قبل نحو أسبوعين،تبرع سلطان طائفة البُهرة الهندية «مُفضل سيف الدين» بـ10 ملايين جنيه لصندوق «تحيا مصر»، خلال لقائه الرئيس عبد الفتاح السيسي بالقاهرة. لم تكن هذه المرة الأولى التي يتبرع فيها «سيف الدين» لمصر بمثل هذا المبلغ، ولا كانت الثانية، بل هي المرة الثالثة خلال 4 سنوات فقط، إذ يصل إجمالي ما تبرع به السلطان الهندي إلى 30 مليون جنيه خلال 3 زيارات استُقبل فيها جميعًا بحفاوة في القصر الرئاسي.

تطرح هذه التبرعات المتواصلة من سلطان طائفة يكاد وجودها أن يكون مجهولًا لأغلبية المصريين، العديد من التساؤلات؛ من هم البُهرة؟ ولماذا يتبرعون لمصر بهذا السخاء؟ ولماذا تستقبلهم القيادة المصرية بمثل هذه الحفاوة؟

نحاول في هذا التقرير الإجابة عن هذه الأسئلة اعتمادًا على كتاب «الطوائف الأجنبية في مصر (البُهرة نموذجًا)» للدكتورة سعاد عثمان، والصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 2017.


شيعة إسماعيلية مستعلية طيبية

تُعرف طائفة البُهرة بأنهم شيعة إسماعيلية (نسبة إلى الإمام إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق) مستعلية (نسبة إلى الخليفة الفاطمي المستعلي بالله) طيبية (نسبة إلى الإمام الطيب ابن الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله). ويعتقد البُهرة بدخول الإمام الطيب إلى الستر عام 525 هجرية، والأئمة المستورون من نسله إلى الآن لا يُعرف عنهم شيئًا حتى أسماءهم.

بشكل مختصر ينقسم الشيعة إلى ثلاث فرق مذهبية، هم: الشيعة الإمامية، والشيعة الزيدية، والشيعة الإسماعيلية. ومن رحم الفرقة الأخيرة خرجت الدولة الفاطمية التي حكمت شمال أفريقيا واتخذت من مصر مقرًا لها نحو قرنين من الزمن (358-567هـ/969-1171م). وانقسم الفاطميون في مصر بعد وفاة الخليفة أبو تميم معد المستنصر بالله إلى فرقتين: الإسماعيلية النزارية وهؤلاء سافروا إلى إيران، والإسماعيلية المستعلية الذين استمروا في حكم مصر وشمال أفريقيا.

اقرأ أيضًا:يهود مصر وعلاقتهم بالصهيونية: نحو بعض من تفكيك الأساطير

بعد وفاة الخليفة الآمر بأحكام الله (524 هـ/ 1130 م)، انقسم الفاطميون في مصر مرة أخرى إلى حافظية وهؤلاء أيدوا خلافة عبد المجيد الحافظ ابن عم الآمر بأحكام الله، والطيبية الذين أيدوا خلافة الطيب ابن الآمر الذي كان لا يزال رضيعًا في ذلك الحين.

استولى عبد المجيد على الخلافة، وفر الطيب إلى اليمن للعيش في كنف الإسماعيليين المستعليين الصليحيين الذين أيدوا حقه في الخلافة. اختفى الطيب فاعتقد أنصاره أنه دخل في «الستر» وأصبح أول الأئمة المستورين منذ ذلك الحين. وفي مصر، قضى صلاح الدين الأيوبي السني على حكم الخلفاء الفاطميين الشيعة رسميًا عام 567هـ/ 1171م، وتعرض عموم شيعة مصر للاضطهاد وبينهم الطيبيون، فسافر كثير منهم إلى بقايا الدولة الفاطمية، وتوجه الطيبيون إلى اليمن حيث فر إمامهم.

ولفظة البُهرة حديثة نسبيًا، وهي مشتقة من اللغة الجوجاراتية السائدة غربي الهند، وتعني التجار وفق أغلب الآراء. أُطلقت في البداية على الدعاة الإسماعيليين الذين سافروا إلى منطقة جوجارات الهندية لنشر مذهبهم عام 460 هـ/ 1067. وبعد قيام الطيبيين في اليمن بإرسال دعاة مذهبهم إلى الهند لنشره، ثم نَقل مركز الدعوة من اليمن إلى الهند عام 974 هـ/ 1567 م، أصبح لفظ «البُهرة» يطلق على الإسماعيليين الطيبيين.


البُهرة: أعدادهم، أماكن تواجدهم، لغتهم، عقيدتهم

تتراوح تقديرات أعداد البُهرة في العالم بين 900 ألف و2 مليون نسمة، ويقدرهم جهاز الأمن الوطني المصري بمليون نسمة. يقطن أربعة أخماسهم في الهند بجوجارات وبومباي، ويتوزع الباقي في باكستان، واليمن (5 آلاف)، وسيريلانكا، وشرق أفريقيا (20 ألفًا موزعين بين تنزانيا وكينيا وأوغندا)، والإمارات العربية المتحدة، وفي أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. أما أعدادهم في مصر فتتراوح بين ألف و 15 ألف نسمة.

ولغة البُهرة الرسمية هي اللغة الجوجاراتية المُعربة، وهي لهجة خاصة من الجوجاراتية ممزوجة بكلمات عربية وفارسية. أما في مصر فيتحدثون العربية أو الإنجليزية. وتكتب مؤلفاتهم بالأحرف العربية لكن بلا نقاط، كالخط النبطي الذي كتب به القرآن عند نزوله.

ويستخدم الطيبيون تقويمًا قمريًا بصيغة خاصة تعود أصوله لزمن الفاطميين، ويعتمد على الحسابات الفلكية لتحديد بدايات الأشهر. ويختلف تقويمهم بفارق يوم أو يومين عن التأريخ الإسلامي المعتاد، وينتج عن هذا اختلاف مواعيد بدء وانتهاء كافة المناسبات الدينية كشهر رمضان والحج والأعياد.

بعد دخول الإمام الطيب الستر – وفق معتقد أتباعه – اتخذ البُهرة نوابًا له سمّوهم «الأئمة المطلقين» أو «الدعاة المطلقين»، وأصبح هؤلاء يقومون مقام الإمام الغائب ويرعون شؤون الطائفة. ويعتبر الطيبيون أن الدعاة المطلقين هم أولي أمرهم، فيُكنون لهم الكثير من الحب والاحترام والتعظيم ويرون فيهم «وسيلتهم» للتقرب إلى الله. وداعية الطائفة المطلق حاليًا هو المفضل سيف الدين، وهو الداعية رقم 53، وتولى شؤون البُهرة في فبراير/ شباط 2014، خلفًا لوالده الداعية السلطان محمد برهان الدين.

اقرأ أيضًا:لم يكونوا على قلب رجل واحد: ماذا تعرف عن طوائف يهود مصر؟

الاضطهاد الذي تعرض له الطيبيون في مصر على يد صلاح الدين الأيوبي وخلفائه السنة، ثم في الهند الحاكم المسلم السني ظفرخان مظفر لغجرات الذي غزا منطقة جوجارات (697 هـ/ 1298 م)، ومن خلفه حفيده أحمد الأول (814 – 846 هـ/ 1411 – 1442 م)، دفع البُهرة إلى اتباع «التقية» بشكل صارم حتى أصبحت جزءًا أساسيًا من مذهبهم، وأصبح من العسير معرفة تفاصيل معتقداتهم الباطنية.

ويعتبر الطيبيون من الطوائف الثرية بفضل تجارتهم الواسعة. ورغم أن حجم ثرواتهم غير معلوم بدقة، لكن يدل عليها إنفاقهم ببذخ على ترميم مساجد الفاطميين في مصر، وبناء العديد من المساجد في الهند وجنوب آسيا، وقصور داعيتهم المنتشرة في عدد من الدول منها مصر. ويبوح قادتهم بهذا دون وجل، إذ قال ممثل طائفة البُهرة باليمن سلمان رشيد، في حديث صحفي عام 2001: «عندنا أموال كثيرة، من أجل التعمير.. تعمير المساجد والمدارس».

وحسبما ذكرت الدكتورة سعاد عثمان في كتابها «الطوائف الأجنبية في مصر (البهرة نموذجًا)»، فإن الرسوم التي يدفعها أعضاء الطائفة سنويًا، والتي منها الزكاة ورسوم المناسبات وضريبة الأم وضريبة نمو الطفل والضريبة التي تفرض على جثة الميت – تشبه «صك غفران» يدفن معه في القبر – من أهم موارد خزانة الداعي المركزية. لكن سلمان رشيد يقول إن هذا تبرع و«ليس واجبًا على أي فرد، وإنما حسب استطاعته، وهو يعطي برضاه».


البهرة في مصر وعلاقتهم بالسلطة

بدأ البُهرة يتوافدون على مصر منذ سبعينيات القرن الماضي، وتزايدت أعدادهم في الثمانينات. ويتجمع المقيمون منهم في مصر إقامة دائمة في حي المهندسين، حيث يملك أغلبهم مساكن خاصة. أما الزائرون فلهم مبنيان أحدهما للأغنياء وهو فندق الفيض الحاكمي، ويقع على بعد كيلو متر ونصف من مسجد الحاكم بأمر الله وأسعار الغرفة تتراوح من 50 إلى 150 دولارًا، والمبنى السكني بجامع الحاكم، والذي بُني عند تجديد البهرة لمسجد الحاكم، إذ اشتروا مدرسة قديمة بجوار المسجد وهدموها وبنوا هذا المبنى لأتباعهم.

وتمتلك الطائفة مقر احتفالات خاصًا في المهندسين، ولها خدمات طبية خاصة عبارة عن مشفيان أحدهما في القاهرة الفاطمية والآخر بالمربع السكني الذي يعيشون به في المهندسين. كما تمتلك أيضًا 3 مدارس ابتدائية وإعدادية وثانوية، ويفضلون إلحاق أبنائهم بجامعة الأزهر. وتحل خلافات البُهرة على أيدي وكلاء الداعي في القاهرة، وإن تصاعد الخلاف يحال إلى الداعي المطلق في مومباي الهندية. أما النزاعات الشرعية للطائفة فتحال إلى المحاكم الهندية التي تطبق الشريعة الإسلامية.

وعلى المستوى السياسي، بدأ قادة البُهرة في التواصل مع القيادات المصرية منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إذ استطاع سلطانهم برهان الدين لقاء عبد الناصر والتنسيق معه لرعاية أبناء الطائفة والسماح لهم بممارسة طقوسهم، لكن بعد حادث المنشية عام 1954، جرى التضييق عليهم فركنوا إلى الظل وأخدوا يمارسون طقوسهم بهدوء، حتى وجدوا طريقهم إلى السلطة مرة أخرى عن طريق ترميم المساجد الأثرية، وهو المجال الذي حققوا فيه نجاحًا كبيرًا، دفع جامعة الأزهر لإعطاء سلطان البُهرة الدكتوراة الفخرية عام 1966.

اقرأ أيضًا:بين الواقع والأساطير: أي دور لعبه يهود مصر في الاقتصاد؟

وتمتع البُهرة بعلاقات جيدة مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات، يدل على ذلك قبوله دعوتهم لحضور افتتاح جامع الحاكم بأمر الله بعد ترميمه برعايتهم. كما تمتعوا بعلاقات ممتازة مع الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك الذي التقى السلطان محمد برهان الدين أكثر من مرة كان آخرها عام 2007.

بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، انزوى البُهرة خوفًا من بطش الإخوان والسلفيين، ثم عادوا للظهور مرة أخرى بعد 3 يوليو/ تموز 2013، والتقى سلطانهم الرئيس السيسي 3 مرات خلال 4 سنوات فقط. وتمارس الطائفة الآن شعائرها الدينية دون خوف بفضل ما تتمتع به من علاقات قوية مع السلطة.

يسعى البُهرة إلى تأمين وجودهم في مصر وضمان حريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية بالمساجد الفاطمية التي يعتبرونها مساجد أجدادهم، عن طريق مد أواصر العلاقات مع القيادة السياسية في مصر، غير عابئين بما ينفقونه في سبيل ذلك من أموال، سواء مباشرة عن طريق التبرع لصندوق «تحيا مصر» أو غير مباشرة عن طريق ترميم المساجد الفاطمية ومساجد آل البيت النبوي.

أما السلطات المصرية فتسعى إلى الاستفادة من طائفة البُهرة بكافة الطرق الممكنة. فبشكل مباشر تحصل على تبرعات نقدية من سلطان الطائفة بشكل شبه دوري، وبشكل غير مباشر تجتذب السلطة أموال البهرة الضخمة لإقامة مشروعات في مصر وتشجعهم على القيام بالسياحة الدينية في أرض الفاطميين.

ومن خلال البُهرة أيضًا،تروج السلطات المصرية لنفسها باعتبارها «منفتحة على كافة الأديان والطوائف، ومؤمنة بأهمية الحوار بين كافة شعوب العالم بمختلف مذاهبها وأعراقها»، وذلك على العكس من الإسلاميين السياسيين.