مُتسرب من التعليم، ماسح الأحذية، بائع الفول وهو ابن العاشرة في العام 1955. صبي في محطة وقود، بائع خضروات، ميكانيكي لإصلاح السيارات، لا داعي هنا للإشارة أنه منحدر من أسرة ريفية فقيرة. قضى شبابه عاملًا في مصنع للصلب، فقد إصبعه في حادث عمل، ثم فقد زوجته الأولى لصالح المرض الكبدي. حوادث تراكمت لتلقي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في العمل النقابي والسياسي.

في إحدى مدارس البرازيل الثانوية عام 1964، طالبةٌ لأب محامٍ وربة منزل. بينما تشهد العاصمة انقلابًا عسكريًا بقيادة جواو غولارات على الحكومة اليسارية. تنضج الطالبة على كره النفوذ العسكري، وعشق الأفكار الماركسية. لتعرف كيفية تطبيق أحلامها تدرس الاقتصاد وتحصل على شهادتها فيه عام 1977. لم تكن الشهادة دليلًا على تفوق دراسي فحسب، بل كانت دليل أن الطالبة الحالمة قد تحولت إلى المرأة الحديدية ديلما روسيف.

في العام 1975 يصبح دا سيلفا رئيسًا لاتحاد عمال الصلب الذي يضم أكثر من 100 ألف شخص. لم يتباطأ دا سليفا في وضع صبغته على الاتحاد صديق الحكومة، ليحوله إلى حركة مستقلة قوية الأثر. حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن لمدة 3 سنوات بعد خطبه المُحرضة ضدها، لكن أُطلق سراحه عام 1982 ليبدأ الرجل مسيرةً لا تتوقف نحو رئاسة البرازيل بتأسيس حزب العمال.

عامان في المعتقل تحت التعذيب بين 1970 و 1972 كافيان لتضع روسيف يدها على حلمها وتُدرك جيدًا ما هدفها في البرازيل. ثلاث سنوات بعد تخرجها من الجامعة، روسيف تشارك بقوة في إعادة تأسيس الحزب العمالي الديموقراطي المُعارض، ثم عام 1986 تلتحق بحزب العمال وتختارُ الانتماء للتيار المعتدل فيه. من حزب العمال استكملت دفاعها عن المواطنين الذين تعرضوا للاضطهاد من الحكومة.


لقاء الأبطال

أسس دا سيلفا أول حزب اشتراكي في تاريخ البرازيل،حزب العمال. ومن خلال الحزب وصل دا سليفا إلى سدة الحكم ليصبح أول رئيس في تاريخ البرازيل من صفوف الطبقة العاملة المقهورة والكادحة. لذا لا غرابة أن تؤدي سياساته خلال الولايتين إلى خفض نسبة الفقر وتقليل نسبة البطالة. فبعد أن كانت البرازيل على حافة الهاوية، أصبحت تمتلك فائضًا يتجاوز الـ 200 مليار دولار، وأقل دول العالم الثالث غلاءً، وثامن أكبر اقتصاد على مستوى العالم، وخرج أكثر من 20 مليون شخص من تحت خط الفقر.

الحزب هو نقطة تقاطع بطلي مقالتنا، وبطلي التاريخ الحديث للبرازيل، لكنه لم يكن نهاية التعاون. عامان كـ وزيرة للطاقة في حكومته من 2003 حتى 2005، ثم كُلفت بتشكيل الحكومة بعد استقالة الكثير بسبب فضيحة الفساد. بجانب هذا كانت وزيرة الرئاسة لمدة 5 سنوات، كما كانت رئيسة عملاقة النفط البرازيلية «بتروبراس». لا مزيد من الأدوار الثانوية، تقفز روسيف إلى انتخابات الرئاسة عام 2010. قفزة موفقة إذ فازت بنسبة 58% على منافسها جوزي سيرا، وفي يناير/ كانون الثاني 2011 تسلمت المنصب رسميًا لتكون أول امرأة تتولى هذا المنصب.

ناضلت قبل عشرين سنة، ودخلت السجن لمنع الرؤساء من أن يبقوا في الحكم أطول من المدة القانونية. كيف أسمح لنفسى أن أفعل ذلك الآن؟
لولا دا سليفا، رئيس البرازيل الأسبق

كذلك لم يكن اجتماعهما في الحزب مكانيًا فقط، بل تلاقت أفكارهما تمامًا. هي الأخرى لا تؤمن بالفقر أو الفساد، ترى ضرورة الإصلاح السياسي والاقتصادي. تريد لبقية الشعوب ما تريد لشعبها، فحاربت التدخل الخارجي في شئون أي دولة. دافعت عن حقوق الإنسان حتى حين تعلق الأمر بإسرائيل، سحبت سفير بلادها من تل أبيب اعتراضًا على الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، كما انتقدت صراحةً الموقف الدولي من اللاجئين السوريين.

كما قضت فترةً رئاسيةً جيدةً في مجملها، إلا أن رفع تذاكر النقل العام أثار غضبًا مجتمعيًا في وقت غير مناسب، إذ كان القرار قبل شهور من انتخابات الولاية الثانية. لكن دعوتها إلى استفتاء شعبي تتشكل على أساسه جمعية تتولى تحقيق إصلاح سياسي، هدأت من حدة العامة ففازت بولايتها الثانية عام 2014.


الإصلاح نهايته السجن

أغسطس/ آب 2018، زنزانة تم إعدادها خصيصًا للزعيم الأكثر تاثيرًا في العالم، يدخلها مجبرًا بعد أن سلم نفسه للشرطة عقب خروجه من مبنى لاتحاد عمال الصلب تحصن فيه. فالمحكمة رأت أنه لا يمكن لـ «دا سليفا» أن يبقى طليقًا لحين البت في القضايا الموجهة إليه كما طلب. إذا كنت تواجه حكمًا بالسجن 12 عامًا، فمن المفيد أن تُسجن مبكرًا للتأقلم على ظروف السجن. خاصةً إذا كنت رئيسًا للبرازيل لمدة ولايتين متتاليتين، والأخص إذا كان بقاؤك خارجًا مزعجًا لأصحاب نفوذ أكبر من الرئيس.

اقرأ أيضًا:انتخابات ضد السياسة: هل ماتت التجربة البرازيلية؟

لولا أكثر شعبية مني، إنه أكثر شعبية من كل الكرة الأرضية.
باراك أوباما، الرئيس الأمريكي السابق

أغسطس/ آب 2016، صدر قرار غير مفاجئ من مجلس الشيوخ بعزل روسيف بأغلبية الثلثين بعد مناقشات استمرت أيامًا عدة، خطبت فيهم روسيف مطالبةً إياهم بتحكيم ضمائرهم عند التصويت. بداية القصة أنها بعد أن تجاوزت عاصفة الاحتجاجات الشعبية بشق الأنفس اصطدمت بإعصار المحكمة الانتخابية العليا في البرازيل عام 2015. أولًا تلقت تهديدًا بالعزل إثر اتهامات بالفساد المالي في حملتها الانتخابية بعد فضحية مالية طالت بتروبراس، ثم تجريد من الحكم لمدة ستة أشهر لحين القطع في الاتهامات، نتيجةٌ طبيعيةٌ لتصويت 55 عضوًا من مجلس الشيوخ لصالح إحالتها للمحاكمة في مقابل 22 عضوًا فقط رأوا براءتها.

حل ميشال تامر محلها، بينما يحاكمها قضاة متهمون بجرائم أشد من جريمتها. والآن، بعد عامين من عزلها تحاول في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 الوصول إلى مجلس الشيوخ كمربعٍ أول في انطلاقتها للعودة إلى قلب الحياة السياسية. في مشهد حزين دائمًا ما تنفي روسيف صاحبة المركز السابع في تصنيف أكثر النساء تأثيرًا لعام 2015، والمركز السابع والثلاثين لأكثر امرأة مؤثرة في العالم، كل ما نُسب إليها. تفسيرها لما حدث كان جريئًا، انقلاب ناعم على الديموقراطية البرازيلية هدفه حماية مصالح النخبة الاقتصادية.

سبقها دا سليفا قائلًا إن الاحتمال الأكبر وراء الاتهامات الموجهة إليه هو لعبةٌ سياسية هدفها منع والد الأبناء الخمسة من الترشح لولاية رئاسية ثالثة من المفترض أن تُجرى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، واستطلاعات الرأي جميعًا تخبرنا أنه لو فعل لفاز بسهولة. فما فعله منذ توليه الرئاسة عام 2002 وحتى خروجه منها عام 2011 كفيل بإقناع البرازيليين أنهم كانوا مخطئين بشدة حين لم يلتفتوا إليه في محاولاته الأربع السابقة للوصول إلى الحكم قبل عام 2002، وهم حاليًا على استعدادٍ للاغتسال من هذه الخطيئة.


الفساد يهزم السرطان

التهم تقول إن الرئيس يمتلك ثلاث شقق وقطعة أرض وسيارتين وحسابين مصرفيين فيهما 190 ألف دولار. أوراق القضية تقول إن إحدى هذه الشقق حصل عليها الرئيس بسبب تسهيل حصول شركة أواس الهندسية على عقد مع شركة النفط الحكومية بتروابراس. الحكم في القضية السابقة قد صدر بالفعل بالسجن لمدة تسع سنوات ونصف، ويتبقى 5 قضايا أخرى لم يُبت فيها. لكن في الأول من سبتمبر/ أيلول 2018 أصدرت المحكمة الانتخابية العليا بأغلبية 4 أصوات من أصل 7 قرارها بإبطال ترشح لولا دا سليفا للانتخابات.

وبعد أسبوعين أصدر دا سيلفا بيانًا يعلن فيه أنه لن يخوض الانتخابات، ويدعو أنصاره إلى الالتفاف حول رفيقه فرناندو حداد، لبناني الأصل. القرار جاء بعد أن رفضت المحكمة العليا طلب لجنة دفاعه بتمديد فترة تسجيل المرشحين حتى 17 سبتمبر/ أيلول، ما اضطرهم إلى الاستسلام لخروج دا سيلفا، وقبول حداد رئيس بلدية ساو باولو وصاحب الأداء الضعيف في استطلاعات الرأي حتى الآن. ويواجه هو الآخر تعقيدات قانونية بسبب اتهامه بالتربح من شركة بناء «أوديبريخت» بشكل غير قانوني بعد توليه ساو باولو.

دأب الناس على تشبيه الفساد بالسرطان، لكن ما حدث معهما كان أشد ضراوةً من السرطان. حاربت روسيف السرطان عام 2009 فهزمته، لكن نفوذ أعدائها هزمها. ودا سيلفا حارب سرطان الرئة في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 وهزمه، لكن نفوذ أعدائه هزمه هو الآخر.


لص لكن ناجح

بقول المثل البرازيلي «إنه لص لكنه ناجح»، فالشعب لم يعد يتفاجأ من ظهور تهم فساد على مسئول أو رئيس. فما اعتاده البرازيليون أن الفساد من ضرورات وجود الحكومة، لذا فلا يمكن مقارنة الأمر بأي دولة أوروبية تنسف فيها اتهامات الفساد مصداقية المُرشح الرئاسي. الأمر شعبيًا سواء، ثبتت الاتهامات على الاثنين أم لم تثبت، لكنهم يعلمون أن فساد الرئيس القادم سيطول طعامهم ومصدر رزقهم ومؤسسات الدولة الخدمية التي يعتمدون عليها.

ما قوى ذلك الظن هو تأكيد الجنرال إدواردو فيلاس قائد الجيش البرازيلي أن أي دعوة خارجية للسماح لـ «دا سليفا» بالترشح هي محاولة لتقويض سيادة الدولة. فهم يرون أن تلك المحاولات المستميتة لمنع استمرار روسيف وعودة دا سليفا ستعود بالبرازيل إلى «العقد الضائع»، اللقب الذي أطلقه البرازيليون على الفترة من عام 1980 حتى وصول دا سليفا لما شهده من تضخم وفقر وبطالة.