لعقودٍ طويلة كِيل لليهود المصريين عشرات الاتهامات، ونسجت حولهم الأساطير؛ ليسوا مصريين، تحالفوا مع الصهيونية والإمبريالية العالمية، تركوا مصر من أجل إسرائيل، كانوا يسعون لخراب مصر، سيطروا على الاقتصاد، والقائمة تطول. فما الحقيقي في تلك الاتهامات، وما الخيال؟

في موضوع سابق من هذه السلسلة (يهود مصر وعلاقتهم بالصهيونية: نحو بعض من تفكيك الأساطير) تحدثنا بشكل مفصل عن هوية وانتماء اليهود المصريين وعن علاقاتهم بالحركة الصهيونية وإسرائيل، وفي هذه الموضوع نحاول تفكيك وتمحيص اتهام آخر هو: اتهام اليهود بالسيطرة على الاقتصاد المصري.


«مصر الحديثة» تفتح أذرعها لليهود

لعب اليهود دورًا مهمًا في مصر الحديثة، فمنذ انفتاح محمد علي باشا على الأوروبيين والأرمن ومختلف الجنسيات، حظيت الجالية اليهودية بوضع متميز وتبوأ أفراد منها مناصب مهمة، وكان على رأس هؤلاء اليهود، «يعقوب» مؤسس عائلة قطاوي الشهيرة، والذي تولى منصب رئيس الصرافين وجامعي الضرائب وعدة مناصب أخرى، خلال عهود عباس حلمي الأول ومحمد سعيد باشا والخديوي إسماعيل.

جذب الوضع المتميز الذي حظيت به الجالية اليهودية في مصر مزيدًا من اليهود من مختلف أقطار الدولة العثمانية، وزادت الهجرة أكثر مع افتتاح قناة السويس وسن قانون الامتيازات الأجنبية، فَقَدِم حتى يهود أوروبا للعمل والاستثمار في مصر التي رأوا فيها المستقبل.

مع تزايد هجرة اليهود إلى مصر وتحسن أحوالهم الاقتصادية، تأسست عائلات يهودية لعبت دورًا مهما في الاقتصاد، مثل عائلات قطاوي وشيكوريل ومنشه وسوارس وموصيري ورولو وهراري وسموحة، وتمتعت هذه العائلات بقوة اقتصادية ووجاهة اجتماعية مكنتها من توطيد علاقاتها بمراكز النفوذ السياسي.

كان هناك عدة عوامل مكنت هذه العائلات من لعب دور اقتصادي مهم في مصر، منها: علاقات القرابة التي تمتلكها في جميع أنحاء حوض البحر المتوسط، وتقاليد قديمة تحكم النشاط التجاري لليهود في الشتات، وحاجة مصر إلى وسطاء تجاريين يعرفون اللغات الأجنبية ولهم اتصالات دولية واسعة.


في أي المجالات استثمر اليهود أموالهم؟

نشط الرأسماليون اليهود في مجالات البنوك والشركات المالية والتأمينية، والزراعة والتجارة، والصناعات الغذائية وتطويرها والصناعات الكيماوية، واستخراج البترول وتوليد الكهرباء واستغلال أراضي البناء. ببساطة لم يترك الرأسماليون اليهود مجالًا يمكن أن يربحوا فيه قرشًا دون أن يدخلوه، مثلهم مثل أي رأسمالي آخر.

نورِد في هذا السياق نماذج من المجالات التي دخلها رأس المال اليهودي بقوة وأثر فيها:

-البنوك والشركات المالية:

أولى الرأسماليون اليهود اهتمامًا خاصًا بمجال البنوك والشركات المالية والائتمانية وأسسوا لهذا الغرض: البنك العقاري المصري «رأسمال 8 ملايين جنيه مصري»، البنك الأهلي المصري، البنك التجاري المصري، بنك موصيري، بنك سوارس، بنك زلخة، والبنك البلجيكي الدولي، بنك إيزاك ليون وأولاد إيلي حاييم يعبيس، الشركة المصرية لتوظيف الأموال والتسليف، الشركة المصرية المالية، شركة الشرق الأدنى المالية.

-المجال الزراعي:

أسهم كبار الرأسماليين اليهود بإنشاء العديد من شركات استصلاح الأراضي، مثل شركة وادي كوم امبو المساهمة لاستصلاح الأراضي وزراعة المحاصيل النقدية «70 ألف فدان»، وشركة مساهمة البحيرة -120 ألف فدان-وشركة الأراضي الغربية العقارية «7691 فدانا»، وشركة أراضي الشيخ فضل العقاري «8850 فدانا»، وشركة الاتحاد العقاري المصري «12.648 فدانا».

-مجال التجارة:

كانت تجارة القطن من الأعمال التجارية الرائجة والرابحة فجذبت إليها الرأسماليين اليهود الذين أسسوا عشرات الشركات لتصدير القطن وبيع الملابس، مثل: شركة التصديرات الشرقية «رأسمال 60 ألف جنيه»، شركة حليج الوجه القبلي «65 ألف جنيه»، شركة مكابس الإسكندرية، شركة الأقطان المتحدة بالإسكندرية، شركة محلات شملا الكبرى لتجارة الملابس «400 ألف جنيه»، شركة المحلات الصناعية للحرير والقطن «30 ألف جنيه»، شركة النسيج والحياكة «75 ألف جنيه»، شركة محلات شيكوريل «500 ألف جنيه».

-مجال الصناعة:

شركة عموم مصانع السكر والتكرير المصرية، شركة الملح والصودا المصرية، شركة ناسطور جاناكليس للسجاير، الصناعات الكيماوية الإمبراطورية الإنجليزية، مصنع سيجورات للمواسير والأعمدة والمصنوعات من الأسمنت المسلح، مصنع الطوب الأبيض الرملي، شركة توريد الكهرباء والثلج، الشركة العمومية للكهرباء والميكانيكا.

رغم النماذج المذكورة أعلاه، يظل الحديث عن حجم رأس المال اليهودي في الاقتصاد المصري عائمًا وغير واضح ومحدد ما لم يُربط بإحصائيات، وفي هذا يجب أن نشير إلى ثلث الشركات المصرية المسجلة في مصلحة الشركات كانت ملكًا ليهود «103 شركات من أصل 308»، حسبما أورد الدكتور عرفه عبده علي في كتابه «يهود مصر منذ الخروج الأول إلى الخروج الثاني». كما تولى مديرون يهود إدارة 15.4% من الشركات المصرية المدرجة في البورصة عام 1943، وانخفضت هذه النسبة إلى 8.9% عام 1951، حسبما ذكر جوئل بنين في كتابه «شتات اليهود المصريين».


ولكن..

جذب الوضع المتميز الذي حظيت به الجالية اليهودية في مصر مزيدًا من اليهود من مختلف أقطار الدولة العثمانية، وزادت الهجرة أكثر مع افتتاح قناة السويس

كما كل طائفة، كان بين اليهود فقراء كما كان بينهم أغنياء، وكانت الهوة بينهما شديدة الاتساع؛ فبينما كان أغلبية اليهود يقبعون في أوضاع مزرية بحارتهم في القاهرة وبأحواش الجعان والنجار والحنبقي ومنطقة سوق السمك في الإسكندرية، كان أثرياء الطائفة يعيشون مرفهين بقصورهم في أحياء مصر الجديدة والعباسية وعلى شواطئ الإسكندرية.

حجم التواجد اليهودي في الاقتصاد لا يتناسب مع نسبة اليهود من عدد سكان مصر، لكن جزءا كبيرا من رأس المال اليهودي كان وطنيًا، بدليل مشاركة رجال الأعمال اليهود في تأسيس الاقتصاد المصري

لم يكن عدد الأسر اليهودية الثرية، التي امتلكت ثلث الشركات المصرية وأسست البنوك والمصانع، يتجاوز العشرات. فبمراجعة أسماء أصحاب البنوك والشركات المالية والتجارية والمصانع، سيتضح أن جلهم من أفراد عائلات قطاوي وشيكوريل ومنشه وسوارس وموصيري ورولو وهراري وسموحة وعدة عائلات أخرى.

مما يعني أن الطائفة اليهودية لم تسيطر على الاقتصاد المصري ولكن عدة عائلات يهودية استغلت علاقاتها في الداخل والخارج والقوانين المحابية للأجانب وجنت ثروات طائلة مكنتها من التوسع أكثر وأكثر والسيطرة على جزء كبير من الاقتصاد المصري.

يعترف كل من جوئل بنين ومحمد أبو الغار، أن حجم التواجد اليهودي في الاقتصاد لا يتناسب مع نسبة اليهود من عدد سكان مصر، لكنهم يرون أن جزءا كبيرا من رأس المال اليهودي كان وطنيًا، ويدلل بنين على ذلك بمشاركة رجال الأعمال اليهود في تأسيس الاقتصاد المصري، جنبًا إلى جنب مع طلعت حرب، فيوسف أصلان قطاوي ويوسف شيكوريل كانا من المديرين المؤسسين لبنك مصر، وكان قطاوي نائبًا لرئيس مجلس إدارة البنك.

كما كان أغلب أثرياء يهود مصر من الرافضين للحركة الصهيونية خوفًا على أعمالهم التجارية في مصر، ويؤكد بنين أن جزءا كبيرا من صفوة اليهود استمر مقيمًا في مصر حتى عام 1956، أي بعد إعلان قيام إسرائيل بـ8 أعوام، مما يعني أنهم كانوا مرتبطين بشكل كبير بمصر التي حققوا فيها مكاسب مالية ضخمة، وحتى بعد خروجهم من مصر توجهوا إلى أوروبا وأمريكا وليس إلى إسرائيل.

يفضل بنين وأبو الغار وضع الأثرياء اليهود المصريين بين أقرانهم من الأثرياء المسيحيين والمسلمين، ومدهم على نفس الخط. كانوا يهودًا نعم، لكنهم كانوا مصريين أثروا كما أثرى غيرهم من الأجانب، بل والمسلمين والمسيحيين المصريين، وعبر نفس القوانين.

المراجع
  1. يهود مصر منذ الخروج الأول إلى الخروج الثاني، عرفه عبده علي.
  2. شتات اليهود المصريين، جوئل بنين.
  3. يهود مصر من الازدهار إلى الشتات، محمد أبو الغار.