاملة.


الزحام السمع بصري

تقيد الجزء الأول من فيلم «الفيل الأزرق» بالنص الأدبي والتزم به التزامًا حرفيًّا، فلا نجد ثمة معالجة درامية تناسب الوسيط الجديد الذي ينتقل إليه النص، فقط قام مروان حامد بنفخ الحياة في الصور الأدبية لتجسيدها على الشاشة، حتى أن الحوار الذي جاء في النص الأصلي بالعامية، قد تم نقله بشكل حرفي إلى الفيلم. ونظرًا لطبيعة عالم الرواية الماورائي، ظهرت الحاجة إلى الخدع البصرية.

في الجزء الثاني من الفيلم تفوقت الخدع البصرية بشكل واضح على الجزء الأول، وجاء تنفيذها على قدر كبير من الجودة والدقة وبمستوى تشهده السينما المصرية للمرة الأولى، ولكن يمكننا الجزم بأنها جاءت لتصب في مصلحة صناع الفيلم لا الفيلم نفسه، فالأمر هنا يختلف مثلًا عن أفلام «السوبر هيرو» التي تكون فيها الخدع عنصرًا أساسيًّا في سردية الفيلم وخلق عالمه الفانتازي، ولهذا فقد جاءت المبالغة في الاعتماد على الخدع البصرية لا لخدمة سردية الفيلم الدرامية، ولكن لإضفاء درجة من الازدحام البصري التي تمعن في غموض عالمه، وتلبي احتياجًا مزعومًا للمشاهد لرؤية مثل هذه التقنيات في فيلم مصري.

في الجزء الأول من الفيلم تركز الاعتماد على المؤثرات والخدع البصرية في عدد من المشاهد التي تحمل البطل إلى «عالم البرزخ» بعد تناول قرص الفيل الأزرق، أما في الجزء الثاني فقد تجاوزت الخدع هذه المشاهد على طولها، لنراها في مشهد بسيط مثل مشهد موت الكلب الذي حلقت فوق رأسه أسراب من الذباب الصناعي، وهو استخدام لم يضف جديدًا، وكان من الممكن الاستغناء عنه في هذا المشهد وغيره. كذلك جاءت مشاهد عالم البرزخ مغالى في طولها بلا أي داعٍ درامي، ولم ينتج عنها سوى مزيد من الازدحام والتشتيت للمشاهد.

اقترن بهذا الزحام البصري زحام آخر بشريط الصوت، والذي لا يكاد يخلو طوال الفيلم من الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي دفعت عددًا من المشاهدين إلى التهامس أثناء العرض للسؤال عن جملة حوارية منعتهم الموسيقى الصاخبة والمؤثرات المتواصلة من التقاطها.

هنا أيضًا لا نجد أي داعٍ للمغالاة في إزحام شريط الصوت بكل هذه المؤثرات والموسيقى، فلا هي أضافت جديدًا، ولا أضفت شعورًا خاصًّا على المشهد، ولكنها فقط أمعنت في توتير المشاهد ولم تمنحه الفرصة لالتقاط الأنفاس طوال 135 دقيقة هي عمر الفيلم.

مرة أخرى نقول إن هذا الاقتراب قد يبدو مناسبًا لمشاهد غر لم يصب من خبرة المشاهدة إلا اليسير، ولا تمتد ثقافته السينمائية إلى فهم الوظائف المتباينة للصوت والصورة، ولكن المشاهد العصري الخبير بهذا النوع سيقع فريسة للملل من التكرار المتواصل لهذه المؤثرات، واستعراض العضلات التقنية بلا أي طائل درامي على مدى زمن الفيلم الطويل نسبيًّا.


دعني أنخدع

إذا كنت من المهتمين بفن السينما فسيكون من السهل على خوارزميات جوجل الذكية أن تلتقط اهتمامك وتلقى في طريقك الإعلانات الدعائية الخاصة بكورسات تعلم فنون السينما. أحد تلك الإعلانات التي قد تصادفك على موقع يوتيوب هو إعلان كورس تدريبي بعنوان «Masterclass»، الذي يقوم عليه مجموعة من أشهر صناع السينما الأمريكية. في أحد تلك الإعلانات يواجه السيناريست الأمريكي إيرون سوركن الكاميرا بقوله:

إن أسوأ الجرائم التي يمكنك اقترافها، هي أن تخبر المشاهد أمرًا يعلمه بالفعل.

يبدو أن مروان حامد وأحمد مراد لم يسبق لهما مشاهدة هذا الإعلان الدعائي، فقد اقترفوا هذا الجرم الذي أشار إليه سوركن العديد من المرات طوال الجزء الثاني من فيلم «الفيل الأزرق».

أحد أكبر التحديات التي تواجه صناع السينما حول العالم هو القدرة على مجابهة خبرة المشاهد وثقافته السينمائية التي راكمتها مائة عام وأكثر من السينما، والإتيان بكل جديد ومبتكر لخداع هذا المشاهد بتقديم كل ما هو جديد وطازج ومختلف عن كل ما سبق أن شاهده من قبل. تتكرر التيمات، والموضوعات، بل تتكرر القصص والحبكات بكل حذافيرها، ولا يعدم صانع السينما الموهوب طريقة جديدة لعرضها، ومفاجأة المشاهد بما هو جديد على ذاكرته وخبرته السينمائية.

لا يبدو أن صناع فيلم «الفيل الأزرق 2» يدركون هذا المبدأ، ولهذا فهم يواصلون تقديم نفس التيمة، ونفس الموضوع، ونفس الحبكة بنفس الالتواءات، ويواصلون إطعام المشاهد بالمعلومات بشكل مباشر وسطحي، وكأنه طفل رضيع لا يقوى على مضغ طعامه وهضمه بنفسه.

يتضمن فيلم «الفيل الأزرق 2»، الكثير من المشاهد المكررة من خلال تقنية «الفلاش باك»، فلا يكفي أن نرى موت الأسماك في الحوض المائي مرة، ولكن يجب أن نكررها على المشاهد 3 أو 4 مرات، ولا يكفي أن نسمع فريدة/هند صبري تخبر يحيى: «خلي بالك من الأسد»، يجب أن نعيد على سمع المشاهد تلك الجملة الحوارية مرة أخرى بعد أن تصدم سيارة يحيى شاحنة كبيرة تحمل صورة الأسد، ولا يكفي أن ينظر يحيى بشكل موحٍ إلى كلمة «إسعاف» المطبوعة عكسيًّا على مقدمة سيارة الإسعاف ليفهم أن حروف التعويذة هي الأخرى مكتوبة عكسيًّا، بل يجب علينا أن نعيد المشهد مرة أخرى على المشاهد، ونعيد عليه أيضًا كلمات عرافة الغجر المباشرة الواضحة: «مراية تعكس الحقيقة» ليفهم المشاهد أن لفظة «تعكس» هي علامة البطل لعكس الحروف.

هنا صناع الفيلم يؤكدون نظرتهم القاصرة للمشاهد، ويبلغ الأمر مداه في مشهد التقاء يحيى بأكرم/إياد نصار، المدير الجديد لمستشفى العباسية، وأثناء محاولة كل منهما قراءة اللغة الجسدية للآخر، لم يكتفِ المخرج بتقنية الصوت الداخلي «Vocieover»، ولكنه لجأ أيضًا إلى كتابة الجمل الحوارية على الشاشة بحروف كبيرة واضحة حتى لا بخطئها المشاهد.

أما أكثر ما يثير الشفقة في هذا المشهد هو أن هذه المساجلة الفكرية بين الشخصيتين في بداية الفيلم ترهص بعلاقة ندية ومنافسة بينهما وتهيئ المشاهد لمعركة تالية، غير أن صناع الفيلم يخيبون هذا الظن بموت شخصية أكرم المفاجئ، الذي يدفع المشاهد للتشكيك في المغزى الدرامي من وجود هذه الشخصية التي لم تقدم أي إضافة درامية تذكر، ولم تدفع بالحدث بأي شكل من الأشكال، حتى إن حذفها تمامًا لا يؤثر على سردية الفيلم بأي شكل من الأشكال.

لسنوات طويلة لا ينفك النقاد والمتخصصون عن الحديث عن أزمة السينما المصرية، تلك الأزمة التي أصبح المشاهد يلمسها بشكل أوضح مع تنامي خبرته وثقافته السينمائية، وهي الأزمة التي تتجلى في فيلم «الفيل الأزرق 2» إذ ينتمى صناعه إلى عصور قديمة بينما يسبقهم المشاهد والصناعة العالمية بعقود طويلة. وبينما هم يصرون على التعامل مع المشاهد كطفل رضيع، لا يسعنا إلا التساؤل: أما حان فطام المشاهد المصري؟