في مايو من العام الماضي عُرض أحدث أفلام المخرج السويدي من أصل مصري طارق صالح، والمعنون «ولد من الجنة – Boy from Heaven»، للمرة الأولى ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي، الفيلم الذي حصد بعد ذلك جائزة أفضل سيناريو في كان، ثم أصبح مرشح السويد للأوسكار، مثل موضع إثارة جدل مستمر حتى اليوم. 

الفيلم الذي لم يتم عرضه في مصر، لا يزال يجوب العالم حاليًّا، فبعد مبيعات تخطت الـ ٥٠٠ ألف تذكرة في فرنسا، يبدأ عرض الفيلم في سينمات ألمانيا مع بداية شهر رمضان. 

الجدل بدأ من كان، حيث حقق الفيلم تقييمات إيجابية للغاية من لجنة تحكيم المهرجان ومن غالبية النقاد غير العرب، في حين استقبلنا التقييمات السلبية والقاسية للغاية من النقاد المصريين خصوصًا والعرب عمومًا واحدة تلو الأخرى. ثم استمر مع نجاح الفيلم جماهيريًّا ووصوله للقائمة القصيرة المرشحة للأوسكار.

هل نحن أمام فيلم جيد؟ هل هو فيلم مصنوع لمن لا يتحدثون العربية؟ والأهم هل يحق لطارق صالح الاستمرار في صناعة أفلام مستوحاة من أصوله المصرية؟

ولد على الطريق

يمكن اعتبار «ولد من الجنة» فيلم طريق، يبدأ طارق صالح فيلمه بشاب في أحد قرى مصر، ندرك أنها مصر من اللهجة، لكن لنعتبر أنك لا تعرف العربية، يبقى أمامك فتًى وعائلة تضم إلى جانبه أخين وأبًا، يعمل الفتى رفقة والده في صيد السمك، ثم يأتيه خطاب عبر مسجد قريته يهنئه على الالتحاق بالأزهر، المؤسسة التي يقدمها شيخ جامع القرية باختصار على أنها «منارة الإسلام في العالم». 

تبدأ رحلة آدم – يقوم بدوره توفيق برهوم – بشكل يمكن مقارنته باستقبال هاري بوتر لجواب التحاقه بمدرسة السحر في هوجورتس. تبدأ رحلة الطريق بآدم على متن أتوبيس السوبر جيت المتجه للقاهرة، يمر بمواقف متتالية منذ دخوله أبواب الأزهر وحتى خروجه منها في نهاية الفيلم وعودته بأتوبيس سوبر جيت آخر إلى قريته. ليلتقي مرة أخرى بشيخ الجامع ويسأله عما تعلمه في الأزهر. بين آدم وهو يصعد سلالم الأتوبيس في بداية الفيلم وآدم وهو ينزل السلالم عائدًا، يتغير الكثير، يخرج من عالمه لعالم آخر، ينضج تاركًا الطفولة وبراءتها إلى عالم ديستوبي يحكمه الرجال. 

ولد على الطريق في رحلة لاكتشاف نفسه، حينما تضع سيناريو طارق صالح على معيار أفلام الطريق ستجد أنه فيلم مكتوب بحرفية، سيناريو دائري يترك على سطحه نهاية مفتوحة، لكن في عمقه الحكاية مكتملة، هذا يفسر شعور الرضا لدى كثير من المتلقين عند نهاية الفيلم، وأيضًا يفسر قدرة الفيلم على تحقيق معادلة صعبة من الرضا الجماهيري في أوروبا، ومن الرضا النقدي الأوروبي أيضًا. 

يقول البعض على الرغم من ذلك إن تصنيف أفلام الطريق هو التصنيف الفيلمي الأكثر مرونة، لأنك يمكنك رؤية كل الحكايات في الدنيا على هيئة حكايات عن رحلات، بالمعنى الحرفي على الطريق، أو بالمعنى المجازي بالترحال من حدث لآخر ومن شعور لشعور آخر. 

رجلان ورحلة إيمان

إذا انتقلنا من الرحلة الحرفية لآدم لمستوى أعمق قليلًا وتتبعنا رحلة الفيلم الفكرية فسنجد أننا أمام رحلة رجلين مع ما يؤمنان به، آدم يبدأ رحلته بعيون مفتونة بالأزهر، بما يمكن أن يتعلمه عن دينه، وبحلمه بتحقيق أمل والدته ورجاء والده بأن يصبح عالمًا دينيًّا. على الجانب الآخر نتتبع رحلة العميد إبراهيم، رجل الشرطة الذي يؤدي دوره فارس فارس، إبراهيم يبدأ ظهوره في الفيلم كرجل مؤمن تمام الإيمان بما يفعله، بمحاولته تجنيد من يعمل معه لخدمة قضيته الوطنية، يتكرر بشكل كاريكتوري أيضًا في الخلفية ودون تعليق منه أوبريتات وطنية من الخمسينيات في المشاهد التي نتتبعه فيها داخل سيارته. 

مع مرور الوقت يتسرب الشك في رحلة كل منهما مع ما يؤمن به، لدرجة ربما تصل لتبدل هذا الإيمان في نهاية الفيلم. في الفصل الأخير من الفيلم يتحدث العميد إبراهيم إلى آدم قائلًا إن الله هو من اختاره لهذه الرحلة، ليجيب آدم: «لا، أنت من اختارني». 

أعتقد أن طارق صالح على الأغلب لم يشاهد تحفة داوود عبد السيد «أرض الخوف»، لكني وجدت نفسي مجبرًا على الربط بينهما هنا.  

لغز وجاسوس

لنحاول صنع العكس ورؤية الفيلم بشكل مكتمل من أعلى، تمامًا مثل كادره الشهير من أعلى مسجد السليمانية، والذي نرى فيه الطلاب والشيوخ بعمائمهم الحمراء، هذا فيلم Spy Thriller أو فيلم تشويق وجاسوسية، ما هو العنصر الأهم في أفلام التشويق والجاسوسية، الإجابة ببساطة الموقع ثم الموقع ثم الموقع، يختار طارق صالح هنا بعناية فائقة موقعه في مسجد السليمانية، التحفة المعمارية الإسلامية التي تعطي مشاهد الفيلم رونقًا بصريًّا وإحساسًا بالسفر إلى الماضي، يسمي صالح هذا المسجد بـ «الأزهر» الجامعة الدينية الأهم للإسلام السني في العالم، يضفي هذا الاسم تشويقًا خاصًّا داخل أحداث الفيلم، حتى لو كان مسجد السليمانية لا يشبه الأزهر معماريًّا على الإطلاق. 

ما العنصر الثاني الأهم في صناعة فيلم جاسوسية ناجح؟ أن يكون بطلك مثيرًا للتعاطف على الأقل في بداية الحكاية، لا مكان للتشويق إن لم تكن خائفًا على حياة بطل الحكاية، العنصر الثالث هم خصوم وأعداء لديهم دافع يمكن تصديقه، وما يمكن تصديقه أكثر من الدفاع عن الوطن أو عن الدين، هؤلاء خصوم بطلنا وأصدقاؤه طوال أحداث الفيلم. 

إذن الفيلم يصلح تمامًا في هذا التصنيف أيضًا، أو كما يقول الألمان حينما يصفون شيئًا جيد الصنع، إن نظرت له من أي اتجاه فستراه دائريًّا. هكذا ربما حصل الفيلم على اسم جديد في دور العرض الفرنسية والألمانية، حيث تم عرضه باسم Cairo Conspiracy.

الحق في الخيال – أيضًا على مستوى اللغة

لدينا فيلم ممتع على مستوى المشاهدة، ولا دليل موضوعيًّا على ذلك خير من مئات الآلاف من تذاكر السينما في جميع أنحاء أوروبا،  يصلح كفيلم طريق وكرحلة نفسية وأيضًا كفيلم تشويق وجاسوسية، ما الأزمة إذن؟ وأين موضع الجدل؟

الأزمة أن البعض يراه كوثيقة تاريخية أو عمل توثيقي أو تسجيلي، وهو بالطبع لا يصلح لأي من هذا، نسخة طارق صالح من مصر ومن الأزهر ومن المصريين الذين نراهم في الفيلم مشوهة بالطبع، لكن هكذا هو الخيال، نتعلم في علم النفس أننا لا نتذكر الحقيقة مطلقًا، ذاكرتنا تتأثر بمشاعرنا في اللحظة التي نستدعي فيها الذكرى، وبالتالي فكل ذكرياتنا مشوهة، إذا سألتك في هذه اللحظة أن تصف مصر فلن تصف الحقيقة المطلقة، لكنك ستصف وجهة نظرك ومشاعرك، وإن سألتك أن تصف صيف العام الماضي فلن تصف الواقع، ولكنك ستخبرني عن نسختك من الحكاية. 

تلمسك بعض تفاصيل الفيلم مصريًّا، تقترب منك شخصيًّا مثلًا مع رؤيتك لأب يشم رائحة السجائر في يد أحد أبنائه فيضربه بالعصا، لكنه يقبل رأسه في مشهد آخر ويخبره أنه يحبه، قد لا يفهم المشاهد الغربي هذا ويرى الأب ذكرًا شرقيًّا عنيفًا وقاسيًا، لكنك وإن رفضت هذا على مستوى الأفكار فإنك تتفهم هذا النموذج من الآباء المصريين الذي يحب أبناءه صدقًا، لكنه تعلم أن هذه الطريقة الوحيدة لتربيتهم. تفاصيل أخرى تبدو بالنسبة لك غير واقعية على الإطلاق.

لا معنى إذن لمحاولة تتبع أحداث الفيلم بعدسة الواقع المكبرة، أو بعدسة وجهة نظرك عن الواقع، أو بتتبع لهجات من يقومون بأداور مصريين في فيلم لم يُسمح له بالتصوير في مصر، انسَ كل هذا، اعتبر أن الفيلم يدور في تركيا بالتركية، وأن ما تفهمه من الحوار صدفة، أو شاهد نسخة مدبلجة بالتركية، أو اعتبره عن كنيسة في مكان ناءٍ في شرق أوروبا، أو اعتبره في عالم خيالي. يبقى فيه ما يلمسك إنسانيًّا.

لطارق صالح إذن الحق في تشكيل حكاية خيالية تحوي ذكريات وأضغاث أحلام وصورًا مشوهة، يبدو الرجل في حقيقة الأمر مدركًا لهذا من خلال استدعاء ممثل يشبه تمامًا أحد أشهر  وزراء عصر مبارك، ثم وضعه في غير موضعه في أحداث تبدو في عصر تالٍ لعصره، يبدو كما لو أنك تشاهد تشرشل في دور وزير الزراعة في حكومة بوريس جونسون، هذه النسخة المشوهة عن نفسك قد تكون غير مريحة لك إن شاهدتها على الشاشة الكبيرة، ستصرخ بالطبع قائلًا: أنا لا أبدو هكذا! لكن هذا الخيال اللاهي هو ما يصنع الحكايات.